استهلال:
” الديمقراطية ليست نظامًا سياسيًا بدون صراعات ، بل نظامًا تكون فيه النزاعات مفتوحة وقابلة للتفاوض وفقًا لقواعد التحكيم المعروفة. في مجتمع يزداد تعقيدًا ، لن تتضاءل النزاعات من حيث العدد والجاذبية ، بل ستتضاعف وتتعمق”[1]. بول ريكور، قراءات1، حول السياسي، طبعة سوي، ص166.
من المتعارف عليه أن السياسة بالمعنى الواسع تشير إلى سمة الحياة المشتركة عند مجموعة من الناس التنظيم العقلاني للعلاقات بينهم، وأول ما ظهر اللفظ هو متعلق بالاقتصاد السياسي. أما المعنى الاصطلاحي للسياسة فيشير إلى الدولة والحكومة بالتعارض مع الظواهر الاقتصادية والمسائل الاجتماعية سواء تعلق الأمر بالعدالة والإدارة أو بالأنشطة المدنية للحياة مثل التعليم والثقافة والبحث العلمي والدفاع الوطني. كما ان السياسة الجيدة هي التنظيم العقلاني للعلاقات بين الأفراد وتحييد العنف وتفادي النزاعات.
الديمقراطية هي نظام سياسي تنتمي فيه السيادة إلى الإرادة مجموع المواطنين أي إلى الإرادة الشعبية.
لكن ماذا نعني بالدولة؟ هل تتأسس على السيادة أم على المواطنة؟ وكيف يتحقق التلازم الضروري بينهما؟
1- مفهوم الدولة:
في الواقع الدولة هي مجموعة من الافراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد ويخضعون لنظام سياسي معين يتولى تدبير شؤونهم ، وتشرف الدولة على انشطة سياسية واقتصادية واجتماعية التي تهدف إلى تقدمها وازدهارها وتحسين مستوى حياة الافراد فيها، وينقسم العالم إلى مجموعة كبيرة من الدول, وان اختلفت اشكالها وانظمتها السياسية. علاوة على ذلك الدولة هي تجمع سياسي يؤسس كيانا ذا اختصاص سيادي في نطاق إقليمي محدد ويمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائمة.وبالتالي فإن العناصر الأساسية لأي دولة هي الحكومة والشعب والإقليم، بالإضافة إلى السيادة و الاعتراف بهذه الدولة، بما يكسبها الشخصية القانونية الدولية، ويمكنها من ممارسة اختصاصات السيادة لاسيما الخارجية منها. وتتسم الدولة بخمس خصائص أساسية تميزها عن المؤسسات الأخرى :
1- ممارسة السيادة : فالدولة هي صاحبة القوة العليا غير المقيدة في المجتمع، وهي بهذا تعلو فوق أية تنظيمات أو جماعات أخرى داخل الدولة.وقد دفع ذلك توماس هوبز إلى وصف الدولة بالتنين البحري أو الوحش الضخم.
2- الطابع العام لمؤسسات الدولة: وذلك على خلاف المؤسسات الخاصة للمجتمع المدني.فأجهزة الدولة مسئولة عن صياغة القرارات العامة الجمعية وتنفيذها في المجتمع.ولذلك تحصل هذه الأجهزة على تمويلها من المواطنين.
3- التعبير عن الشرعية : فعادة (وليس بالضرورة دائما) ما ينظر إلى قرارات الدولة بوصفها ملزمة للمواطنين حيث يفترض أن تعبر هذه القرارات عن المصالح الأكثر أهمية للمجتمع.
4- الدولة أداة للهيمنة : حيث تملك الدولة قوة الإرغام لضمان الالتزام بقوانينها، ومعاقبة المخالفين. ويُبرز ماكس فيبر أن الدولة تحتكر وسائل “العنف الشرعي” في المجتمع.
5- الطابع “الإقليمي” للدولة: فالدولة تجمع إقليمي مرتبط بإقليم جغرافي ذي حدود معينة تمارس عليه الدولة اختصاصاتها. كما أن هذا التجمع الإقليمي يعامل كوحدة مستقلة في السياسة الدولية.
ينبغي التمييز بين الدولة والحكومة، رغم أن المفهومين يستخدمان بالتناوب كمترادفات في كثير من الأحيان. فمفهوم الدولة أكثر اتساعا من الحكومة.حيث أن الدولة كيان شامل يتضمن جميع مؤسسات المجال العام وكل أعضاء المجتمع بوصفهم مواطنين، وهو ما يعني أن الحكومة ليست إلا جزءا من الدولة. أي أن الحكومة هي الوسيلة أو الآلية التي تؤدي من خلالها الدولة سلطتها وهي بمثابة عقل الدولة. إلا أن الدولة كيان أكثر ديمومة مقارنة بالحكومة المؤقتة بطبيعتها: حيث يفترض أن تتعاقب الحكومات، وقد يتعرض نظام الحكم للتغيير أو التعديل، مع استمرار النظام الأوسع والأكثر استقراراً ودواماً الذي تمثله الدولة. كما أن السلطة التي تمارسها الدولة هي سلطة مجردة “غير مشخصنة” : بمعنى أن الأسلوب البيروقراطي في اختيار موظفي هيئات الدولة وتدريبهم يفترض عادة أن يجعلهم محايدين سياسيا تحصينا لهم من التقلبات الأيديولوجية الناجمة عن تغير الحكومات. وثمة فارق آخر وهو تعبير الدولة عن الصالح العام أو الخير المشترك ،بينما تعكس الحكومة تفضيلات حزبية وأيديولوجية معينة ترتبط بشاغلي مناصب السلطة في وقت معين.ما علاقة الدولة بالسيادة؟
2- مفهوم السيادة:
من المعلوم أن السيد Souverain هو الذي الشخص الفردي أو الجماعي الذي تنتمي اليه السلطة من جهة الحق في حين أن السيادة Souveraineté هي الواجب الذي لا يمكن مقارنته مع معقوليات الفعل الأخرى ولذلك تعتبر سيادة السلطة القانونية هي المصدر الأصلي لكل السلطات الأخرى ومبدأ المشروعية لكل الممارسات السياسية والتنفيذية. لقد كان الحاكم بوصفه السيد المطلق هو الناطق باسم السيادة ثم أصبح الوطن هو مبدأ السيادة ولكن فلاسفة العقد الاجتماعي قد جعلوا من الشعب وليس الفرد هو الذي يؤسس السيادة التامة غير قابلة للتقسيم والاغتراب . كما تطرح السيادة في مستويين:
المستوى الأول هو السيادة الداخلية: علاقة الدولة بالأفراد حيث تمارس نفوذا تاما في إطار احترام الحقوق والواجبات على الأفراد وتعاملهم كمواطنين. ولذلك يتم مجابهة كل أشكال التمرد والعصيان والانفصال والخروج بالردع.
المستوى الثاني هو السيادة الخارجية:علاقة الدولة بالدول الأخرى حيث تتمتع الدولة بالاستقلال التام والكامل والسلطة العليا والنفوذ المطلق في مستوى اتخاذ القرار ولا تسمح للدول الخارجية بالتدخل في شؤونها الداخلية والتحكم في قرارها واستغلال ثرواتها والتحكم في مصائر مواطنيها والتصرف بدلا عنها في مقدراتها. لكن اذا كانت السيادة عند جان جاك روسو هي ممارسة الإرادة العامة فإن كونستون يشترط ضمان السيادة المشتركة لاستقلالية الفرد لكي يتم الحديث عن دولة الحريات والحقوق ويسانده كوسترياديس في التأسيس الذاتي للمجتمع عند ترك الأفراد أحرار وسيادتهم على آثارهم.
يترتب عن ذلك أن السيادة هي مبدأ القوة المطلقة غير المقيدة. ويمكن أن نميز بين السيادة القانونية والسيادة السياسية.
السيادة القانونية هي السلطة القانونية المطلقة التي تملك –دون منازع- الحق “القانوني” في مطالبة الآخرين بالالتزام والخضوع على النحو الذي يحدده القانون. أما السيادة السياسية هي هي القوة السياسية غير المقيدة أي القادرة على فرض الطاعة ،وهو ما يستند غالبا إلى احتكار قوة الإرغام.
وقد استخدم مصطلح السيادة بصورتين مختلفتين -وإن ظلتا مترابطتين- للإشارة إلى السيادة الداخلية والسيادة الخارجية، ففي حين ترتبط الثانية بوضع الدولة في النظام الدولي ومدى قدرتها على التصرف ككيان مستقل(مفهوم السيادة الوطنية أو الدولة ذات السيادة)، فإن السيادة الداخلية تشير إلى القوة أو السلطة العليا داخل الدولة ممثلة في الهيئة صانعة القرارات الملزمة لكافة المواطنين والجماعات والمؤسسات داخل حدود الدولة.وترتبط السيادة الداخلية بهذا المعنى الداخلي بمفاهيم مثل “السيادة البرلمانية ” و”السيادة الشعبية”.ما المقصود بدولة المواطنة
3- مفهوم المواطنة:
المواطنة هي الفعل الذي يتم به الاعتراف بشخص او عائلة أو مجموعة على أنه عضو في المدينة أو الدولة يساهم من موقعه وبطريقة فاعلة في تغذية المشروع المشترك. كما تتضمن المواطنة مجموعة من الحقوق المدنية والسياسية والواجبات القانونية وتحدد دور المواطن داخل المدينة وفي علاقة بالمؤسسات. ان المواطنة بالمعنى القانوني هي مبدأ المشروعية، وان المواطن هو محور الحق.
وجود المواطن أو المواطنة ، تحت نظرية التعاقد الاجتماعي، يحمل كلاً منهم جملة من الحقوق والمسؤوليات. والحق أن ” الوطنية الفعالة “هي الفلسفة التي تعتقد أنه ينبغي لكل فرد من أفراد المجتمع العمل من أجل تحسين أوضاعها في جماعة مشتركة من خلال المشاركة الاقتصادية، والخدمة العامة ،و العمل التطوعي، وغير ذلك من الجهود الرامية التي تؤدي إلى تحسين الحياة من أجل جميع المواطنين.
المواطنون جمع كلمة مواطن وهم مجموعة من الناس ينتموا غالبا إلى وطن واحد وعرق واحد ودين واحد ولغة واحدة لهم حقوق مدنية وسياسية واقتصادية قد تختلف حسب أنظمة الحكم حيث في الأنظمة الديمقراطية المواطن هو شخصية قانونية لها الحق في التعبيروالانتخاب لكن في الأنظمة الملكية أو الدكتاتورية المواطن هو شخصية قانونية لكنه لا يتمتع غالبا بحق الانتخاب وبقمع لحرية التعبير مثال عن الأنظمة الديمقراطية. . لكن كيف ننتقل من الحديث عن المواطنة نحو التطرق الى المواطن؟
مفهوم المواطن: توجد ثلاثة معان لمفهوم المواطن:
معنى سياسي: مفهوم مواطن ليس له معنى الا في اطار مجتمع يخضع الى قوانين . ان القانون هو الذي يحدد الحقوق والواجبات بالنسبة الى المواطنين. بواسطة المواطنة تعترف الدولة للأفراد المواطنين بحريات متساوية وتضمن لهم حماية معينة.ان المشكل الأساسي السياسي للمواطنة في الديمقراطية الحالية هو مشكل المشاركة الفاعلة لكل المواطنين في الحياة السياسية وسن القوانين. في يوم الناس هذا تعني الصفة مواطني احترام القوانين والحريات الأساسية والعناية بالخير المشترك.
معنى تاريخي: المواطنون في المدينة الاغريقية يعتبرون أنفسهم أناس أحرار ومتساوين في الطبيعة وفي المشاركة في الحياة العامة وفي تقلد المناصب القيادية. لكن تم اقصاء من هذا الحق المدني كل من النساء والغرباء والعبيد والمرضى والأطفال والشيوخ. لكن مع نظرية العقد الاجتماعي لروسو في القرن18 وفلسفته السياسية أخذ مفهوم المواطن قيمته المطلقة.ان الفرد الذي يخضع الى الحكم السياسي لا يبقى حرا الا من جهة كونه مواطنا وبالتالي هو سيد نفسه ولا يخضع الا الى القانون الذي سنه بالاتفاق مع غيره وبالاعتماد على قاعدة عقلية. لذلك يميز الدستور الفرنسي لعام 1789 بين المواطن الفاعل الذي يمتلك حق الانتخاب ويؤثر في القرار السياسي والمواطن المنفعل الذي يتمتع بالحريات الأساسية دون أن يناضل من أجل حمايتها.
معنى كوني: ان الانتماء الى الانسانية يؤسس المساواة في الحقوق والواجبات بالنسبة الى الناس دون الأخذ بعين الاعتبار الانقسام بين الدول والمجتمعات والفوارق بين الجهات واللغات والديانات والثقافات والأعراق. ان الفكرة الكوسموبوليتية للمواطن عند الرواقية محكومة من طرف العناية الالهية والعدل الالهي. أما كانط فقد جعل من الفكرة الكوسموبوليتية فكرة ناظمة لنظريته السياسية وعرفها في كتاب ميتافيزيقا الأخلاق بأنها ” فكرة الجماعة العامة والمتسامحة وبخلاف ذلك متواددة مع كل شعوب الأرض.”. لقد أصبح طموح الفكر السياسي المعاصر هو تشييد دولة عالمية موحدة تمكن أن تكون مهيمنة ومطلقة مثل الامبراطورية والامبريالية والعولمة المتوحشة ولكن يمكن أن تكون دولة فدرالية تجمع مختلف الدول والأمم والشعوب أو دولة تضم المواطنين العالميين. كما ان المدينة الحقيقية للإنسان تتعدى المدينة التي يقطن فيها كل انسان لتصل الى العالم برمته وتكون المعمورة هي المدينة الكونية التي يقطنها النوع البشري.
هكذا تكون المواطنة هي صفة المواطن وفي معناها المحدود تشير الى الانتماء الى مدينة أو دولة ولكنها بالمعنى الدقيق هي غير مفصولة عن مشاركة فعالة في الشؤون العمومية. ان المواطنة هي البعد السياسي للوجود المدني الذي لا يمكن اختزاله الى المجموع المكون بواسطة النشاط الاقتصادي والسجل الخاص. لكن ألا يوجد تناقض بين سيادة الدولة وحقوق المواطنة؟ وماذا نعني بالديمقراطية؟
4- مفهوم الديمقراطية:
تعني في الأصل حكم الشعب لنفسه، لكن كثيرا ما يطلق اللفظ علَى الديمقراطية الليبرالية لأنها النظام السائد للديمقراطية في دول الغرب، وكذلك في العالم في القرن الحادي والعشرين، وبهذا يكون استخدام لفظ “الديمقراطية” لوصف الديمقراطية الليبرالية خلطا شائعا في استخدام المصطلح سواء في الغرب أو الشرق، فالديمقراطية هي شكل من أشكال الحكم السياسي قائمٌ بالإجمال علَى التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثريّة بينما الليبرالية تؤكد على حماية حقوق الأقليّات والأفراد وهذا نوع من تقييد الأغلبية في التعامل مع الأقليات والأفراد بخلاف الأنظمة الديمقراطية التي لا تشتمل على دستور يلزم مثل هذه الحماية والتي تدعى بالديمقراطيات الليبرالية. كما يطلق مصطلح الديمقراطية أحيانا على معنى ضيق لوصف نظام الحكم في دولة ديمقراطيةٍ، أو بمعنى أوسع لوصف ثقافة مجتمع. والديمقراطيّة بهذا المعنَى الأوسع هي نظام اجتماعي مميز يؤمن به ويسير عليه المجتمع ويشير إلى ثقافةٍ سياسيّة وأخلاقية معيّنة تتجلى فيها مفاهيم تتعلق بضرورة تداول السلطة سلميا وبصورة دورية. لكن كيف ارتبطت الديمقراطية باستقلالية المجتمع المدني؟
إن المعنى الأصلي للمفهوم هو “المجتمع السياسي” الذي يحكمه القانون تحت سلطة الدولة. لكن المعنى الأكثر شيوعاً هو تمييز المجتمع المدني عن الدولة، بوصفه مجالاً لعمل الجمعيات التطوعية والاتحادات مثل النوادي الرياضية وجمعيات رجال الأعمال وجماعات الرفق بالحيوان، وجمعيات حقوق الإنسان ، واتحادات العمال وغيرها. أي أن المجتمع المدني يتكون مما أطلق عليه إدموند بيرك الأسرة الكبيرة.
في المقام الأول يهتم المرء بسبل عمله ومعيشته، ليكفي حاجته وحاجة أفراد أسرته بالغذاء والسكن وغير ذلك من لوازم الحياة. ولكن يوجد بجانب ذلك أشخاصا كثيريون يهتمون بالمجتمع الذي يعيشون فيه ن ويكونوا على استعداد للتطوع وإفادة الآخرين. أي ان المجتمع المدني ينمو بمقدار استعداد أفراده على العطاء بدون مقابل لإفادة المجموع. هذا يعتبر من ” الإيثار العام”. وفي المجتمعات الديموقراطية تشجع على ذلك النشاط الحكومات. كما يستخدم المجتمع المدني عادة كمفهوم وصفي لتقييم التوازن بين سلطة الدولة من جهة، والهيئات والتجمعات الخاصة من جهة أخرى، فالشمولية مثلاً تقوم على إلغاء المجتمع المدني، ومن ثم يوصف نمو التجمعات والأندية الخاصة وجماعات الضغط والنقابات العمالية المستقلة في المجتمعات الشيوعية السابقة بعد انهيار الحكم الشيوعي، توصف هذه الظواهر بعودة المجتمع المدني.
وفقاً للرؤية الليبرالية التقليدية، يتسم المجتمع المدني بأنه مجال تطوع الاختيار ، والحرية الشخصية ،و المسئولية الفردية ، تجاه المجتمع الذي يعيش فيه المرء ويريد العطاء له بما لديه من إمكانيات معرفة أو أكانت مادية. أى أن المجتمع المدني يتيح للأفراد المجال لتشكيل مصائرهم الخاصة ومساعدة الآخرين . ويفسر ذلك أهمية وجود مجتمع مدني قوى متسم بالحيوية في صورة تأسيس جمعيات تطوعية ومنتديات وجمعيات خيرية كملمح أساسي للديموقراطية الليبرالية، والتفضيل الأخلاقي لدى الليبراليين التقليديين للمجتمع المدني ،وهو ما يظهر في الرغبة في تعضيد عمل الأجهزة التنفيذية في الدولة عن طريق النشاط في المجال الخاص. وعلى النقيض من ذلك، يوضح الاستخدام الهيجلي للمفهوم أبعاده السلبية حيث يضع أنانية المجتمع المدني في مواجهة الإيثار المعزز في إطار كل من الأسرة والدولة، من ناحية ثالثة، فإن الماركسيين ينظرون إلى المجتمع المدني بصورة سلبية حيث يربطونه بالهيكل الطبقي غير المتكافئ والمظالم الاجتماعية. وتبرر مثل هذه الآراء التخلص من الهيكل القائم للمجتمع المدني كلية، أو تقليص المجتمع المدني من خلال التوسع في قوة الدولة ودورها التنظيمي. لكن ماهي الأسس التي يرتكز عليها النظام الديمقراطي؟
من المعلوم أن الديمقراطية هي نظام سياسي واجتماعي يكون فيها الشعب هو مصدر السيادة والسلطة، فهو يجعل المجتمع يحكم نفسه عن طريق ممثلين عنه. في هذا الإطار صرح مونتسكيو:”توجد الديمقراطية حينما يكون الشعب في الجمهورية جسدا واحدا مع القدرة السيدة “. يمكن ان نميز الديمقراطية المباشرة التي يمارس من خلالها الشعب السلطة دون وسائط، والديمقراطية التمثيلية أو البرلمانية التي يفوض من خلالها الشعب برلمانا بواسطة القرعة أو الانتخاب لكي يمارس دور السلطة التشريعية. أما الديمقراطية الحاكمة أو الدكتاتورية فهي التي ينتخب فيها الشعب حاكما واحدا يحتكر لنفسه جميع السلطات كل حياته ، ويتعارض هذا النمط مع الحكم الأرستقراطي أو الحكم التقليدي. في حين أن الديمقراطية الليبرالية هي التي تحترم الحريات الفردية وتعطي الحقوق كاملة بالنسبة إلى المعارضة السياسية وتعمل على طرد الديكتاتورية دون رجعة سواء تعلق الأمر بشخص أو بحزب.
لقد تطورت فكرة الديمقراطية تاريخيا: فإذا كانت عند الاغريق تعني المساواة أمام القانون من طرف المواطنين وتستثني العبيد والنساء من الحياة السياسية، واذا كان روسو أسسها على العقد الاجتماعي وعلى السيادة الشعبية اللاّمنقسمة واللاّمحدودة التي لا تخضع الى أي حق طبيعي ولا تعطي أي حق للمعارضة ويمكن أن تفرض دينا مدنيا، فإن دي توكفيل يحدد الديمقراطية بالطموح نحو تحقيق العدالة في الشروط التي تمكنها من مواجهة للتراتبية التي تشرعها الأرستقراطية ويسميها الديمقراطية المساواتية egalitarisme، اذ يصرح في هذا المجال:” ان التطور التدريجي للمساواة هو واقع كوني ومستمر وينفلت في كل يوم عن القدرة الانسانية.” لكن ما يتخوف منه هو تحول الديمقراطية الى استبداد ديمقراطي تذيب في الحشود الفردانيات والحريات.
كما نجد أنواع أخرى مثل ديمقراطية الرأي حيث ينغمس الفرد في تلبية مشاغله الخاصة ويتخلى عن دوره الايجابي كمواطن ويترك المجال لسلطة الرأي العام. وثمة ديمقراطية صورية تحترم الشكل القانوني دون المضمون وديمقراطية واقعية تضمن العدالة الاجتماعية وتسمى ديمقراطية شعبية.
هكذا يمكن أن نميز بين الديمقراطية على نطاق ضيق وتعني دمقرطة الحياة الأسرية أو الجماعة الدينية والديمقراطية على نطاق واسع وتعني دمقرطة المجتمع والمعمورة.
يمكن تلخيص خصائص النظام الديمقراطي بالنقاط التالية:
1. ينتخب الشعب ممثليه عن طريق انتخابات عامة
2. تمارس الأغلبية المنتخبة الحكم، هذه الأغلبية الصادرة عن فئات الشعب المختلفة هي جماعة سياسية بالتعريف وليست عرقية أو إثنية أو دينية.
3. تصان حقوق المعارضة عبر مؤسسات وقوانين.
4. تصان الحريات العامة للمجتمع، منها حرية التعبير وحرية العقيدة وحرية الاجتماع وحرية الصحافة
5. وجود دولة القانون التي تحترم وتضمن حقوق المواطنين والمساواة بينهم.
6. الحد من اعتباطية سلطة الحاكم عن طريق مؤسسات ورقابة دائمة وآليات للدفاع عن المواطنين.
7. ضمان عدم الجمع بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وترسيخ مبدأ التكامل الوظيفي بينها وتمييز المسؤوليات وتوزيعها باستقلالية تامة.
8. ترسيخ مبدأ الدستورية، أي أن السلطات تستمد مشروعيتها من مرجعية قانونية عليا والمواطنين يحترمون الدستور ويرجعون إلى القضاء لحل الخلافات .
تعلن هذه الخصائص في دستور ديمقراطي يعتبر بمثابة تعاقد بين المواطنين. تتم مناقشته بشكل علني وبحرية كاملة مع شروحات كافية، ويتم إقراره من قبل جمعية تأسيسية منتخبة من الشعب، ويعرض نص الدستور عليه في استفتاء عام. لكن ماهي الأسس التي يقوم عليها النظام الديمقراطي؟
– الأساس الأول هو مبدأ السيادة للشعب• وقد يبدو هذا المبدأ بديهيا باعتبار أن أحد التعريفات الذائعة للديمقراطية التي تنسب إلى إبراهام لينكولن ”إنها هي حكومة الشعب التي يؤسسها الشعب وتعمل لصالح الشعب”.
– والأساس الثاني أن تتكون الحكومات بناء على رضا المحكومين وموافقتهم، وهذا الأساس هو في الواقع لب مسألة شرعية النظم السياسية• فالنظام السياسي الذي يتمتع بالشرعية، هو بكل بساطة النظام الذي ينال رضا غالبية المواطنين.
– ولو انتقلنا إلى الأساس الثالث وهو تطبيق حكم الأغلبية وعن طريق الاجماع.
-ونصل بعد ذلك إلى الأساس الرابع وهو ضرورة احترام حقوق الأقليات.
هناك أسس أخرى ترتكز عليها الديمقراطية، مثل ضمان حقوق الإنسان الأساسية، وتنظيم الانتخابات الحرة العادلة والمساواة أمام القانون• كما ينبغي أن تؤمن المجموعة بالتداول السلمي للسلطة وبفصل السلطات الثلاثة ، وتؤمن للأفراد والجماعات ممارسة حقوقهم السياسية من خلال المشاركة السياسية في صناعة القرار.
خاتمة:
ماهي مميزات المجتمع الديمقراطي؟
” إنه مجتمع ديمقراطي ، المجتمع الذي يتعرف على نفسه على أنه منقسم ، بمعنى أنه يتعارض مع المصالح المتناقضة ويضع لنفسه طريقة ، ليشترك كل مواطن في نصيب متساوٍ ، وفي التعبير عن هذه التناقضات، تحليل هذه التناقضات والتداول بشأنها ، بهدف الوصول إلى التحكيم”. – بول ريكور- حول السياسي.
• للديمقراطية قوة هائلة في تحريك المجتمعات الإنسانية. فهي أرضية خصبة لكي يعي الناس مكانتهم وحقوقهم وواجباتهم وتحقيق مصيرهم.
• تجعل من الحرية عاملا مشتركا لكافة المواطنين.
• تقوي قناعة المواطنين لتفعيلها والدفاع عنها وإلزام الحكام بها.
• ترفع الخوف عن قلوب الناس بسبب وعيهم بحقوقهم ومراقبتهم للحكام.
• ترسخ كرامة الناس وتنمي استقلاليتهم ونضوج تفكيرهم وسلوكهم الاجتماعي.
• توجد توازنا بين الحكومة والمعارضة.
• تفسح مجالا واسعا للجميع للنقاش الحر والاتجاه إلى العقل لإقناع الآخر .
• تفتح آفاقا جديدة للإبداع في كثير من المجالات لإيجاد حلول أكثر ملاءمة.
• تدير الصراع السياسي والاجتماعي بشكل سلمي.
• تعطي الناس فرصا أكبر للتأثير على مجريات الأحداث وليساهموا بالحياة العامة عن طريق العمل السياسي والمدني وعن طريق وسائل النشر والاتصالات الحديثة المتاحة في المجتمع.
• توجد آلية واضحة لتطبيق مفهوم السلطة وممارستها في كافة مستويات العلاقات الإنسانية.
• تجعل من الشعب في نفس الوقت حاكما ومحكوما وتضمن التأليف بين السيادة والمواطنة.
لكن لماذا يبقي النظام الديمقراطي محل اعتراض وتظنن؟ وهل يعود ذلك إلى بنيته هشة وخلله الداخلي أم إلى تغلب العنف والاستبداد على الحق والسلم؟ والى أي مدى تضمن المؤسسات استمرار الديمقراطية؟
المرجع:
1-Paul Ricœur, autour du politique, lectures1, édition seuil, Paris, 1991 , p166.