أبطال هامشيون وواقعية “جديدة” شيقة!
شاهدت بسينما الرينبو بعمان ثلاثة أفلام ايرانية وثائقية طريفة وجديدة وحاصلة على العديد من الجوائز العالمية، حيث يتناول الأول (واسمه موري يريد زوجة) حالة رجل بسيط وساذج يعمل كخادم داخل البيوت وينال ثقة العائلات لأمانته وطيبته ولكنه يعاني من عدم قدرته المادية للزواج ثانية بعد فشله مرتين، ونلاحظ محاولات حثيثة لمساعدته تصطدم بعوائق مالية وبعدم قدرته على تخصيص بيت عائلي ملائم لزوجة جديدة، كما نلاحظ انه يلجأ مرغما ودوما للعادة السرية ومشاهدة الأفلام الاباحية لتفريغ طاقته الجنسية بالرغم من معرفته بأضرارها الصحية والمحاذير الدينية، وبالرغم من محاولة اهل الحي مساعدته باخلاص الا أن مشروع البحث عن عروس ملائمة يفشل، ونراه يهيم بالحداثق العامة حاسدا الأزواج باسلوب مباشر بدائي، ثم يلجأ اخيرا للشكوى و”استجواب ربه” شاكيا ومستغربا سبب معاقبته بالرغم من طيبته واخلاصه وتفانيه بالعمل، الفيلم وان كان يلقي نظرة كوميدية ساخرة للمجتمع الايراني الا انه يحفل بالمضمون المجازي المعبر عن مشاكل المجتمع ولكنه يتجنب البعد السياسي الناقد الذي كان سيحوله لشريط ممل ومباشر وثقيل الظل! اما الفيلم الثاني فيطرح بغرابة وطرافة فكرة تقليد أفلام الغرب الأمريكي على خلفية موسيقى الفيلم الشهير لسيرجيو ليوني “حدث ذات مرة بالغرب” (الذي قدم الممثل الشهير”كلينت ايستوود” للسينما العالمية وتبعه الفيلم الشهير “من اجل حفنة دولارات”)، حيث نرى هنا البطل المهووس بفكرة اخراج افلام الكاوبوي يعمل جاهدا لتوفير النقود القليلة التي بحوزته للتحضير لفيلمه المرتقب الجديد منتقيا الممثلين من جيرانه وتجار السوق بمدينة شيراز القديمة، واعدا اياهم باتعاب متواضعة وراجيا دعمهم، وحيث نلاحظ شغفه الهائل بالتصوير وتيمة أفلام لويسترن وانتقائه الذكي لأماكن التصوير الجبلية الوعرة وللسهول كما بأفلام الوسترن، وكذلك بانتقائه الطريف للممثلين لأدوار الشريف والهندي الأحمر والشرير وغيرهم من الشخصيات المتنوعة، وكذلك بحثه المضني عن الريش والمسدسات والفتاش والباروكات والمساحيق وطريقة مكياجه للشخصيات والوجوه ووضع باروكات الشعر والمساحيق الملونة لوجوه “الهنود الحمر” المفترضة كما ملصقات البندورة المخفية لتنفجر بعد اطلاق الرصاص الوهمي مسببة جروحا وهمية قاتلة للابطال “الكوميديين”، ونلاحظ طريقة توجيهه لهم لأداء الأدوار بحرفية وجدية، ونضحك كثيرا للمفارقات الكوميدية التي يحفل بها هذا الفيلم الطريف اللافت وخاصة لمشاهد اطلاق الرصاص والمواجهات ولاسلوب سقوطهم صرعى بشكل مسرحي بطيء واستعراضي ساخر، كما نلاحظ أن شغفه الهائل باخراج افلام الويسترن قد ساعد على تقويض زواجه وهرب زوجته وابنه برضاه، ثم نفاجىء باقبال أهل البلدة لمشاهدة فيلمه المنتظر وخاصة من قيل الممثلين أنفسهم اللذين انغمسوا
بأدوارهم وتماثلوا مع الشخصيات بشكل كوميدي وحماسي حتى أن أحدهم اشترط ان يلعب دوما دور الشريف! ونستغرب أخيراقدرة المخرج الفذ على اخراج فيلم وثائقي متميز برسالة أخلاقية قوية تتجاوز ربما رسائل أفلام الكاوبوي الأمريكية: الكابوي الشريف هو الذي يأتي في اللحظة الملائمة لاحقاق الحق ثم يغادر مختفيا لجهة مجهولة! والافت أن بطل القصة نيغاهدار جمالي يقوم بعمل هذا النوع من الأفلام منذ عقود ويواجه صعوبات جمة، ويبدو هذا الفيلم وكأنه يلخص بلغة سينمائية رشيقة ومختصرة صراعاته المتواصلة مع عائلته وأصدقائه والمجتمع لانجاز شغفه الوحيد المتمثل بأفلام الويسترن، حيث نلاحظ أيضا لجوءه للعمل بمهن شاقة متنوعة لتوفير بعض النقود لانجاز فيلمه الجديد … وللطرافة فقد قدم بطل الفيلم نفسه للمخرج كاميران حيدري بنفس طريقة جون فورد الشهير لنفسه بالرغم من قلة معرفته بالمخرج الأمريكي “اسمي نيغاهدار جمالي واصنع أفلام الغرب الأمريكي”!
أما الفيلم الوثائقي الثالث واسمه “بارك مارك” ومن اخراج باكتاش أبتين فيتحدث بصراحة عن خفايا قصة حياة مشرد خمسيني مدمن مواظب على تناول انواع لمخدرات (التي تشعره احيانا بأنه جرذ واحيانا اخرى بأنه اسد!)، كمايسرق بانتظام من صناديق التبرع الموزعة بأرجاء الشوارع والحدائق العامة طوال ليلة كاملة، ونراه ببداية الشريط يستعرض صور ذكرياته مع زوجته الايرانية وأولاده الثلاثة المقيمين بأمريكا، ونعلم من تفاصيل المونولوج الصوتي الذي يقدمه (مخاطبا الجمهور ونفسه بآن واحد) أنه كان زوجا صالحا قبل ان يدمن المخدرات ويقدم مع رفاق أشرار على سرقة بنك امريكي كبير، ويلتبس عليه الأمر فيحدد قيمة المبلغ المسروق ما بين مئة الف وثلاثمئة ألف دولار، حيث يستخدم مسدسا لاخافة الصرافة المسكينة وذلك قبل أن يقوم ورفاقه بتبدبد كامل المبلغ بكازينو قمار بحيث لا يتبقى بصبيحة اليوم التالي ما يكفي لشراء باكيت سجائر! كما يحدثنا لاحقا يصراحة عن اقدامه على قتل امراة سوداء بقصد السرقة، حيث يسجن ويحكم عليه لفترة 22 عاما، وتخفض لاحقا لاثني عشر عاما لحسن سلوكه كما يقضي 18 شهرا بالحبس الانفرادي! ثم يتحدث عن عملية طرده من امريكا بعد خروجه من السجن مرورا بموسكو (ولا نعلم لماذا؟) ويحدثنا عن قيامه باعطاء ضابط الجوازات مئة دولار كرشوة لتهريبه للسويد لينضم لبعض افراد عائلته هناك، ولكنه لا ينجح بذلك فيستقر بطهران مشردا بحدائقها، ونستغرب ببداية الشريط من طريقة تعامل الشرطة معه بلطف وتفهم، ويخبرنا عن وقوعه بحب فتاة شابة تترك زوجها لتعود فتهجره، ونسمعه يتغزل بحب الوطن ويغني بشاعرية غير متوقعة،
ويقدم بنهاية الشريط وبصبيحة اليوم التالي على التجوال بالحديقة العامة مخترقا المتنزهين والمتنزهات اللذين يمارسون الرياضة الصباحية ليذهب بعدها لاحدى الحمامات العامة لينظف نفسه ويغسل ملابسه، ثم يحلق ذقنه ويتحفنا بموال حزين …ويقدم نفسه أخيرا لمصور محترف لكي يلتقط صورا جذابة عديدة هادفا ارسالها لزوجته وأولاده الكبار بأمريكا…هكذا ينتهي هذا الفيلم الغريب، وقد لاحظت بالأفلام الثلاثة اهتماما واضحا بنظافة ومظهر الأبطال الهامشيين عكس الصورة النمطية الدارجة، فالخادم بالشريط الأول يذهب للحلاق لتحسين مظهره بالرغم من احباطه الشديد ويأسه بالحصول على زوجة، فيما نلاحظ بشريط الويسترن الثاني مشهدا طريفا لكيفية استحمام الأبطال بحمام شعبي قبل تصوير المشاهد الختامية كما نلاحظ ذلك بنهاية الفيلم الثالث. أتمنى لو استطاع مخرجي الأفلام الوثائقية العرب التعلم من ابداعات السينما الايرانية من حيث المضمون والبساطة والطرافة والأصالة، لذا تنجح هذه السينما بشقيها الروائي والوثائقي بمهرجانات السينما العالمية وتلاقي الاعجاب وتحصد الجوائز. كما لاحظت أن هذه الأفلام تجمع وتدمج بشكل غير مسبوق ما بين النمط الوثائقي السردي والنمط الروائي الشيق، وتتطرق لأبطال هامشيين بسطاء وقصص معاناتهم وبلا حذلقة وتبجح وبدون “مشاهد فاضحة-صادمة”… وباسلوب فني طريف مباشر وجاذب بحيث لا يشعر المشاهد بالملل والتكرار، وتتجنب تماما التطرق للتيمات السياسية الجدلية بشكل مباشر وخطابي، وتقدم الموضوع باسلوب شيق تتابعي بلا خطابة، كماانها تختار مواضيع جديدة غير مطروقة كحالة الأبطال المهمشين والمأزومين ومعاناتهم لشق طريقهم في الحياة ومواجهة ظروفهم الصعبة، والتي تتميز بفترة عرضها القصيرة نسبيا بحدود الساعة الواحدة.