لقد نشر الاخ الدكتور حميد الهاشمي في صفحته على الـ facebook نقاطا مختصرة جدا، نتتعلق بالدور السياسي للمرجعية، وختمه قائلا: ((لا نقصد الاساءة الى موقف المرجعية لكن لا ينبغي التعويل عليها كموقف مبادر في الشأن السياسي. المرجعية شأنها ديني فحسب)). وسوف ابدأ من حيث انتهى الزميل العزيز واشير الى ما يلي:
يفهم من كلامه ان الدين- وهو يعني هنا الاسلام – لا علاقة له بالسياسة وما يتعلق بها من شؤون الحكم والدولة أو يتفرع عنها، فهي كالمسيحية التي تعنى بالجانب الروحي والطقوس العبادية لأنها اعطت (لقيصر ما لقيصر وما لله لله)، اي انها فصلت بين الدين والدولة، لكن الاسلام ليس كذلك لأن فيه فلسفة للحكم والسياسة قابلة للاجتهاد وكتب فيها الكثير قديما وحديثا، وأول تجربة عملية لها هي دولة الرسول (ص) في المدينة المنورة، وهي التي تحظى باجماع المسلمين، مع شيء من الاختلاف في الفهم والتأويل. هذا فضلا عما يوجد في التراث الاسلامي من نظريات اقتصادية وتربوية ومنهجية وفلسفية وقانونية تنظم مختلف شؤون المجتمع، وقد أفاض فيها الباحثون، وحسبنا أن نشير الى ما كتبه المفكر الشهيد السيد محمد باقر الصدروالشيخ مرتضى مطهري والأستاذ مالك نبي وغيرهم.
وفي العصر الحديث كإن الشأن السياسي من صلب اهتمام المرجعية، وانوّه بحركة (المشروطة) التي دعا اليها المصلحون والمجددون منذ القرن التاسع عشر كجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهما، وخلاصتها رفض الحكم الاستبدادي المطلق، ووجوب أن يلتزم الحاكم بدستور او قانون مكتوب ومجلس منتخب يقيد صلاحياته، وقد حمل لواءها في النجف الاشرف في العراق المرجع الكبير الشيخ محمد كاظم الخراساني (ت 1909)، فقيه الحركة الدستورية ومناصرها في ايران وتركيا لانقاذهما من نير الاستبداد العثماني والقاجاري. وبفضل جهوده انتصرت ثورة الدستور في ايران ووقعه الشاه مظفر الدين قبيل وفاته بأيام عام (1907)، ثم انتصر تيار المشروطة (جمعية الاتحاد والترقي) في تركيا بانقلابه على السلطان عبد الحميد عام 1908. فكان لمرجعية الشيعة الامامية الدور الرئيس في تكوين الدولة الدستورية الحديثة في العالم العربي والاسلامي.
أما الدور السياسي والعسكري قبل ثورة العشرين الذي أغفله الدكتور الهاشمي تماما، فيتمثل ايضا في اعلان كبار المراجع في النجف وغيرها من مدن العتبات المقدسة، الجهاد ضد المحتل الانجليزي الذي دخلت قواته البصرة عام 1914، واستجاب سكان المدن والعشائر لهذه الفتوى، وتحركت جيوش المجاهدين بقيادة المراجع الفقهاء، كالفقيه والشاعر المعروف السيد محمد سعيد الحبوبي ، ومعه تلميذه السيد محسن الحكيم، وكان في مطلع شبابه، وكذلك الشيخ فتح الله شيخ الشريعة، والشيخ جعفر آل الشيخ راضي، والسيد هبة الدين الشهرستاني، والسيد مهدي الحيدري. وقد التحم جيش المجاهدين والقوات التركية مع الانجليز في معركة ضارية في (الشعيبة) جنوبي العراق ، ورغم بسالة المجاهدين فان الغلبة كانت للجيش البريطاني ذي التسليح والتخطيط الاحدث. ومع ذلك فقد استمرت المقاومة فكان حصار الكوت، الذي أسر فيه الالاف من الجيش البريطاني، ولم يستطع الجنرال مود من دخول بغداد الا عام 1917 اي بعد ثلاث سنين من نزول القوات البريطانية في البصرة!
ثورة النجف التي أعدت لها جمعية النهضة الاسلامية التي اسسها ثلاثة من رجال الدين هم الشيخ محمد جواد الجزائري والسيد محمد علي بحر العلوم واالشيخ محمد علي الدمشقي، بالاضافة لسكرتيرها الأستاذ عباس الخليلي، شقيق الكاتب والصحفي المعروف جعفر الخليلي. وقد نشطت هذه الجمعية بين أوساط المجتمع النجفي، كما انضم اليها عدد من شيوخ العشائر في منطقة الفرات الأوسط، وكان اول اعمالها مهاجمة مقر الحاكم البريطاني في النجف الكابتن مارشال وقتله، فسقطت المدينة كلها في ايديهم، فحاصر الجيش الانجليزي مدينة النجف لمدة شهر ونصف، ومنع عنها الماء والغذاء، فعانى فيها الناس معاناة شديدة لكن المقاومين لم يستسلموا، بعدها بدأ الانكليزبقصف المدينة بالمدفعية الثقيلة فاحدثوا ثغرة في سورها القديم المحصّن ودخلوها ليلقوا القبض على عدد من المتهمين، ثم اقاموا محكمة عسكرية في الكوفة حكمت على أحد عشر من ابنائها بالاعدام ومائة بالنفي الى جزيرة هنجام في المحيط الهندي، كما فرضت غرامات كبيرة وباهضة يجب على المدينة تقديمها، وتشمل المال والسلاح . ونفذ الحكم بحضورعدد من زعماء عشائر الفرات الاوسط الذين بدا عليهم التاثر الواضح، وكانت هذه الواقعة من اكثر الامور التي مهدت لثورة العشرين.
لقد عمقت ثورة النجف الروح الوطنية والدعوة للاستقلال لدى العراقيين، لكنها لم تستطع الامتداد الميداني الى بقية انحاء العراق، لأن الانجليز ضربوا عليها حصارا محكما. وقد استفادت المرجعية الدينية والقوى الوطنية من هذا الدرس، وبدأت حملة لعرض القضية العراقية على العالم الخارجي، فأوصلتها الى مؤتمر الصلح في باريس، كما راسل المرجع الشيخ محمد تقي الحائري الشيرازي والشيخ فتح الله شيخ الشريعة الرئيس الامريكي ويلسون صاحب المبادئ الاربعة عشر ومنها حق تقرير المصير، الذي استند اليه المرجعان في المطالبة بحق العراقيين في الحرية والاستقلال.
وكان محور هذه الحركة والمراسلات والدعوة للاستقلال هو نجل المرجع الحائري الشيرازي الشيخ محمد رضا، فقامت السلطات البريطانية باعتقاله مع مجموعة من الوطنيين ونفيهم الى جزيرة هنجام، فكان نفيهم من أهم العوامل التي ساهمت في اندلاع الثورة. ولما رأى المرجع الشيخ الشيرازي مماطلة الانكليز ونكثهم لعهودهم اصدر فتواه الشهيرة، بجواز استخدام العراقيين للقوة الدفاعية اذا لم تستجب سلطات الاحتلال لمطالبهم الوطنية العادلة. وهنالك تفاصيل أخرى للأحداث التي سبقت انفجار شرارة الثورة في الرميثة إثر اعتقال الشيخ شعلان أبو الجون (شيح عشيرة الظوالم) في 30 حزيران 1920 لا مجال لسردها الآن. الامر الذي يؤكد على ان المرجعية وحوزتها العلمية، وبقية شرائح المجتمع في المدن والارياف، كانت مستمرة في مساعيها وكفاحها لنيل الاستقلال، ولكنها ارادت استنفاذ الطرق السلمية كافة، قبل اللجوء الى المقاومة المسلحة، وهو ما حصل اخيرا.
وآخر مصاديق الدور السياسي للمرجعية هي فتوى الجهاد الكفائي التي أصدرها آية الله السيد علي السيستاني ضد تنظيم داعش الارهابي، بعد ان احتل هذا التنظيم المتوحش، ثلاث محافظات هي الموصل والانبار وتكريت، وبات قريبا من ابواب بغداد، فكانت الاستجابة الكبيرة من مختلف مكونات الشعب العراقي لنداء المرجعية، وتم دحر الارهاب. وقبل ذلك حافظت المرجعية على قدر معقول من السلم الأهلي، ومنعت أعمال الثأر والانتقام، رغم آلاف الانتحاريين الذين كانت ترسلهم بعض دول الجوار بمفخخاتهم وأحزمتهم الناسفة التي حصدت أرواح عشرات الألوف من العراقيين!
بقي ان نشير اخيرا الى أن المرجعية في رؤيتها للدور السياسي للفقيه او المرجع، تنطلق من تفسيرها لولاية الفقيه، هل هي مطلقة أم مقيدة. اما الاولى فتتيح للفقهاء التصدي لإدارة شؤون الحكم والسلطة السياسية بشكل مباشر وهو ما حصل في إيران يعد ثورتها الإسلامية وانتصارها عام 1979، خاصة وأن قادة الثورة لاحظوا من خلال تجارب الأمس القريب والبعيد أن الفقهاء يحركون الشارع ويقودون المظاهرات والاحتجاجات، ويسقطون الحكومات ثم يقطف ثمارها غيرهم، كما حصل في ثورة الدستور وثورة العشرين. أما الثانية فالفقيه يعطي المشورة والنصح ويراقب سير الأحداث وعمل السلطات حتى لا تأتي بما يخالف الشرع، لكنه يترك الحكم المباشر للجهاز المدني.
مصادر: (د. إبراهيم العاتي:آفاق التجديد الإسلامي، دار الهادي، بيروت، 2003)
(د. إبراهيم العاتي: النجف مركز الشيعة والمرجعية، مركز المسبار، دبي، 2007)