18 ديسمبر، 2024 7:21 م

الدليم أوسع من كونها قبيلة على ضفاف الفرات

الدليم أوسع من كونها قبيلة على ضفاف الفرات

الدليم قبيلة ذات نفوذ كبير وإنتشار واسع في العراق، قبيلة وحدت ذاتها بمواجهة الأخطار التي كانت تحيط بها على مدى القرون الماضية، سميَّ أكبر لواء في العراق بإسم قبيلتها في زمن العثمانيين خلال القرن التاسع عشر، وهذه التسمية تعتبر سابقة في تاريخ المسميات الإدارية في العراق، إحتفظت بإسم لوائها المنسوب للقبيلة لفترة طويلة من الزمن، إلى أن إنتبهت الدولة العراقية الحديثة إلى ذلك، وأبدلت أسمها من لواء الدليم إلى محافظة الأنبار في الستينيات من القرن الماضي.
لو تهيأت لها ظروفاً سياسية أفضل في ذلك الوقت، تخرجها من السلوكيات القبلية الى العمل المؤسساتي المنظم، لكانت هذه القبيلة إمارة بحد ذاتها، حالها حال إمارات الخليج. ولو تصرفت كما تصرف مشايخ الخليج قبل إتفاقية سايكس بيكو وبعدها لكانت إمارة على غرار الكويت وقطر والبحرين، لكنها فضلت البقاء ضمن عراق كبير موحد. ولا أعتقد إنها كانت عاجزة عن ذلك، كل ما ينقصها كان التنسيق مع صناع القرار وإعلان الإمارة والسير بتفس مسار السعودية وإمارات الخليج العربي.
نعود إلى قوة هذه القبيلة ألتي تعتبر من أقوى القبائل العربية في العراق والمنطقة، ميزتها القوية إنها رغم قوتها ونفوذها الواسع، لم تكن يوماً خصماً للحكومات في الدولة العراقية الحديثة، فهي رغم تمردها على الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، إلّا إنها وقفت معها ودعمتها ضد الإحتلال البريطاني. وفرضت وجودها على أرض العراق منذ اكثر من عدة قرون، وأصطفت مع الملكية ودعمتها وتزعمَ رجالاتها الجمهورية العراقية في الستينيات من القن العشرين.
لم تجد كل الحكومات في الدولة العراقية الحديثة طريقاً سوى طريق إرضاء هذه القبيلة والمحافظة على بقائها في صف الدولة، ونجحت معظم الحكومات في ذلك وحافظت على دعم الدليم الذي كان له السبق والفضل في بقاء العراق موحداً طوال فترة القرن العشرين.
في المقابل، أدى ذلك بقبيلة الدليم إلى أن تختصر وتتقوقع تحت مسمى لواء الدليم، فهي أصلاً باراضيها الساشعة، عندما رقاها العثمانيون الى مرتبة لواء واطلقوا عليها تسمية لواء الدليم كان ذلك تميزاً وتكريماً لثقل قبيلتهم، لكن هذا التميز سُحِبَ منهم عندما أصبحت الدولة العراقية قوية، ومنحوا أسم ( الأنبار )الأكثر شمولاً وعمقاً.
قدراتها وإمكانياتها القوية مكنتها من مد نفوذها والإستحواذ على ضفتي نهر الفرات من الحدود السورية وصولاً الى المسيب في محافظة بابل، لم تأتي هذه السيطرة صدفةً أو إعتباطاً، وإنما جاءت نتيجةً لقوة وصلابة رجال هذه القبيلة على مدى القرون الماضية. لم يتركوا لغيرهم من القبائل فرصة للتمدد على الفرات، بل إنهم تجاوزوا الفرات وزحفوا نحو دجلة في بغداد وصلاح الدين ونهر ديالى في ديالى. وأن تمددهم كان من الممكن أن يستمر شمالاً وجنوباً على الفرات ودجلة لولا ظهور الدولة العراقية القوية في زمن الملكية وما بعدها، التي أوقفت تمدد الإقطاع ووزعت الأراضي على الفلاحين ضمن قوانين الإصلاح الزراعي.
هذا لا يعني إن الساحة كانت خالية لقبيلة الدليم وحدها، قبائل كبرى كانت تتزاحم معها على الجزيرة والشامية في محافظةالأنبار، لكنها إنزوت وتركت الميدان لقبيلة الدليم. قبيلتا شمر وعنزة قبائل عربية كبيرة، كانت تسيطر على البادية في الانبار وتحلم بالهيمنة على ضفاف الفرات، لكنها إصطدمت بقوة وصلابة عشائر الدليم. لم يبقى لقبيلة عنزة إلا معاقلها في الصحراء الغربية الجنوبية من العراق في الهبارية والنخيب، بل إن الدليم بدأوا يزاحموهم حتى في صحراء النخيب والعوج، وهذا ما أشار إليه شيخ عنزة متعب المحروت رحمه الله في إحدى لقائاته مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، شاكياً محاولة إحدى عشائر الدليم السيطرة على مزارع العوج في الصحراء قرب منازل ومرابع قبيلة عنزة.
وكذلك قبائل شمر التي كانت تجوب صحراء الأنبار وديارها تحت لواء أبن الرشيد، بحثاً عن موطأ قدم، لم تتمكن من الحصول على ما تبغي وأكتفت بوجودها في الحضر غرب الموصل والحويجة، بعد أن تمددت على حساب قبائل العبيد في تلك المناطق، تاركةً الأنباروما فيها للدليم.
نتيجة لتلك الصراعات التي كانت تحدث، توسع إنتشار قبيلة الدليم إنتشاراً أوسع، شَمِلَ ثلث مساحة العراق أو أكثر، فهي لم تكتفي في بتواجدها على ضفتي الفرات، بل إنها تمددت نحو الصحاري ولها مرابعها الخاصة في الصحراء، كل عشيرة تجد لها تواجد ريفي على الفرات ودجلة وفي نفس الوقت تواجد بدوي يرعى الماشية والإبل في الصحراء الغربية لمحافظة الأنبار التي يطلق عليها الشامية، والصحراء الموجودة ما بين دجلة والفرات التي يطلق عليها بالجزيرة.
لم يسلم من سيطرة الدليم على الفرات إلا مدن الفرات القديمة التي حافظت على هويتها ونسبها، وهي كل من هيت وكبيسة وحديثة وعنة ورارة وألوس والبغدادي. وهذه المدن تفوقت على قبائل دليم مدنياً، فبلغ صيت أبنائها عالياً في الوزارات والجامعات والجوامع طوال القرن الماضي، ويمكن أن نقول أنهم برزوا سياسيا وإدارياً وعلمياً ودينياً، على عكس أبناء قبيلة الدليم الذين كانت الوظائف السياسية والعسكرية والأمنية تجذبهم أكثر.
مع بدايات القرن العشرين لم يمارس أبناء عشائر الدليم دوراً سياسياً كبيراً، حتى حصلت القبيلة على أول تمثيل سياسي لها في المجلس التأسيسي لعام١٩٢٦، عندما عُينَ الشيخ علي سليمان شيخ مشايخ الدليم عضواً في المجلس التأسيسي مع الشيخ فهد المحروت عن عشيرة عنزة، كممثلين عن لواء الدليم، وأضيف لهم ألسيد أحمد الدفتري من بغداد لإدارة شؤون اللواء من الناحية الإدارية، كونهم كانوا لا يجيدون الكتابة في الشؤون الادارية .
كما لا يفوتنا مشاركة عشائر الدليم في ثورة العشرين بقوة ،هوجمت الحاميات البريطانية من قبل عشائر البو نمر والبومحل على الحدود السورية بقوة.

بعد تأسيس الدولة العراقية عام ١٩٢١، إستطاعت قبيلة الدليم أن تزج شبابها في صفوف الجيش العراقي، وتمكن إثنان من أبنائها في الستينيات من القرن العشرين تسلم حكم العراق، وهم كل من عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف، وهذا يعتبر أول زعامة دليمية لحكم ألعراق، بالإضافة الى العديد من القادة الذين تسنموا مناصب مهمة في زمن الملكية والجمهورية. لكن الجيل الجديد ظهر بقوة في زمن البعث حيث إستطاع الألاف من أبناء قبيلة الدليم أن ينخرطوا ضباطاً مرموقين في الجيش العراقي والقوات الأمنية، شاركوا في حروب ٦٧، ٧٣،وحرب الشمال، والحرب العراقية الإيرانية، وحرب الخليج الثانية وصولاً الى سقوط بغداد.

بعد السقوط كانت محافظة الأنبار ممثلة بالدرجة الأولى بعشائر الدليم وبقية العشائر على موعد مع فترة جديدة، تمثلت بظهور جيل جديد من السياسين الذين ينتمون لهذه القبيلة، فكان لهم البروز، وما زال بروزهم طاغياً على معظم عشائر محافظتهم، بل تجاوزوا ذلك وأصبح تواجدهم يمثل الثقل الأكبر للمجتمع السني في العراق، الذي يشمل الأنبار ونينوى وصلاح الدين وكركوك وديالى وبغداد.
لم تعد المناصب المهمة تنسب للعاني أو الراوي أو الحديثي كما كان في السابق، فمنصب المحافظ أصبح حكراً لقبيلة الدليم، وينطبق الأمر على غيرها من المناصب المهمة في المحافظة، وهذا يعود لثقلهم السكاني وسيطرتهم وتواجدهم السياسي في مراكز صنع القرار في الدولة العراقية. مرحلة ما بعد ٢٠٠٣ أظهرت لنا العديد من الشخصيات السياسية الكبيرة ومنها عدنان الدليمي وخلف العليان وصالح المطلگ واحمد العلواني ورافع العيساوي محمد الحلبوسي وخميس الخنجر.
أخيراً ، السؤال الكبير ألذي يراود أهل الأنبار والمحافظات الغربية مع ظهور مشاريع الفدرالية والتقسيم التي يلوح بها القاصي والداني، هل إن قبيلة الدليم فوتت فرصة إستقلالها قبل مائة عام تقريباً؟ أم أنها كانت كانت صمام أمان لوحدة العراق على مدى قرن 85 عاماً من تاريخ الدولة العراقية الحديثة؟ الجواب لكم……