تزامناً مع مايجري بـ”جنيف” السوري والمخصص بمجمله للشأن السوري، أتت الاخبار الواردة من موسكو والتي تتحدث عن انسحاب القوات الروسية “الجزئي والمرحلي والمشروط ” من سورية ،لتؤكد انطلاق مرحلة سياسية جديدة في سورية، مرحلة مركبة الأهداف والأبعاد والخلفيات السياسية والعسكرية المتزامنة، وما يؤكد كلّ ذلك هو مجموعة الاتصالات للرئيس فلاديمير بوتين مع القيادة السورية للتنسيق بملف الانسحاب الروسي، والتي تؤكد بمجموعها أو على الأقلّ توحي بأن هناك مساراً سياسياً جديداً يستهدف تحريك المياه الراكدة بمجمل ملف الحلول السياسية للحرب على سورية.
اليوم الانسحاب الروسي اوحى للبعض بتخلي الروس عن حليفهم السوري،وهي بحقائق الواقع فرضية خاطئة جدآ،فالروسي كما السوري يدركون اهمية هذه الخطوة الروسية الملحة اليوم ،فهي بشكل أو بأخر ستساهم بالضغط على المحور الاخر لانطلاق مسار جديد للحلول السياسية للحرب على سورية والخاصة بالوصول إلى حلّ سياسي للحرب المفروضة على الدولة السورية “تستثني بشكل أو بأخر القوى المتطرفة في سورية وتحد من دور بعض قوى الإقليم وتأثيرها بالملف السوري وتتعامل مع حقائق الامر الواقع وتقدم الجيش العربي السوري على الارض”، وهي بشكل أو بأخر ستساهم بالضغط على المحور الأمريكي – الفرنسي – السعودي- التركي – القطري، لتؤكد لهذه الدول وغيرها من حلف العدوان على الدولة السورية والتي ما زالت تراهن على التصعيد العسكري بسورية على أن رهانها هذا لم يعد مقبولآ،وأن عليها رفع الغطاء السياسي والعسكري عن المجاميع المسلحة “الإرهابية “في سورية ،تمهيدآ للدخول باطار سياسي جديد هدفه الرئيسي تسريع ملف الحل السياسي للحرب على سورية. واليوم عند الحديث عن مستقبل وطبيعة العلاقة بين الدولة الروسية والدولة السورية في المقبل من الأيام، نستطيع أن نؤكد بحكم بعض الحقائق العملية على الارض السورية وبحكم الدهاء السياسي السوري – الروسي ،وبحكم التجارب المتلاحقة ،أن القرار الروسي ليس خاضعآ لأي اعتبارات هدفها فك حلفه مع الدولة السورية بل هو قرار يؤكد حجم التنسيق السوري – الروسي وعلى اعلى المستويات ،فالروس لن يساوموا على سورية بالمطلق ، مع العلم أن للسعوديين والأميركيين تجارب كثيرة في مسار المساومات مع الروس بخصوص التنازل عن حلفهم مع الدولة السورية، وهناك أوراق مساومات طرحها جون كيري وجو بايدن وماكين وبندر بن سلطان ومحمد بن نايف وسعود الفيصل ومحمد بن سلمان للتفاوض مع الروس بمراحل زمنية مختلفة، ولكن صمود الدولة العربية السورية، وثبات موقف القوى والنخب الرسمية والشعبية والسياسية داخل روسيا، هو من أجهض بالكثير من المراحل أوراق المساومات الأميركية- السعودية التي كانت تُقدّم للروس. من جهة أخرى، برز واضحاً في الفترة الأخيرة مدى التقارب بالمواقف السياسية والأمنية، بين النظام الرسمي الروسي والنظام العربي السوري، وذلك ظهر جلياً من خلال تبادل الزيارات الرسمية السورية – الروسية “السياسية والعسكرية “، فهذه الزيارات وتقارب الآراء وثبات الموقف الروسي بخصوص موقفهم من الحرب على الدولة السورية، ضحدت جميع الإشاعات التي كانت تطلقها بعض الصحف الصفراء، ووسائل الإعلام، بخصوص تغيير الموقف الرسمي الروسي تجاة الحرب المفروضة على الدولة السورية.
ومع ثبات موقف الروس سياسيآ وعسكريآ من الحرب على سورية ، تزامن مع هذا الموقف اشتداد موجة الضغوطات الأميركية – السعودية على الروس بخصوص ملف سورية وما صاحب كل هذا من موجة عقوبات اقتصادية على الروس، وخصوصآ مع ظهور طبيعة جديدة لهذه الضغوطات الاقتصادية تمثلت “بحرب النفط – والانخفاض المتلاحق بأسعار النفط”،ومع كل هذا وذاك مازال الروس ثابتون على موقفهم الداعم للدولة السورية ،رغم قرار الانسحاب “الجزئي والمرحلي والمشروط”.
الروس بدورهم يدركون حجم خطورة تركهم لسورية وحيدة بمواجهة حلف عدواني أممي ،ولذلك لن يتركوا سورية من باب دفاع موسكو عن نفسها من دمشق فالروس يدركون أن النظام الأميركي الرسمي وحلفاءه بالغرب وبالمنطقة يستعمل سلاح النفط ومناطق النفوذ والتهديد الأمني كورقة ضغط على النظام الرسمي الروسي، للوصول معه إلى تفاهمات حول مجموعة من القضايا والملفات الدولية العالقة بين الطرفين ومراكز النفوذ والقوة والثروات الطبيعية وتقسيماتها العالمية ومخطط تشكيل العالم الجديد وكيفية تقسيم مناطق النفوذ بين القوى الكبرى على الصعيد الدولي، وعلى رأس كل هذه الملفات هو الوضع بسورية، ومن هنا يدرك الروس وحلفاؤهم أن أميركا وحلفاءها بالغرب يحاولون بكل الوسائل جلب النظام الرسمي الروسي وحلفاءه إلى طاولة التسويات المذلة، ليتنازل الروس وحلفاؤهم عن مجموعة من الملفات الدولية لمصلحة بعض القوى العالمية وقوى الإقليم.
ولكن ومع كل هذه الضغوط الأميركية – السعودية على الدولة الروسية بخصوص موقفها من الحرب المفروضة على الدولة السورية، لاحظ جميع المتابعين كيف أن موسكو كانت بالفترة الأخيرة، مسرحاً لمجموعة لقاءات، ومنطلقاً لطرح مجموعة رؤى لحل ملف الحرب على الدولة السورية،ولايعني بالمطلق أن انسحاب الروس من سورية “الجزئي والمرحلي والمشروط “هو تخلي عن سورية الدولة ، بل ما هو إلا دليل على أن الدولة الروسية تسعى وبشكل ممنهج للحفاظ على وحدة سورية وتعزيز مسار التوافق الداخلي بين مكوناتها، وهذا ما يدحض مرحلياً فكرة قبول الروس بالطرح الأميركي لتقسيم سورية. وبالعودة إلى الشق العسكري في الداخل السوري ،والذي يعتقد البعض أن الانسحاب الروسي “الجزئي والمرحلي والمشروط “سيؤثر عليه من جهة استمرار انجازات الجيش العربي السوري على الارض ،فاعتقد أن هذا القرار بالانسحاب جاء في وقته الصحيح بعد أن حقق الحليفان الروسي والسوري معظم اهداف العملية العسكرية المشتركة ،مع العلم أن الروس مستمرون بدعمهم كما هو للجيش العربي السوري بمعارك محاربة الإرهاب وخصوصآ بمعارك “تدمر والقريتين “بريف حمص الجنوبي الشرقي والشرقي “.
فاليوم تمت عملية احكام الطوق على بعض احياء مدينة حلب الشرقية ،وقطع خطوط الامداد بين هذه الاحياء وارياف المحافظة ،وتم تحرير اجزاء واسعة من الارياف الحلبية وخصوصآ بلدات الريف الشمالي الهامة والاستراتيجية على الحدود التركية،وتم تحرير ريف اللاذقية الشمالي والشمالي الشرقي ووضع ريفي حماه الشمالي والشمالي الغربي ومعظم محافظة ادلب بين فكي كماشة ،وتمت بشكل أو بأخر السيطرة على الاقل ناريآ على الكثير من مساحات ريف حمص الشمالي ،وضبط ايقاع معارك ريف دمشق الشرقي والغربي ،وهو ما مهد إلى ايجاد واقع عسكري مريح للجيش العربي السوري بالمنطقة الجنوبية وبدء معارك القضم التدريجي لمساحات مختلفة من محافظة درعا وربطها مع استنزاف عسكري للمجاميع المسلحة بريف القنيطرة ،وهذا بدوره سيفتح الطريق امام عمليات كبرى روسية – سورية بشرق وشمال شرق سورية بالمستقبل القريب جدآ بمحافظتي الرقة ودير الزور . إن الحديث السائد عن حلول سياسية للحرب على سورية دون وجود وقائع ميدانية تسبق هذا الحديث، هو حديث بعيد عن الواقعية، فلا يمكن أبداً الحديث عن حلول سياسية دون إيجاد واقع ميداني جديد على الأرض يجبر قوى العدوان على الرضوخ للحلول السياسية، ولهذا كنا نرى هذا العمل الروسي -السوري على الأرض السورية لفرض هذا الواقع الجديد على الارض تمهيداً لإيجاد حلول سياسية عادلة للحرب على سورية، وبالفعل تم اليوم ايجاد هذا الواقع الميداني .
ختاماً، يمكن القول إن القرار الروسي بالانسحاب “الجزئي والمرحلي والمشروط ” من سورية ،هو قرار يعكس حجم الدهاء الروسي سياسيآ وعسكريآ،وهو يؤكد أن جميع أوراق المساومات التي طرحها الأميركيون -والسعوديون، للضغط على الروس ودفعهم إلى التخلي عن حلفهم مع الدولة السورية قد باءت بالفشل،وهو بشق أخر يؤكد إنّ الدعم الروسي المتزامن مع استمرار انتفاضة الجيش العربي السوري الأخيرة في وجه كلّ البؤر المسلحة في سورية، شكل حالة واسعة من الإحباط والتذمّر عند الشركاء في هذه الحرب المفروضة على الدولة السورية، ما سيخلط أوراقهم وحساباتهم لحجم المعركة من جديد، والواضح اليوم أنّ القرار الروسي الذي يتسم بالحكمة السورية والدهاء الروسي سيدفع بعض القوى الشريكة في الحرب على سورية للاستدارة والتحوّل في مواقفها والقيام بمراجعة شاملة لرؤيتها المستقبلية لهذه الحرب، ومن هنا سننتظر الأسابيع الثلاثة المقبلة لتعطينا إجابات واضحة عن تغيرات وتطورات سياسية كبرى قد تشهدها الساحة الدولية والإقليمية بخصوص الحرب المفروضة على الدولة السورية. [email protected]