لاحية فتتطور – ولاميتة فتتغير
” الجثة تتفسخ من أين أردت أسندّها ” مظفر النواب
قد توصف الدولة بأنها فاشلة – رغم ما في هذا الوصف من خطأ منهجي – وقد تسمّى متخلفة أو نامية أو مضطربة أو ماشابه من التوصيفات التي تدلّ على المستوى الذي تعيشه دولة ما أو الذي وصلت إليه انحداراً في المسارات التي كان ينبغي أن تقطعها صعوداً، لكن تلك الصفات جميعها توحي رغم ذلك بالحياة ، أي إن الفشل مرافق للعمل في العادة أو إنه من نتائج الكسل والعجز عن الأداء .
لكن ماذا لو وصفت الدولة بالميتة ؟ ومتى وكيف يصبح ذلك الوصف ممكناً؟
موت الدول ليس حالة طارئة في تاريخ الأمم والشعوب، فقد شهد المسار البشري سلسلة من دول وإمبراطوريات (سادت ثم بادت ) بدأ منذ النشوء الأول للدولة في بلاد مابين النهرين أو مصر القديمة ، مروراً بفارس والإغريق وروما ، وليس انتهاء بالخلافة الإسلامية .
من يتفحص تاريخ نشوء الدولة وحيثيات تكوينها ،سيكتشف إنها تحمل بذور موتها منذ البداية ،أما مراحل صعودها وبلوغها أقصى درجات المنعة والقوة ، فهي أولى مسببات موتها في الوقت عينه ، إذ إن القوة تعني السيطرة والتوسع بما يتطلبه ذلك من استنزاف مستمر لمصادر الثروة بجانبيها المادي والبشري ،فيما الموارد التي يمكن استحصالها من الأرض التي يتم الاستيلاء عليها ، قد لاتشكّل إضافات مهمة للتعويض عن ثمن الاحتفاظ بتلك الأرض ، خاصة إذ ووجه المستولي بانتفاضات وحركات تمرد تتطلب جهداً مكثفاً ومنهكاً للقضاء عليها أو التعامل معها ، وهكذا يكون التوسع والغزو أول عوامل الضعف المتسبب بموت لاحق .
العامل الآخر في مسببات الموت ، ذلك الذي يحمله القمع والقسوة اللتان تمارسهما الدولة ،فكلما اشتدّ القمع ، زادت الحاجة إلى الحرية وتوافرت مقومات الثورة التي تندر ج حسب العوامل التالية :
أ: حالة الشعور بالظلم – ويرافقها في العادة طرح الأسئلة للبحث عن السبب وغالباً ماتأخذ طابعاً فردياً .
ب: مرحلة الوعي – وفيها تبدأ الأجوبة بالظهور تباعاً ومن ثم يتم البحث عن شكل آخر للواقع في بداية تبلور وعي جمعي .
ج: الرفض: بعد وضوح أسباب الظلم ، تبدأ مرحلة أخرى في تحول الوعي إلى أوليات نضج ومن ثم يتم رفض الإقرار بالواقع كما يتجسد .
د: – التصدي وهي مرحلة التحشّد وتعميم عوامل الثورة ومن ثم وضع الأسس للأهداف المنوي تحقيقها مع رفع شعارات مرحلية ذات مدلول تعبوي لطلب التغيير وتبيان ضرورات حصوله .
ه: الثورة – التي تبدأ بمقارعة النظام وصولاً إلى طرح البدائل .
ليس كلّ الثورات عنفية بالضرورة ، إذ هناك من الثورات ما أطلق عليها تسميات ذات مدلولات حضارية من مثل : الثورة الصناعية – الثورة التكنولوجية – ثورة الاتصالات – الخ ، لكن جميع الثورات تشترك بوعي الواقع ( الاجتماعي – السياسي – العلمي ) ومن ثم الإنتقال به نحو حالات أخرى بديلة .
ان تسمية الثورة الأكثر شيوعاً هي تلك التي توصف فيها الثورات ذات الأهداف السياسية التي غالباً ماتكون مصحوبة بعنف أو إهتزازات بنيوية في الدولة والمجتمع ، والملاحظ في ذلك إن الدولة التي تحدث فيها ثورات من هذا النوع ، قد تفقد سلطتها لكنها لاتفقد بنيتها تبعاً لذلك ،لذا فإنها قد تحافظ على كينونة الدولة مع تغيير نظام الحكم ، أي تصبح حياة الدولة متربطة بموت النظام ، فيما بقاؤه قد يتسبب بموتها كدولة كأن تتعرض لإنقسام أولحروب أهلية تؤدي إلى اندثارها أو توزع ممتلكاتها كما حدث مع الدولة العثمانية حينما اقتسمتها القوى الاستعمارية .
عامل آخر يتسبب بموت الدولة في ضعفها ، فالدولة شديدة الضعف ، كالدولة شديدة القوة والجبروت، كلتاهما معرضتان للموت ، تلك بسبب قوتها المفرطة وسوء استخدامها في فرض هيمنتها ، وهذه بسبب ضعفها المفرط وعدم قدرتها في الدفاع عن نفسها أو تثبيت سيادتها .
لكن موت الدولة في كل حال ، لايعني موت المجتمع ربطاً بذلك ، إذ إن المجتمعات عكس الدولة ، عصية على الموت أو الفناء ، فالمجتمعات كالماء الجاري سيجد مجرى ولو توزع نهره على جداول وينابيع عديدة .
الموت في الدولة قد يحصل على درجات متفاوتة تطول في الزمن ، وبالتالي فليس هناك من إنهيار مفاجىء لدولة تعيش حياة سليمة إذ لم يسبقه مرض عضال يصيب مفاصلها الرئيسة ويجعلها عاجزة عن التطور أو الفعل، ومن ثم تأتي المسببات الأخرى كالثورة أو الإنقلاب أو الغزو الخارجي ، بمثابة حقنة الموت ،لكن الموت ليس هو الحالة الوحيدة التي تواجه الدولة ، إذ إنها قد تتحول إلى مجرد جثة في المضمون ، وعلى قيد الحياة في الشكل ، تلك هي الحالة الأخطر التي يمكن أن تمرّ بها دولة ما ، فلا هي ميتة فعلاً ليفسح في المجال أمام إيجاد بديلها ، ولاهي حيّة فتؤدي مهماتها ، ومن أبرز الأمثلة على الدولة / الجثة ، هو ماشهدته الخلافة العباسية في أواخر أيامها ،والدولة الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى ، كذلك ماعاشه العراق أيام نظام صدام حسين بعد حرب الخليج الثانية ووضعه من ثم تحت الحصار ولجان التفتيش ،كما يعيش النظام السوري وضعاً مشابهاً في المرحلة الراهنة – وهكذا .
الملاحظ إن الأمثلة أعلاه تنطبق بصورة رئيسة على دول ذات أنظمة شمولية،أما في الديمقراطيات – خاصة الجديدة منها – فيتقدم العراق باعتباره النموذج الأوضح على وصف ( الدولة / الجثة) ، فدولته الحالية بنظامها الديمقراطي شكلاً والهلامي مضموناً ، هو أشبه بجثة فقدت الكثير من ملامحها وسماتها الخاصّة ، لكنها في الوقت عينه باقية ( لاحيّة فترجى – ولاميتة فتنسى ) وذلك وضع يعتبر ملائماً لتفريخ الأزمات وتوالي المشكلات من دون حلول فاعلة .