7 أبريل، 2024 6:03 م
Search
Close this search box.

الدهشة والعودة للذات

Facebook
Twitter
LinkedIn

إن الأصل في الفلسفة كما قال أفلاطون هي الدهشة التي تعني نوع من القلق والحيرة إزاء الأشياء غير المألوفة والمبهمة للفكر، تولد نوع من الحيرة والشك للعقل، وتدفع الفيلسوف للتساؤل، وتقسم الوجدان بين التسليم والتشكيك، حتى يتم صياغة السؤال عن الوجود والمصير ومعنى الحياة، والقلق الذي ينتاب الذات من روعة الكون ، ومن وجود الموجود في الوجود الذي يتميز بالصيرورة والثبات، وجود يظهر ويختفي. يأتي الفيلسوف مسلحا بالسؤال لإماطة اللثام عن الحقيقة التي تتوارى في ركام الأشياء والأحداث، حيث يستعين الحكيم بالعقل لما فيه من مبادئ منطقية، للتفكير في ألغاز الوجود والبحث عن الحقيقة بعيدا عن هيمنة “الميتوس” ومغامرات الآلهة وبطولاتهم ، سحر الحكاية في الالتفاف على القصة وبث التعجب في النفوس من أعمال الآلهة باعتبارها قوى خفية تهيمن على الطبيعة، وتفرض نفسها في تأويل الإنسان للوجود والظواهر الطبيعية ، الأسطورة ببساطة حكاية فوق العادة، تحكي عن أمكنة وأزمنة وشخصيات خيالية، الغاية من سردها تربية الناس على حسن الإنصات، والتقرب من الآلهة، وتشتمل على الخوارق والحكايات التاريخية والشعبية التي تروى بالكلام، في شكل نثر أو شعر أو أسلوب قصصي، كما ترمي للإخبار والتفسير والوصف، وهي تعبير عن مكبوتات عميقة في اللاشعور بحسب فرويد، في حاجة الإنسان لما هو ديني وتاريخي، يعيد الاعتبار للرموز الثقافية والاجتماعية، والبطولات الخاصة بالآلهة وشخصيات أسطورية من التاريخ . هوميروس في الإلياذة والأوديسة، وحكايات الأبطال ومنهم “أخيل”، بطل حرب طروادة بين اليونان ومملكة طروادة، كما للأسطورة وظائف منها: الوظيفة المعرفية والاجتماعية والأخلاقية، ودور الأسطورة في تشكيل الوعي الجمعي، وتقوية الروابط بين الفرد والجماعة، وتكريس القول الشفهي على ما هو مكتوب ومنطقي، ولا تخلو الأسطورة من قيمة في الدراسات الفلسفية المعاصرة، وفي العلوم الإنسانية ، سواء في بنيوية ستراوس أو في دراسات دوركايم في مجال علم الاجتماع الديني، وفي مدرسة التحليل النفسي وأسطورة أوديب .
من الأسطورة إلى الفلسفة، والفيلسوف في مغامرته الفلسفية يهدف للحقيقة، وإزالة اللبس والغموض عن الأشياء الغامضة، عندما يندهش ويتساءل، والدهشة نابعة من قلقه وتأمله في الكون اللامتناهي، وفي وجوده ككائن متناهي، أصالة الفلسفة في التفلسف، وتعلم حقائق جديدة من الأشياء التي تبدو لنا بسيطة ومفهومة، طاليس أول الفلاسفة حسب نيتشه انطلق من فكرة غريبة فوضع تفسيرا واحدا للأشياء عند القول بالمبدأ المفسر للطبيعة، الماء كعنصر مادي فيزيائي، ولو أن البعض انتبه بالقول أن الأسطورة ظلت عالقة في تفسيره كذلك، في قوله أن العالم ممتلئ بالآلهة، صفة الحكيم في مجتمعات تؤمن بالأسطورة والتقاليد الشعبية، وتعدد الآلهة، وفي لحظة ما ينبثق فكر جديد، يخرج من رحم العلم ويتحرر من هيمنة الأسطورة، ويعمل”اللوغوس” في ترسيخه وإثبات قيمته بالنتائج المعللة لفهم الطبيعة بعللها وأسبابها. لا بد من عامل الزمن حتى تتحول دهشة الفلاسفة إلى حقيقة راسخة في الذهن، وقاعدة من قواعد الفكر الذي يسلم بالتأمل وقوة العلم الطبيعي، ويعتمد على آليات كالملاحظة والاستنتاج والبرهان والقياس، من رحم العلم جاءت الفلسفة، ومن السؤال تبلورت خصائص التفكير الفلسفي، وبالدهشة والغوص في الماهيات تحرر الفكر من “الميتوس”، وتسري في المرحلة اليونانية لحظة الحكمة في أدق معانيها وشموليتها عند البحث والتقصي في الطبيعة والوجود بأساليب علمية جديدة وقوة الحدس . فالحكيم في سعيه نحو الحكمة أيقظ الوعي من سباته، وحرر الناس من سلطة الخطاب الشفهي، وجعل للقول الكلامي دلالة ومعنى، وجاءت الدهشة لتعبر عن الوجود الإنساني في عالم الصيرورة والتغير .
العالم الذي يتغير باستمرار، والإنسان وسط الموجودات، وفي قلب الطبيعية، يحاول أن يجعل من هذا الوجود أصيلا بالتفكير السليم، بعيدا عن التيه والاغتراب، يلتمس الطرق الممكنة لإزالة الحجب عن الغاز الوجود ، تارة بالسؤال عن الوجود، وتارة أخرى بالفهم للموجود، الوجود الصائر والجود المتغير، وطرق البحث عن الوجود بين طريق الحواس والظن وطريق العقل، أو اعتبار التغير أساس الوجود، وفي القول بمبدأ النار أصل الأشياء وليس الماء، هنا بلغت الدهشة درجة عالية من التفكير والتأمل في الوجود، وهذا القلق الوجودي من حقيقة العالم والموجودات، فكانت المحاولات الأولى في التفكير الفلسفي البحث في الأصل، ولازالت هذه الروح الفلسفية مهيمنة في مواقف بعض الفلاسفة مع اختلاف الموضوع، ومنهم نيتشه وهايدغر، الأول انتصر للروح اليونانية وفضل ثقافتها على المسيحية، انتقد الفكر الثابت وكل ما رسخه أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد من قيم مثالية، وأخلاق الانحطاط، وكتب في ذلك كتاب “الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي”، والثاني عاد بالتفكير للربط بين أصالة الفكر والوجود الإنساني خصوصا مع بارميند وهيراقليد، في رحلة البحث عن الوجود الإنساني الأصيل . مساءلة الكينونة والربط بين الوجود والزمان، في وصف القلق الذي يعاني منه الإنسان اليوم، فكانت العودة تعني التنقيب في شذرات التفكير الفلسفي عند هؤلاء، والتأسيس للوجود والموجود معا، بعدما دخلت الفلسفة الغربية مرحلة طويلة لانغماسها في العقلانية والذاتية التي طبعت من قبل ديكارت، والوضعية العلمية في القرن التاسع عشر، ودعوة بعض الفلاسفة لإعادة النظر في الفلسفة بوصفها علما دقيقا من خلال النفاذ للماهية خصوصا هوسرل ، إلا أن الفكرة التي يتفق حولها أغلب الفلاسفة، كون الفلسفة وليدة الدهشة، والتفلسف يستدعي درجة عالية من الاندهاش، والتأهب نحو استعمال العقل .
مبدأ التفلسف نقطة مهمة في التفكير الفلسفي، ومنبع الفكرة العودة للذات، وفحص ما تحتويه من أفكار ومعاني موجودة في النفس ،كما امن بذلك سقراط وأفلاطون، لأن المعرفة تذكر والجهل نسيان، وبالتالي يحتاج الإنسان في التعليم لمعلم ومرشد من طينة سقراط يقوده نحو المعرفة والحقيقة ، والتدرج بالإنسان من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات، أي من عالم الظن والمعارف المزيفة نحو عالم الكمال والماهيات، والمثال من توظيف أفلاطون لأسطورة الكهف في إقامة التعارض بين عالمين في الحقيقة والمعرفة ، وذلك التناقض بين المعرفة الخاصة بالفيلسوف والمعرفة الخاصة بالإنسان العادي الذي لا يثيره السؤال، سجين الكهف، لا يندهش من الأشياء غير المألوفة ، هذا الإنحدار في مرتبة العقل والفهم يوازيه الركون للأشياء العادية، والاكتفاء بالجاهزة من المعارف المألوفة دون صحوة للعقل، ويقظة الوعي في إدراك المعقولات والكليات، عقل تبسيطي يهيم في الأمور الجزئية دون دهشة فلسفية، وعقل معطل لا ينتبه ولا يأبه للحقيقة، منغمس في عالم الماديات، فكانت الفكرة السقراطية الشهيرة ” أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك “عليك العودة إلى ذاتك ، الحقائق موجودة فينا، وينبغي التفكير في عمق الذات واستنباط المعرفة، الأمر شبيه بكل ما يرمي إليه ديكارت في العودة من جديد لذاته، وإقامة المعرفة الخالصة بعد تجربة طويلة من الشك ، مسلحا بالمنهج الرياضي الاستنباطي، وإقامة البرهان على الفكرة النابعة من الذات، واليقين المعرفي باكتشاف ماهية الذات من خلال التفكير، والفصل بين الجوهر المادي والجوهر اللامادي، واعتبار الذات جوهر مفكر صفته المميزة التفكير. نقطة البداية في عملية التفلسف البحث عن المبدأ، والفكرة التي تؤسس للمعرفة وتكون منطلقا للتوجه نحو الطبيعة، العقلانية الديكارتية في قوة المنهج العلمي، وصلابة العلم النظري في استنطاق الطبيعة وفهم قوانينها ، وظيفة الفيلسوف تقديم المعرفة الممكنة بأدوات علمية جديدة، والتفلسف يبدأ من مسح الطاولة والشك في كل المعارف التي تدعي اليقينية، وتكريس قيمة الفكرة في بعدها الذاتي حتى أصبحت الديكارتية طابع الفلسفة الحديثة، والفكر اللاحق يمثل التجانس أو التناقض والإضافة كذلك .
بعيدا عن آليات التفلسف الخاصة بديكارت، جاءت الفلسفة المعاصرة بنمط جديد من التفكير لا يخرج عن سياق الذات في بعدها المعرفي والوجودي، فكر التنوع والاختلاف، تفكير خارج نطاق النسقية والشمولية، يُعنى بالأجزاء ويمتد نحو فروع دقيقة من المعرفة ، ولا يخرج التفلسف عن السؤال باعتباره جوهر الفلسفة ، العودة للذات ولو مرة واحدة حسب هوسرل مسألة ضرورية، منبع الأفكار هي الذات في امتلاكها للمعرفة الصحية أو الخاطئة، في حسن الإنصات للذات واستخراج الأفكار المفيدة في العمل ، هاجس التفكير الفلسفي اليوم إنزال الفلسفة للواقع لأجل تشخيص حالات الوجود الإنساني في عالم دينامي ومتغير ، عالم الأزمات وهيمنة التقنية، وما يشعر فيه الإنسان من التيه والاغتراب، ومن أجل وجود أصيل . لا بد من العودة للماضي والتماس آليات التفكير في الوجود والموجود كما نلمس ذلك في فلسفة هايدغر ، والعودة هنا للأصل وللمنبع في انبثاق حقيقة من صميم التفكير في الحقيقة والوجود بعيدا عن صرامة ومنفعة الفكر العلمي والتقني، أصالة التفكير تفيدنا في فهم الحاضر والتفكير مليا في المستقبل باعتبار الإنسان مشروع منفتح على المستقبل، محدد بالزمن ومصيره الموت كنهاية حتمية، لا بد أن يعيش الكائن وجوده ويؤسس لهذا الوجود بعيدا عن الرتابة والنمطية ، ولا تعني الذاتية هنا خصائص الذات الديكارتية المطلقة والمتفردة، ولا القوانين الثابتة التي حددها كل من ديكارت وهيجل وكانط في قوانين الفكر، الذات هنا في بعدها الوجودي التي تعاني من القلق والضيق والشعور بالاغتراب، العالم يغرينا بما فيه من أشياء، والحقيقة التي كنا نعتقد امتلاكها أضحت مجالا للنقاش والسجال بين أطراف متعددة في عالم متنوع الثقافات والحضارات، والفلسفة التي انطلقت من الدهشة لا زالت تثير فينا أسئلة جمة عن عالمنا ومصيرنا ووجودنا الذي يزداد تعقيدا وغموضا. من لا يندهش، ولا يثير الأسئلة يمكن اعتباره كائنا بدون وعي ، كائن جامد ومقولب على تقبل الجاهز من الأفكار والمواقف دون ردود الفعل، من دون أن يساوره الشك للبحث عن ذاته في ركام اليومي أو لنقل بتعبير هايدغر هذا نوع من الوجود المزيف يتحمل فيه الإنسان المسؤولية نظرا لقدرته على الاختيار والرفض من خلال قناعات ذاتية جوهرها الحرية، أو يبقى الكائن مجرد رقم في مجموعة، يغرد داخل السرب ويتبع خطوات الآخرين، لا يفكر في للقضايا الميتافيزيقية، ولا يهتم بالحياة والمعنى، ولا يقبل أن تصير الدهشة لحظة مهمة في التفلسف، وبالتالي يعيش هذا الكائن في أرقى أشكال التنميط .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب