23 ديسمبر، 2024 2:37 م

الدهاء الإيراني في التفاوض النووي

الدهاء الإيراني في التفاوض النووي

المقدمة:
في مقال كنت قد كتبته في 28 تشرين الثاني من عام 2007 (أي قبل ست سنين) بعنوان:  النووي الإيراني.. لإنتاج الطاقة أم لإمتلاك السلاح؟
 
كنت قد طرحت فيه سؤالين:
” 1- هل من مصلحة إيران إذا كانت نواياها الحصول على السلاح النووي، أن تسعى لجلب الأنظار إليها على خطوات توسع برنامجها في تقنية الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم, بينما حاولت وفشلت في أن تتكتم على مشاريع مهمة أخرى، كالحصول مثلاً على تقنية استخلاص الماء الثقيل لاستخدامه في تشغيل مفاعل من تصميمها وإنشائها  و”المعروف الآن بإسم آراك”، والذي يستخدم اليورانيوم الطبيعي القادر على إنتاج البلوتونيوم وذلك منذ تسعينيات القرن الماضي؟
أو تسليمها مؤخراً تقريراً إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعد سنتين من المماطلة، عن طريقة تصنيع لب القنبلة النووية تدّعي إيران أن العالم النووي الباكستاني عبد القادر خان كان قد أرسله إليها دون طلبها، مع تصاميم أجهزة الطرد المركزي لتغذية اليورانيوم؟
فهل حسمت إيران هذا التناقض في نياتها مما يعضد جهرها الحالي (في نهاية 2007) بحاجتها إلى إنتاج القدرة الكهرونووية، أم أنها بدعة تفاوضية لإكتساب الوقت لتحقيق غايتها السرية؟
 2- ما هو الخيار الأفضل؟ أهو الضربة العسكرية الأميركية الإسرائيلية المُسبقة للقوة العسكرية الدفاعية والهجومية الإيرانية وقصف البنى التحتية للبرنامج النووي الإيراني، أم التمسك بالأمل في أن تحذو إيران في حالة حصولها على السلاح النووي حذو الموقف السياسي الناضج لدول أخرى تمكنت من الحصول على هذا السلاح فاكتفت بتحقيق طموحها في تعزيز هيبتها وسمعتها الدولية والتلويح بالسلاح النووي رادعا عسكريا يخدم مصالحها وإستراتيجياتها الإقليمية؟
وخلصت تلك المقالة بما يلي:
فالإجابة على عنوان المقال هي أن إيران تسعى إلى الحصول على كليهما.
والإجابة عن التساؤل الأول هي أن شراسة وذكاء إيران التفاوضي مهّدا لها السبيل لبدعة التفاوض الحالية.
والإجابة على التساؤل الثاني هي أن لإيران الحق السيادي في إمتلاك ناصية الطاقة الكهرونووية وبكل حلقاتها ومن ضمنها تخصيب اليورانيوم مع التزامها التام الظاهري بمعاهدات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. إلا أن ما خفي كان أعظم.”
 
الإتفاقية:
مرّت الآن خمس سنوات منذ بدء المفاوضات بين إيران و مجموعة 5+1 حول طبيعة برنامج إيران النووي والتي أثمرت عن الإعلان في 24 تشرين الثاني 2013 بالتوصل الى إتفاق تمهيدي بينهما (النص باللغة الإنكليزية).
لقد تبيّن ما كان خفياً: لقد حققت إيران كافة أهدافها في تحقيق برنامجها النووي السلمي، وكما سآتي على سرده، معتمداً على أدلة علمية و تقنية ودينية وليست سياسية.
كنت قد أعلنت قبل ثمانية أشهر في مقابلة على قناة “الجزيرة الإنكليزية” (ملف للتنزيل بحجم 50 ميغابايت) عن قناعتي العلمية بأن طبيعة البرنامج النووي الإيراني هي سلمية، مما أثار إستغراب وإمتعاض البعض لتناقضه الصارخ مع زخم الحملة الإعلامية السائدة عنه آنذاك (ولا شك لدي بأنه سيثيرهم الآن هذا المقال أيضاً).
و ما الإتفاق الأخير إلا خير دليل لي على قناعة، حتى مجموعة 5+1  بهذه الإطروحة وإلى الوقت الحاضر، ومحاولتهم تسييج البرنامج النووي السلمي الإيراني بشروط الإتفاقية التمهيدية لضمان عدم قيام إيران بتغيير طريقه الى المسلك النووي العسكري.
 
يورانيوم بتخصيب 20% و %5:
نبدء سردنا من عام 1967 عندما تم تشغيل مفاعل للأبحاث بقدرة 2 ميغاواط في جامعة طهران وبوقود من اليورانيوم المُخصّب الى 20% (راجياً الإنتباه الى هذه القيمة من التخصيب).
بالإضافة الى القيام بإجراء الأبحاث النووية بإستخدام قنواته التشعيعية، إستـُخدم المفاعل، وبصورة أصبحت الأكثر أهمية، في إنتاج النظائر المشعة المُستخدمة في علاج الأمراض السرطانية والتي توطّد إستخدامها في إيران في العقود الثلاثة الماضية.
لم تكن شحنة الوقود النووي المُستلمة في عام 1967 تكفي لأكثر من حوالي أربعين سنة لتشغيل المفاعل، وكان على إيران العثور على وقود جديد إضافي لضمان إستمرار تشغيل هذا المفاعل لهذه الأغراض.
لا شك في أن هذا الهدف بالذات (بالإضافة الى أسباب سياسية وأمنية وعسكرية أخرى تطرقت لها في مقالتي المذكورة أعلاه، وهدف الإكتفاء الذاتي من الوقود النووي في تشغيل مفاعلات القدرة)، قد ساهم كعامل مساعد رئيس في إتخاذ إيران لقرارها السياسي في بداية التسعينات من القرن الماضي بالبدء في برنامج نووي طموح بحيث أصبحت هذه الحاجة للوقود بتخصيب 20% وإمتلاك التقنية الوطنية لإنتاج اليورانيوم المخصّب 5% لمفاعلات القدرة هي الأهداف الرئيسية لبرنامج إيران النووي، والتي حققتها إيران فعلاً بالمماطلة والدهاء التفاوضي على مدى السنوات الماضية، بل إنها تجاوزت، خلال فترة المفاوضات المُطوّلة، من حاجتها لهما بإنتاج كميات من كليهما تفوق حاجتها الفعلية لهما (النص باللغة الأنكليزية) لكي تـُقايض، وبإمتياز، تخفيض الكميات الزائدة منهما للحصول على الإتفاقية ولضمان نجاح برنامجها النووي السلمي؛ وإليكم الأدلة.
 
الحصول على اليورانيوم:
لقد استفادت إيران من تجربة العراق القاسية في تمكّن القوات الغازية من قصف و تدمير منشئات برنامجه النووي عام 1991، وذلك بقيامها بالتصويب نحو إعتماد تقنية الطرد المركزي في الحصول على اليورانيوم المخصّب والتي لها عدة مميزات عن باقي طرق التخصيب، وأهمها بالنسبة إلى إيران صغر حجم أجهزة الطرد نسبياً و سهولة إخفاء الالآف منها في أبنية أو منشئآت يصعب الكشف عنها من الجو، مثل موقع (ناتانز)، وعندما إنكشف أمره تم تحويل أجهزة الطرد الى موقع مخفي تحت الأرض كما في موقع (فوردو)  قرب (قم).
يدأت إيران بعمليات تخصيب اليورانيم بتقنية الطرد المركزي منذ أواخر التسعينات من القرن الماضي. وبعد الإستمرار بوتيرة مُطـّردة في إنتاج كميات كبيرة من اليورانيوم بتخصيب 5% ، و لكي تبرهن للعالم عن أغراضها النووية السلمية، تفاوضت إيران مع البرازيل بالقيام بالمقايضة معها (عبر تركيا) 1,200 كيلوغرام من اليورانيوم الإيراني المُخصّب الى 5% بـ 120 كيلوغرام من اليورنيوم البرازيلي المُخصّب الى 20% لإستخدامه كوقود جديد في مفاعلها في جامعة طهران لإنتاج النظائر المُشعة للأغراض الطبية، كما وتعهـّدت إيران على ضوئه بعدم البدء برفع نسبة التخصيب لليورانيوم الإيراني عن 5% وذلك لإثبات نيـّتها عن سبب الحصول على اليورانيوم بنسبة تخصيب 20% .
و تم التوصل الى الإتفاق على كافة تفاصيل هذه المُقايضة (بين البرازيل و إيران و تركيا) في منتصف 2010 (النص باللغة الإنكليزية).
إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية عارضت هذا الإتفاق بين الدول الثلاثة هذه و أجهضته.
ما كان من إيران إلا الرد على ذلك بإتخاذ قرارٍ بإستخدام أجهزة الطرد المركزي المتوفرة لديها بالقيام بنفسها بزيادة تخصيب اليورانيوم الإيراني من 5% الى 20%، كما وأفلح علماؤها ومهندسوها من تصنيع قضبان الوقود ذي التخصيب 20% لمفاعل الأبحاث في جامعة طهران عام 2012 والتي هي عملية تقنية مُعقدة نسبياً وتحقيق هدفها من ذلك.
 
لماذا أنشأت إيران مفاعل (آراك) الذي ينتج البلوتونيوم؟
بدأ العمل في إيران على تصميم وإنشاء مفاعل (آراك) وبقدرة 40 ميغاوات منذ عام 1995 إلى أن كـَشف أمره بعض المُعارضين الإيرانيين في باريس في عام 2002، وكان من المفروض أن يبدأ تشغيله قي النصف الثاني من 2014 إلا أن ذلك الأمر قد توقّف الآن بفعل الإتفاقية التمهيدية ولحين إنتهاء تدقيق الـوكالة الدولية للطاقة الذرية لخرائط تصميمه.
إن هذا النوع من المفاعلات الذي يستخدم اليورانيوم الطبيعي (بدون الحاجة الى التخصيب) والماء الثقيل (المُكلف جداً و المُعقـّد إنتاجه تقنياً) وبهذه القدرة العالية نسبياً يصلح فعلاً لإنتاج البلوتونيوم بالكميات المطلوبة للسلاح النووي، وهو من نفس نوع وقدرة كل من المفاعل الفرنسي في ديمونا الذي يزود إسرائيل بقنابلها النووية والمفاعل الكندي الذي مكّن الهند من الحصول على سلاحها النووي والمفاعل الباكستاني في “خوشاب”.
إن حجّة إيران التقنية لخيارها لهذا النوع من المفاعلات هي أنه سيستخدم للأبحاث العلمية ولإنتاج النظائر المُشعّة للأغراض الطبية والزراعية ولأنه يعمل باليورانيوم الطبيعي المتوفر في إيران.
إلا أن هذا الشرح الضعيف سمح للتأويل في أن يأخذ مساحات واسعة في الإعلام بأن الغرض منه في واقع الأمر هو الحصول على البلوتونيوم للسلاح النووي؛ إلا إن علينا أن نـُدرك بأنه كان خيار إيران البديل (Plan B) (في القرار الذي أُتخذ في منتصف التسعينات من القرن الماضي) للبدء في تصميم وإنشاء مفاعل (آراك) ومنشأة الماء الثقيل المُرادف له، وبكوادر وطنية بحتة، هو لإستخدامه فعلاً لضمان إستمرار توفير النظائر المُشعة للأغراض الطبية وذلك في حالة فشل محاولة إيران من تخصيب اليورنيوم من خلال الطرد المركزي وبعد إحتراق وقود مفاعل جامعة طهران كلياً ، مما يتيح لإيران الحفاظ على خيار الإعتماد على اليورانيوم الطبيعي المتوفـّر لها لتشغيل مفاعل (آراك) مع الماء الثقيل الذي أفلحت فعلاً في إنتاجه محلياً.
 أكدّت إيران عن الهدف من إنشاء مفاعل  (آراك) عام 2013 (النص باللغة الإنكليزية).
إلا أن إمكانية إنتاج البلوتونيوم و إسترجاعه من الوقود المحترق لمفاعل من هذا النوع لإستخدامه في تصنيع سلاح نووي ظل يؤرق الكثيرين (وأنا منهم، و كما سردت في مقالتي عام 2007 المذكورة سابقاً)، وسُيجيب تدقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول تصميم و طريقة تشغيل هذا المفاعل عن هذا الأمر للسبب التالي.
للحصول على نظير البلوتونيوم الملائم للسلاح النووي، يجب تعريض الوقود من اليورانيوم الطبيعي لفترات تشغيل قصيرة نسبياً (عدة أشهر فقط) للمفاعل وسحب الوقود منه قبل أن يتلوّث الوقود المحترق أثر التشغيل الطويل الأمد بنظير آخر للبلوتونيوم والذي يـُبطل مفعول نظير البلوتونيوم العسكري المطلوب.
وأدى هذا الشرط للإحتراق القصير الأمد الى تصميم هذا النوع من المفاعلات بقنوات أفقية لإدخال و إخراج قضبان الوقود بدلاً من التصاميم الشائعة للمفاعلات ذات القنوات العمودية، بحيث يتسنى في المفاعل ذي قنوات الوقود الأفقية، حين وصول زمن التشغيل الى الإحتراق المطلوب لتوفير أكبر نسبة من نظير البلوتونيوم العسكري المطلوب، من دفع قضبان وقود جديدة تدريجياً في القناة الأفقية الى داخل المفاعل والتي تدفع بدورها قضبان الوقود المحترق خارج قلب المفاعل؛ وتجري عملية تبديل الوقود هذه بدون أن تتوقف عملية تشغيل المفاعل الذي يستمر في العمل بكامل طاقته، بعكس الحاجة الى توقـّف تشغيل المفاعل ذو القنوات العمودية عند تبديل الوقود المحترق له ومن ثم إعادة تشغيله.
لذا فإنه سيتبين الغرض الحقيقي من هذا المفاعل بعد تدقيق تصميمه من قبل خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية في الأشهر القادمة، إن كانت قنوات وقوده أفقية أم عمودية، ومن ثم بعد تشغيله من خلال مراقبتهم الفترات الزمنية في تشغيله وإطفاؤه و تردد تبديل وقوده.
لم تأبه إيران خلال السنوات الماضية بالتصعيد الإعلامي الدولي ضد هذا المفاعل و لم تتخاذل عن إنشائه والعمل على تشغيله، وإستغلّت المماطلة في التفاوضات وإطالة عمرها لتحقيق ذلك، وهي ما زالت تصر، حتى بعد الإتفاقية التمهيدية، على تنفيذ الإعمال الإنشائية له وليس للتهيؤ لتشغيله (النص باللغة الإنكليزية). 
وجاء حسم الموضوع، بعد تأكيد إيران في عام 2006 بأنها لا تفكّر في إستخدام البلوتونيوم للسلاح النووي من الوقود المحترق لهذا المفاعل (النص باللغة الإنكليزية) والتأكيد مُجدداً في مفاوضات (طاشقند) في بداية عام 2013 حين أشار بند من بنود الإتفاق النهائي (السري) لتلك المفاوضلت الى تعهّد إيران رسمياً بعدم الشروع في بناء منشأة لإسترجاع البلوتونيوم على أراضيها مما يقطع دابر الحجة في الهدف منه.
كان إعلان إيران عن هذا القرار، بالإضافة الى ما تمخـّض عنه من تبعات نتيجة إلغاء الولايات المتحدة الأمريكية الإتفاقية مع البرازيل وقيام إيران بتخصيبها اليورانيوم الى نسبة 20%، أحد الأسباب المهمة التي أقنعتني بالعدول عن قناعتي السابقة لطبيعة برنامج إيران النووي، وما كان مسك ختامها إلا إدراكي لمكنون الفقرة التالية.
 
التقية و الفتوى
بدء هذا الموضوع كان نتيجة نقاش جدّي مع من أكنّ له فائق الإحترام حول التداعيات السياسية لما صرّحت به في المقابلة التلفزيونية مع قناة (الجزيرة الإنكليزية) في بداية عام 2013، وتشعّب الحديث ليشمل موضوع التقية في المذهب الشيعي وعلاقتها بالبرنامج النووي الإيراني، و مفهوم ولاية الفقيه (التي تضمـّنها الدستور الإيراني والذي ضمن نفسه الكثير من محاضرات الخميني في النجف في عام 1969 والتي صدرت في كًتيّب بعنوان “الحكومة الإسلامية”) وقـُدسية فتوى المـُرشد في دولة ولاية الفقيه.
أود الإشارة هنا الى أن الكثير مما إعتمدت عليه في السرد في هذه الفقرة يعود الى التغطية المستمرة لجوان كول Juan Cole، الأستاذ في قسم التأريخ في جامعة ميشيغان، لهذين الموضوعين والمنشورة على مدوّنته Informed Comment .
قد يطرأ للبعض الشك في أن إيران قد تكون إعتمدت مبدأ التقية في تفاوضها بشأن البرنامج النووي الإيراني وإنها، من هذا المنطلق، لا تجاهر علناً في المفاوضات بما تضمره سراً حول أهداف هذا البرنامج.
إن ” التقية”  تعني إظهار خلاف ما يعتقده المرء بدافع الحيطة والحذر. مع مجيء الخميني الى سدة الحكم في إيران عام 1979، أفتى بترك مبدأ التقية والتعويض عنه بالجهاد مما يقودنا الى فتوى خامنئي. (أوصي لمن يهمه تفاصيل هذا الموضوع الإطلاع على نشرة الأستاذ جون كول (باللغة الإنكليزية) في عام 2012 ). 
جلب إنتباهي أمر الفتوى حول السلاح النووي بعد إطلاعي عابراً على فقرة في كتاب حسن العلوي “شيعة الدولة وشيعة العراق” (عام 2009) يشير فيها الى النقاش الفقهي الذي كان يدور بين أيات الله في (قـُم) في النصف الأول من عقد الستينات من القرن الماضي حول تحريم السلاح النووي من عدمه، وكان الخميني من بينهم. ويبدو أن ختام هذا النقاش الفقهي كان في فتوى خامنئي في عام 2005 بتحريم إنتاج وتخزين واستخدام الأسلحة النووية (النص باللغة الإنكليزية)، كما وأكّد خامنئي تلك الفتوى مرة ثانية في كانون الأول 2012 (النص باللغة الإنكليزية).
 
بناءً على ما أوردته أعلاه من أمور تم التعتيم عليها أو التقليل من أهميتها إعلامياً و أكاديمياً وسياسياً بشكل أو بآخر، توصلت الى القناعة، علمياً، بأن إيران قد تمكنـّت، شاء أم أبى الآخرون،من تحقيق كافة أهدافها من برنامجها النووي السلمي.
 
السرية
خلال الأشهر التي تلت المقابلة التلفزيونية في قناة (الجزيرة الأنكليزية) والمذكورة سابقاً، راودني سؤال مـُحيّر قد يكون طرأ الآن للقارئ الذي إستوعب الأدلة المطروحة أعلاه:
“لماذا لا تقوم إيران نفسها بالكشف عن هذه التفاصيل العلمية للتصدّي للحملة الإعلامية السلبية حول برنامجها النووي وإقناع المُشككين به؟”.
وجزء من الجواب هو أن أخبار قسم منها كان قد أعلن سابقاً وبصورة عابرة في الصحف الغربية (مثل صفقة تبادل اليورانيوم مع البرازيل عام 2010 والذي أجهضته الولايات االمتحدة الأمريكية) والمصادر الأخرى باللغة الإنكليزية في الطروحات أعلاه، كما أن قسماً أخر منها لم يتم الإعلان عنه إعلامياً (مثل تعهّد إيران في مفاوضات (طاشقند) عام 2012 بعدم بناء منشأة إستخلاص البلوتونيوم من الوقود المحترق لمفاعل (آراك)) تحت بند إتفاق المفاوضين على السرية)؛ إلا ان الجواب الشافي لهذا التساؤل ورد في الساعات الأخيرة من الجولة الأولى من مفاوضات (جنيف) في بداية شهر تشرين الثاني 2013 عندما إستشاط غضباً وزير خارجية فرنسا بعد تسلّمه نسخة من مفردات الإتفاقية في الساعات الأخيرة من اليوم الأخير للمفاوضات و أصر على الولايات المتحدة الأمريكية بإدراج مادة تفصيلية أكثر حول مفاعل (آراك) مما أدى الى تعليق التوقيع على الإتفاق لمدة عشرة أيام والى 24 تشرين الأول 2013 بعد أن تم إدراج الشروط الفرنسية في الإتفاقية التمهيدية.
ما مغزى هذا الأمر؟
يبدو لي بأن جلسات المفاوضات التي إستمرت لخمس سنوات خلت كانت تخضع لشرط ثنائي سرّي للغاية مُتفق عليه بين الولايات المتحدة الأمريكية و إيران حصراً (وخارج الكتمان المشروط والمفترض لبقية الدول الأعضاء في مجموعة 5+1) وذلك بعدم بوح الولايات المتحدة الأمريكية أو أيران بالتفاصيل العلمية والتقنية التي يتفق الإثنان عليها على حدة؛ أي أن جزءاً من الإتفاقات التي عُقدت بين الولايات المتحدة الأمريكية و إيران أثناء تلك المفاوضات العديدة كانت خارج علم بقية دول 5+1، وهو ما يفسّر سلوك وزير الخارجية الفرنسي في الليلة الأخيرة من المفاوضات، وهو أيضاً سبب عزوف إيران عن الإعلان عن برنامجها النووي السلمي بكل تفاصيل إرتباطاته العلمية والتقنية.  ولقد أكّد وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، في مقابلة تلفزيونية على قناة (الجزيرة الإنكليزية) ليلة 8 كانون الأول 2013 ، وجود هكذا “مباحثات جانبية” بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية أثناء جولات المفاوضات مع مجموعة 5+1.
إلا أن أيران تمكنّت بفعل مراوغتها و صبرها ودهائها من تحقيق كافة أهدافها النووية السلمية من التنقيب عن اليورانيوم وإستخراجه وتخصيبه وكذلك أيضاً في تصنيع الوقود النووي للمفاعلات و حتى الوقود المٌخصّب بنسبة 20% لمفاعلها في جامعة طهران والتهيؤ للبديل عنه في مفاعل (آراك)، كما وأعلنت عن نيتها بإنشاء مفاعل ثان لإنتاج النظائر المشعة للأغراض الطبية.
 
وما خفي كان أعظم.