19 ديسمبر، 2024 12:41 ص

الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة وقوة القانون

الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة وقوة القانون

إن الديمقراطية ترتكز على الحوار الصريح والإقناع والسعي إلى حلول وسط .. والتأكيد الديمقراطي على الحوار لا يفترض فحسب وجود اختلافات في الآراء والمصالح بشأن معظم مسائل السياسة، ولكن يفترض أيضا أن لهذه الاختلافات الحق في أن يعبر عنها وأن يستمع إليها … وهكذا تفترض الديمقراطية الاختلاف والتعدد داخل المجتمع، وعندما يجد هذا الاختلاف تعبيرا عنه، يكون الأسلوب الديمقراطي لحل الخلافات هو بالأحرى المناقشة والإقناع والحلول الوسط …
إن الديقراطية كثير ما صورت تصويرا كاريكاتيريا “خاصة من أفول الاستبداد والديكتاتورية” غلى أنه مجرد “متاجر للكلام” بيد أن الامكانات التي تهيؤها للنقاش العام ينبغي أن ينظر إليها على أنها ميزة لا عيب، فذلك النقاش هو أفضل وسيلة لضمان القبول للسياسات ولا يتعارض بالضرورة مع اتخاذ تدابير حازمة .. فالنقاش المفتوح بوصفه الأسلوب المتناسب للتعبير عن الخلافات المدنية والسياسية .. كالحق في حرية التعبير .. ويمكن الاعتماد على الديمقراطية لحماية هذه الحقوق طالما أنها أساسية لبقائها هي ذاتها، وهذه الحقوق تتيح التنمية الشخصية للأفراد وتتيح قرارات جماعية أصلح بالنطر إلى اتخاذها في ضوء مجموعة مختلفة من الحجج والآراء.. فهي بذلك – أي الديمقراطية- تسمح بتجديد قوى المجتمع … ولا يتم تفعيل قيم الديمقراطية إلا من خلال تدعيم فلسفة القانون، أي “حكم القانون” والاستقلالية للدفاع عن الدستور وتحديد الجرم والمعاقبة عليه وكذلك المسائلة السياسية من خلال البرلمان المنتخب، أي أن قاعدة الديمقراطية هي المسائلة القانونية والسياسية وذلك عبر الدستور والقانون، فسيادة القانون تجسد المبدأ البسيط القاضي بأن يعمل الجميع في إطار القانون والدستور على أساس السلطات المخولة لهم والمحددة قانونا .. وقد علمتنا الفلسفة أنها المعين الأول لإشباع الرغبة الطبيعية لدى الإنسان للمعرفة، حيث الاستطلاع كجزء لا يتجزأ من كيانه، ومعنى أن يكون المرء محبا للاستطلاع هو أن يبحث عن إجابات عن أي أسئلة تدخل في نطاق عقولنا دائمة التنقيب .. كما أنها تنمي قدرات التفكير وحل المشكلات، وتتمثل هذه الروح في استقلال الفكر المستنير الذي يرفض الوصاية عليه والنقد العقلي الذي لا يسلم بشيء تسليما أعمى، وتربية العقل على التساؤل المستمر، وتكوين وجهة نظر شخصية للإنسان من خلال التخلص من حالة الجمود العقلي التي نقبل فيها آراء لمجرد أنها كانت دائمة مقبولة أو لأن أشخاصا يحظون بتقدبرنا يسلمون بها، وأخيرا فهي تساعد على تنمية الوعي الديني لدينا والبرهنة على أن الحقائق الموحى بها من الله تعالى تتفق مع مبادئ العقل وتعبر عنه تعبيرا صحيحا .. ولكن يبدو أننا مازلنا أسرى قيم التخلف، قيم تبث روح الفرقة، قيم تهدم البنيان الاجتماعي، الذي يعد الشرط الأساسي لأي تحول ديمقراطي في دولة المدنية والحداثة، فمن لا يؤيد السعي إلى تأمين انتصار الديمقراطية بتأمين البنيان الاجتماعي والحفاظ على هيكل المؤسسات الاجتماعية، فإنه يسعى إلى هدم القيمتين من الأساس، وبذلك تهيمن قوى الفوضوية والعنصرية وتخلق البيئة الجاذبة لاستثمارات العنف والإرهاب والتخلف والعودة إلى دولة ما قبل المدنية، فما نشاهده من فوضى وميوعة في التعاطي مع قضايا غاية في الحساسية وغاية في الأهمية تحت دعوة الحراك السياسي والديمقراطية، هو بالفعل محاولة لهدم الوطن وتفتيت أركانه .. وأخيرا لابد من التأكيد على أن فلسفة التغيير السياسي تنطلق من مقتضيات الضرورة السياسية، لا التغيير من أجل التغيير،والتاكيد على أن الاستقرار لا يعني الجمود للمشروع الديمقراطي المدني بل لاختيار الآليات الملائمة للظرف السياسي والتحديات التي تواجه المجتمع، وبعيدا عن خطابات الرعونة والرفض واحتكار الوطنية والدين … ومثلت مفصل حيوي من مفاصل الدولة المدنية الحديثة .. دولة المواطنة والحداثة وتجاوز المطبات الأيديولوجية الفاشية، فالدستور لا يتجزأ والمبادئ الأساسية للحياة هي المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص، وإن  السماح بقيام أحزاب دينية يعمل على تعميق مبدأ حقوق المواطنة وغلق الباب أمام أي استغلال للدين في السياسة،  فهي تضفي مزيدا من الديمقراطية وترسيخ لدولة القانون والديمقراطية وتنقل الدولة من حكم الأقلية إلى دولة المؤسسات الفاعلة وتؤكد على أن الدولة ديمقراطية سليمة .. ويمكن القول أن هذه الدولةهي خطوة هامة وليست نهائية، وقد لا تبدو آثارها واضحة للعيان في المدى القصير، إلا أن الحياة السياسية والممارسة الديمقراطية المنضبطة ذات الحماية القانونية ستشهد انعكاساتها لعقود قادمة .. وقد تكون هذه الخطوة التي تمثل  ديمقراطية غير كاملة ولا تلبي كافة الطموحات، إلا أنه من المؤكد أن تدشين عصر التعديل والتفاعل السياسي والدستوري قد أرسى أجواء من تفعيل قيم الحوار بين من يعتقدون أن هذه الدولة هي الامل المرجو وبين من يعتقدون انها بحاجة الى مزيد من التاطير والبناء الفكري الواعي والاحتياجات السياسية والإنسانية إلا أن أهم شروط هذه الأجواء هو الحوار الفعال والبناء، وترسيخ قيم الحوار العاقل الذي يضبط إيقاع عمل مؤسسات الدولة باتجاه بناء الانسان ليكون هو اداة قيادة الدولة وارساء دعائمها بالشكل المطلوب .