مراكز القوى في العراق تتمحور حول ثلاث ، المحور الأول المرجعية الشيعية ، والمحور الثاني الاحزاب والقوى السياسية ، أما الثالث فهي العشائر .
هذه المراكز جميعها بين شد و جذب بيني و شد و جذب داخلي . فمرجعية النجف هي غير مرجعية قم ، سواء بالمنظومة الفكرية أو بالمجال التطبيقي ، قد اكتفت بدور الرقيب على مجمل الحياة السياسية وان كانت في بعض الاحيان تمارس دور الواعظ الناصح ليس الا وهذا ما تفرضه عليها نظريتها الفكرية المكبلة بها .
دور المرجعية هذا قابل للتغير في حال تغيير الشخوص ، حينئذ لن تكتفي بدور الواعظ الناصح ، وهذه العتبة ممكن أن تصل اليها عندما تتعرض سوريا الى هزة حقيقية .
المحور الثاني الاحزاب والقوى السياسية ، وهو المحور الذي أرتبطت به معظم احداث البلاد حتى الآن ، هذه القوى التي تشكلت منها السلطتين التشريعية والتنفيذية والى حد ما السلطة القضائية ، هذه القوى السياسية قد ابتلعت الطعم الأمريكي فأصبحت بأسم الديمقراطية تسير في فلك حكم الأضداد ، الطعم الأمريكي هذا قد أفرز طائفية القوى السياسية ليترسخ الأساس الأول لهذا الفخ في العراق . فالمشروع الأمريكي قد توضحت ملامحه أكثر وأكثر وان كنا قد أشرنا له في مقال سابق قبل ما يقارب العام تحت عنوان ( سايكس بيكو والمهدي المنتظر ) . فلقد بدا واضحا للعيان أن مشروع أمريكا قد تبلور في ايصال الاحزاب السلفية لتحكم الجزء الأكبر من منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي مثلما لاحظناه في مصر وقبلها في ليبيا وتونس والمغرب والسودان ومثلما سيحصل في سوريا العصية على المشروع ، يقابلها حكم الأحزاب الشيعية في الجزء الآخر من هذه المنطقة مشتملا على العراق وجزء من سوريا والجزء الأكبر من الجانب الشرقي للجزيرة العربية و دول الخليج العربي ، في انتظار ساعة الصفر لاشعال فتيل الصدام بين دول المنطقة .
سوريا عصية حتى الآن على المشروع الأمريكي ، أو بالأحرى أن أمريكا هي من تريد لسوريا أن تكون بهذا العصيان ، فهي تريد لها أن تلعب دور رأس الرمح الشيعي في مقابل الخندق الآخر ، لهذا ترسخت بعد ما يقارب العام من الأزمة السورية فكرة امكانية شقها الى نصفين ، النصف العلوي الذي سيتمركز بدولته الجديدة في اللاذقية و طرطوس وما حواليها والنصف الأخواني الاسلامي الذي سيؤسس دولته في ما تبقى من سوريا ، وهكذا تأخذ سوريا مرة أخرى دور المواجهة في الصراع المرتقب بين حكم الاحزاب الاسلامية في المنطقة مثلما أخذت هذا الدور كدولة مواجهة عبر تأريخها ضد اسرائيل .
اذن هذا المحور يرتبط بالأساس بمشروع الشرق الاوسط الكبير البديل عن مشروع دولة اسرائيل الكبرى .
العراق في قلب الأحداث ، بل أن الصفحة الأولى من الملف الأمريكي قد أبتدات به ، فالمشروع كله قائم على فكرة بسيطة تتلخص في تأسيس ضابط جديد يربط أجزاء الشرق الاوسط والوطن العربي بهوية اسلامية بديلة عن الهوية القومية ….
لذلك لم ولن يكون هنالك وجودا مؤثرا للأحزاب غير الأسلامية في الساحة العراقية ، هكذا يتطلب المشروع ……… فأما أن تكون اسلاميا بشقيه الشيعي والسني ليكون مقود الحركة السياسية بيدك و اما لا … هذا هو الموجود فأمريكا صنعت نواة مشروعها في العراق لتعممه على المنطقة من خلال خلقها قطبين عراقيين في العشر سنوات المنصرمة ، قطب الأحزاب الأسلامية برمزية المالكي ، وقطب القوى غير الأسلامية برمزية علاوي وأدخلت الطرفين في حرب استنزاف وهي تعلم تماما بتلاشي قدرات القوى غير الاسلامية بمرور الوقت بالآليات التي وضعتها هي الى حد أن تركن تلك القوى غير الاسلامية على الرف وهذا ما حصل حتى الآن ….
المالكي كسياسي غير المالكي كرأس للدولة ، فعلى الرغم من أنه قد ادرك حقيقة مشروع امريكا وعلى الرغم من ادارته لتلك القضية المركبة المعقدة بدرجة معينة من النجاح حتى الآن ، الا انه لا زال في وضع لا يحسد عليه ، فهو من جانب ملتزم بما ينتهجه حزب الدعوة الاسلامي الذي وجد نفسه في خندق الأحزاب الاسلامية الحاكمة للمنطقة ، وبالتالي أصبح من حيث لا يشعر جزءا من بودقة الصراع المرتقب الذي تريده أمريكا ، صراع الاحزاب الشيعية الحاكمة مع الأحزاب السلفية الحاكمة في الشرق الأوسط والوطن العربي ، وهذا يفرض عليه أي على المالكي أن يكون طرفا رئيسيا في ذلك . أما المالكي كرأس الدولة فانه حتى هذه اللحظة قد سحب البساط من تحت أقدام المشروع الامريكي و أعاد نسجه على وفق ما يريده هو لا أمريكا . فعل ذلك عندما أعاد رسم خارطة ارتباط العراق بدول المنطقة تحت عنوان الهوية العربية لا الاسلامية ربطا محكما ، فالمشروع الأمريكي كما أسلفنا يريد للمنطقة ان يكون الضابط لعلاقات دولها بعضها مع بعض اسلاميا لا قوميا ، المالكي تنبه لذلك ، وبحركة ذكية جدا منه عمل على تغيير هوية الضابط الى الهوية العربية ليتفادى لحظات الصدام المرتقب بين الأحزاب السلفية والشيعية الماسكة للسلطة في بلدانها ، على الرغم من أن النهج والمنظومة الفكرية لحزب الدعوة بعيدة عن النهج القومي .
كان على علاوي أن ينتبه هو الآخر الى تلك اللعبة الأمريكية التي ستجر المنطقة الى الهلاك ، الا أنه لم يتسامى على خلافاته الفكرية مع النهج الاسلامي ، وبدلا من أن يكون طرفا داعما لتدعيم الآصرة القومية العربية ، ظل علاوي متمسكا بفرية الصراع الاسلامي الليبرالي .
على علاوي اذن أن يعي تماما أن اصراره على ادامة الصراع بينه وبين المالكي تحت هوية الصراع الاسلامي الليبرالي لا يمثل الا حلقة من حلقات المشروع الأمريكي لأن ذلك يعطي المبررات لأمريكا في تعميم تجربة الصراعات الاسلامية المحلية وتحويلها الى كرة ثلج تعم المنطقة بأسرها .
كذلك فان سطوة الأخوان المسلمين على القرار في القائمة العراقية على الرغم من قلة عددهم وهم ليس أمامهم سوى صب الزيت على النار لتعشيق تلاحمهم مع الحركة السلطوية للأخوان المسلمين والتي أخذت تتسع مساحاتها خصوصا بعد فوز مرسي في انتخابات الرئاسة المصرية ، وتسليم أمور القائمة بيد مراهقيها السياسيين وانحدارها الى الطائفية المقيتة عندما مارست هي بعينها اقصاء وتهميش من ينتمي الى الطائفة الشيعية ممن غرر بهم وانضموا اليها تحت عنوان المشروع الوطني و رسمت لنفسها دور الحمل الوديع و صورت لجماهيرها انها المدافع الباسل عن حقوق السنة العرب حتى انكشف زيف شعاراتها أمام الأبله والبليد ، كل ذلك قد سلب ارادة علاوي وجعله عاملا معرقلا رئيسيا للحركة المضادة للمشروع الأمريكي .
السيد الصدر تم اقحامه في معترك الصراع تحت عنوان سحب الثقة ، الا أنه تنبه أخيرا بعد أن فهم أن عملية سحب الثقة ما هي الا واحدة من حلقات المشروع الأمريكي ، لقد فهم أن دعمه المشترك مع المالكي لسوريا هو الذي دعا أمريكا لتثير قضية سحب الثقة من أجل دق أسفين بينهما ، حيث أن ديمومة الدعم هذا لسوريا سيؤخر أو يعرقل المشروع للمنطقة ولهذا وبسبب الاصرار العراقي الداعم لسوريا والذي مثلاه الدعم الرسمي الحكومي للطالباني والمالكي والدعم الشعبي الشيعي للسيد الصدر ، فان أمريكا قد تحولت الى الخطة باء في ملفها السوري فأخذت تراهن الآن على تقسيم سوريا الى دولة علوية في الشمال و دولة الاخوان في الجزء المتبقي من سوريا وهو بكل الاحوال لن يخرج من ملف مشروعها الكبير طالما أنه سيرسخ لسلطات اسلامية حاكمة متناقضة ومتقاطعة في هذا البلد العربي ، قد تمثل الشرارة الأولى للصراع المرتقب .
السيد الحكيم كان تعامله مع الأزمة المفتعلة على الرغم من جهره علانية وفي أكثر من مناسبة عن عدم رضاه عن الاداء الحكومي ضمن جبهة اجهاض المشروع الامريكي عن طريق سلوكه المسار القومي وارساء أسس التعاون والتنسيق مع الدول العربية على الرغم من تقاطعه آيديولوجيا مع هذا النهج ، وفي نفس الوقت هو في جبهة اصلاح الوضع الداخلي للبلاد .
أما الكرد فمهما أبدوا من مواقف ، فان حراكهم معلوم ووجهتهم غير سرية وهم يعرفون ماذا يعملون ، قد يحدث انقسام في التحالف الستراتيجي الكردستاني ، وقد يكون موقف الطالباني من الأزمة حديديا صلبا غير قابل للضغط أو الابتزاز حتى وان لامس ذلك قضيته الكردية المقدسة كما يراها هو ، ولكن تبقى المصالح الكردية فوق كل اعتبار …..
هم الآن في طور انشاء دولتهم الكبرى ونواتها كردستان العراق ، لذلك وبما أنهم يعرفون أسرار اللعبة ، ويعلمون بحتمية الصراع الديني المرتقب مما دفعهم لأن يستعجلوا بالدخول في الأزمة الداخلية هذه المرة كطرف وليس حكم مثلما هي العادة ، دخلوها من أجل أن يرسخوا بعمق كرديتهم ، أي قوميتهم ، حتى يكونوا بمنأى عن أي صراع ديني مذهبي .
السلطة التشريعية رهينة و نوابها رهائن ، فهم يسيرون وفقا لما يوجهه بهم رؤساء كتلهم ، هم رهائن كذلك لسيف القضاء المسلط على رقابهم في أية لحظة بسبب أو بدون سبب ، فلا أثر لهم ولا تأثير غير ظهورهم التلفزيوني أسوة بالمذيعين .
اما السلطة التنفيذية فهي لا تقل شأنا عن السلطة التشريعية من حيث سوء الأداء ، فلا تجانس حكومي وهو المعيار الأول في نجاح أية حكومة ، ولا مهنية في رؤوس وزاراتها ، فليس من بين وزرائها الا خمسة هم من المختصين بشؤون وزاراتهم ، أما أجهزتها الأمنية فحدث ولا حرج ، فاذا عرجنا على أهم جهاز أمني وهو جهاز المخابرات لرأينا فيه العجب العجاب ، فمثلما هو معلوم للقاصي والداني أن مهام جهاز المخابرات تأمين أمن البلاد من أي خطر خارجي ، وهنا نسأل ماالذي فعل رئيسه لضمان أمن البلاد ؟ ولا وجود لخطة تنموية تؤملنا بالنهوض بالبلد ، وكل ما هنالك اقتصاد ريعي أحادي الجانب ، فلا شيء لدينا غير النفط ، نفط يستخرج بعد أن هيمنت عليه الشركات الامريكية بشكل مطلق ، فلا وجود لشركة نفطية أجنبية في العراق سواء كانت أوروبية أو ماليزية أو كورية جنوبية الا وكانت لأمريكا أسهم فيها وهكذا هي ثروات البلاد تستخرج لتباع بنصف قيمتها ، ومن نصف قيمتها تلك يأكل الشعب العراقي .
رئتا العراق النهرين قد أصبحا في خبر كان واليوم الذي سوف تجف فيه مياه النهرين قريب ، فلا سياسة مائية ناجحة ولا علاقات متوازنة مع الدول المتشاطئة وقد يأتي اليوم الذي تتحقق فيه مقولة توركوت أوزال رئيس تركيا حينما قال ( سأجعل من برميل النفط العراقي مساويا لبرميل الماء التركي ) .
المالكي اذن في وسط هذه الدوامة لن يستطيع ادامة نجاحاته بافشال المشروع الأمريكي وهذا ماتعمل عليه أمريكا فهي مواظبة في اشغاله بكل الوسائل التي تضطره كرئيس دولة أولا وهو المهم وكسياسي ثانيا من تغيير مساراته القومية والعودة به الى حاضنة الصراعات الاسلامية .
المحور الثالث الذي يبدو أن الدولة العراقية ستتمركز حوله بعد فشل القوى السياسية هي العشائر ، فالبلاد الآن و بعد أن أوصلتها تلك القوى الى حافة التشرذم والانقسام ، ليس أمامها سوى الاستعانة بصمام أمانها التقليدي والطبيعي ، العشائر ……. وهذا هو المصير الطبيعي لدولة تريد الحفاظ على كيانها ، فالعشيرة تنظيم رصين متماسك متجذر لمئات السنين متمسك بأرضه حد الموت ، وهذه الصفة غير موجودة في الأحزاب والقوى السياسية . قد يكون هذا خارج حسابات الأمريكان ، فأمريكا تريد هيمنة الاحزاب الأسلامية على العراق ، ولكن ان ظهرت العشائر وهذا ما يبدو حتى الآن كتنظيمات بديلة للقوى السياسية ، فان أمريكا ستحتاج الى قدرات هائلة لتمسك بخيوط العشائر وذلك بسبب اتساع مدياتها و تعدد أطرافها و كثافتها بالمقارنة مع الاحزاب الاسلامية ، ناهيك عن أنه لا ولاء للعشائر الا ولاء الوطن .
سيكون ظهور العشائر كتنظيمات سواء كان على شكل امارة أو أئتلاف قبائل ، تمتلك ارادة القرار بمثابة عبوة ناسفة للمشروع الأمريكي ومن العيار الثقيل .
فالتاريخ ليس ببعيد عن دور العشائر في استقلال العراق ، فلا تنظيمات سياسية ولا أحزاب أو حركات كانت مؤثرة في عهد الاستعمار البريطاني ، ولكن هذا الاستعمار أذعن لمطالب الثوار من عشائر العراق عام 1920 و تأسست على ضوء ذلك الدولة العراقية … اذن العشائر هي من أسست الدولة وليست الأحزاب والقوى السياسية .
ما نراه اليوم في تجمعات عشائر العراق سواء في جنوبه أو وسطه أو شماله هو اعادة تنظيم للحركة السياسية الاجتماعية ، فهي لن تثق بعد اليوم بساسة البلاد ، ولهذا فان الميل الآن باتجاه ضخ العشيرة لأبناءها في معترك الحياة السياسية على أساس أنها هي من تكون حاضنته و مرجعيته ، لا حزبه ، كضمان لولاء السياسي لبلاده ، لا لنفسه أو لحزبه .