23 ديسمبر، 2024 10:25 ص

الدلالات الزمكانية في السرد في رواية  انزياح الحجاب من بعد الغياب للروائي جاسم عاصي‎

الدلالات الزمكانية في السرد في رواية  انزياح الحجاب من بعد الغياب للروائي جاسم عاصي‎

بعدَما أنزلوني، سمعتُ الرياحْ  
  في نُواحٍ طويلٍ تسفّ ُ النخيلْ
والخطى وهيَ تنأى.إذن فالجراح
والصليبُ الذي سمّروني عليهِ طول الأصيلْ (بدرشاكر السياب)
يرتبط بناء الزمكان في الرواية على عنصري المكان الذي يمثل الخلفية التي تقع فيها أحداث الرواية ،والزمان الذي يمثل وقت حدوث هذه الأحداث وتطورها لكن رغم هذا الارتباط فيما بين الزمان والمكان لا ان هناك اختلاف في خصائص كل منهما يكمن هذا الاختلاف في طريقة فهم وإدراك خاص لكل من الزمان و المكان ، حيث يرتبط الزمان بالجانب النفسي بشكل مباشر اما المكان فيرتبط بالجانب الحسي الوصفي الملموس ،ورغم هذا لاختلاف في الخصائص واليات التأثير الا إننا تعودنا دائما ان إدراكنا للمكان مرتبط او محايث لإدراكنا للزمان ،لذلك ظل الارتباط النفسي للأشياء المحسوسة ارتباط يحمل تصورات زمكانية ترتبط ارتباط وثيق مع الاحداث اما لتوضيحها او للتعبير عنها كما يؤكد ذلك (فنلمس)، ومن هذا المنطلق يرى اغلب النقاد ان الزمكان عاملان مركزيان في تشكيل فضاء السرد فلا وجود لوصف خارج المكان كما لاوجود لأحداث بدون زمان ، وهذا ما أكد عليه (باختين) حين قال : ان علاقة الزمان والمكان في السرد هي علاقة تعالق  فالروائي حينما يبدءا في تشكيل او بناء عوالمه الخاصة يسقط من خلال إطار ادراكه الخاص للأحداث والشخصيات رؤيته على الزمكان ولا يمكن ان تتضح هذه الرؤية الا بفهم وتحديد دلالة الزمكان في السرد ولتوضيح ذلك علينا تسليط الضوء على طبيعة ونوع هذه الدلالات ، فما نعنيه بالدلالات الزمكانية هي تعبيرات وتلميحات لغوية ورمزية وأوصاف خاصة بطبيعة الزمكان تساهم وتؤثر في ادراك موضوع او تشير لأحداث ومتغيرات مثل الأماكن المتقابلة او المتعرضة ريف / مدينة ، او زمن مرتبط بصيغ الأفعال متعارضة او متقابلة مثل ناجح/ فاشل، ليل / نهار وبالتالي فأن هذه الدلالات تخضع في تشكلها الى رؤية نسقية ترتبط بذات ووعي المؤلف لذلك اعتمدنا في هذه الدراسة على بحث طبيعة هذه الدلالات وما مدى سطوتها على النص الروائي من خلال السرد، ولتبيان ذلك اعتمدنا البحث عن الدلالات الزمكانية في رواية ،انزاح الحجاب ما بعد الغياب للروائي جاسم عاصي الصادرة عن مؤسسة ناجي النعمان – بيروت ٢٠٠٦ . حيث تبدءا لحظة التجلي الرمزي والدلالي في عنوان الرواية المفعم بالأسرار والألغاز السحرية والطقسية المرتبطة بالخيال الحكائي الشعبي القديم وهي دلالة على نمط التجلي والإخفاء في القصص التاريخية القديمة ،ثم استهلال خطابي شعري مباشر للشاعر هادي الربيعي لكنه استهلال ينعكس على أحداث الرواية وشخصياتها لانه يكرس جدلية الصراع التاريخي مابين الواقع والأسطورة ( هذه الحقيقة أيها الناصري فَلَو لم أكن أنا يهوذا الاسخريوطي لما كنت انت مسيحا ولو لم تكن انت مسيحيا لما كنت أنا يهوذا هذه هي الحقيقة) وهنا دلالة واضحة على فعل التجلي والإخفاء التي تشكل ثيمة أساسية في بناء الأحداث من خلال بطل واحد هو سعيد الناصري والذي استطاع الكاتب من جعله شخصية تيمية مكثفة تتميز بخصائص كثيرة دينامكية تتطورمع تطور سياق الفعل والاحداث بشكل دلالي رمزي عبر فصول الرواية ،توزع صوت السرد في الرواية مابين راوي عليم لكنه يتدخل عبر مشاركته في صياغة الفعل او الاحداث، (لهذا اعتبارات خاصة لابد ان ينبهو لها) وصوت سعيد الناصري بطل الرواية الذي يهيمن على اغلب فضاء السرد،تتحرك الاحداث عبر سلسلة افعال ووقائع تكون خط شروع الحدث تبدءا من فصل الاغتسال التي يستعيد معها سعيد لحظة الخطاب الثوري ثم فصل التشيع الذي يمثل مدخل للتحول في فعل السرد ثم فصل الاستدعاء وهو بداية الحافز وذروة الاحداث الثورية  وفصل الدوران والانحلال او الغياب و الخاتمة وعليه فإننا امام طبيعة سرد مجازية ملغزة تتميز بفعل اللزام وتأكيد على وجهات نظر يقينية وأحداث وأماكن رمزيه دلالية وهذا ما دفع المؤلف لتبني لغة خطاب دلالية مكثفة وذلك لسحب الاحداث الى العمق التاريخي والأسطوري (كان سعيد الناصري يسير على مهل امام النعش الراقد داخله جثمان من يشبهه اسما وخلقا مكشوف الوجه للسماء يسير الهويناء)وهو أشبه بطقس جماعي ثوري . وبالعودة الى موضوع الورقة الدلالات الزمكانية في السرد يتضح لنا ان صور هذه الدلالات وتجلياتها تتكشف عبر أماكن وإحداث وشخصيات تتداخل وتتعارض فيما بينها داخل زمن مكثف ينفتح على عدت دلالات نفسية وخطابية بأسلوب التجلي والإخفاء فمنذ المشهد الأول الذي يعنونه بفصل الاغتسال يضعنا الكاتب أمام  زمكان دلالي طقسي المغتسل الذي تحول الى رمز ديني تتطهر من خلاله الأجساد الميتة للقاء الخالق لكنه يعني عند سعيد الناصري ولادة جديدة ( تجمع الناس منتظرين ،وحين لا حظوا ظهور التابوت تخلخلت صفوفهم … كثر التكبير وضجت الصفوف لكنها هدأت حالما انزل التابوت … قطعوا الانفاس اذ ظهر رأس سعيد الناصري … قال سعيد : انظرو أيها الأصدقاء هاهو الناصري قد ولد توا)لقد حدد هذا المشهد مكان محدد هو المغتسل في مدينة كربلاء من خلال وصف الراوي للمكان لكنه لم يحدد بالدقه الفعلية زمن الحدث بل تعمد التلاعب بالزمن لجعل الزمن مفتوح على عدت دلالات تاريخيه من زمن عادي الى زمن متداخل أسطوري في كل شيء من لحظة الاغتسال الى الدفن مرورا بزمن الاعتقال ومن ثم الغياب والظهور بشكل جديد بنفس الاسم والفعل فنحن أمام زمكان واحداث وشخوص تتناسخ نفسها عبر ملحمة الصراع او نضال مابين الخير ضد الشر مرتبط بفكرة أسطورية قديمه هي عودة (المخالص) لكننا نجد ان هذا التعارض مابين زمن مفتوح او متداخل مع عدت أزمنة ومكان تاريخي فجائعي مقدس الهدف منه هو أسطرة الزمكان وجعله لامتناهي  عبر استدعاء دلالي لأحداث الماضي وكأن الكاتب يحيلنا الاحداث معينه طالما خفضتها ذاكرتنا وتحولت جزء من وجودنا اليومي تتمثل بواقعة ألطف ومقتل الإمام الحسين حتى انه أشار لها في فصل التشيع بالغة شعبية (يا ويلّي على العباس .. أبد والله ما نفسه حسينا ) فهذا الاستدعاء استدعاء دلالي يكشف هذا النزوع التاريخي والأسطوري للتصور الشعبي المرتبط باللاوعي الجمعي للنصوص القديمة التي شكلت ذاكرت ألامه وكأن لسان حاله يردد ، كل ارض كربلاء وكل يوم عاشوراء فرغم مقتل الحسين منذ فتره طويلة لكننا نستعيد هذه ألحظة بكل تفاصيلها الحزينة وهي استعادة لثورة الحسين لذلك ظل خالدا في ضمائر الأحرار والمناضلين هكذا هو سعيد ما ان يقتل او يغتال سيظهر سعيد اخر يكمل دور النضال والحريّة ، (فنحن أسماؤنا واحدة ومصيرنا واحد ومسيرتنا في الحياة على خطو بَعضُنَا ) ان هذا الاستدعاء هو استدعاء ينسجم مع ذهنية و مخيال الوعي الشعبي الذي يعزز روح الإصرار والثورة لدى الجماهير فيعتقل سعيد ويموت سعيدو سيعود سعيد اخر يكمل المسيرة ، تعمد الكاتب  ربط أسطورة الهور بأسم سعيد الناصري الحامل سر ووهج كوت حفيظ كإرث مقدس كي تكتمل صورة المخلص وكراماته ، وكي تكتمل لعبة الاخفاء والتجلي حاول المؤلف إعطاء الزمكان ابعاد أوسع وذلك بكسر هذا التسلسل الزمني للأحداث وكذلك لجعل الزمكان مفتوح على تأويلات مختلفة من خلال استدراكات سردية مختلفة الإحداث تحولات في نسق السرد او حكي الحكي وهي استدراكات للفت نظر المتلقي لكن بأسلوب التنبيه والتوضيح ( إليكم ما نقله احد الثقاة من اهل المدينة ) ان موت او قتل سعيد الناصري موت رمزي لان سعيد حكاية وليس فرد سعيد ثقافة وثورة لايمكن خنقها لانها ارث و سَنَن الأبطال أسطوريون لا يموتون الا مع موت الثقافة التي أنتجتها .بحثنا بشيء من التفصيل عن الدلالات الزمكانية في الرواية وتوصلنا الى ان مضمون هذه الدلالات يرتكز على تعالق وارتباط واضح ما بين الزمان و المكان وذلك لارتباطهما بدلالات ترتكز في مضمونها على بعد أسطوري ينفتح على عدت عوالم دينية وتاريخية مختلفة حيث يحدث هذا التعالق من خلال تفاعل الزمان متمثل بالتاريخ باعتباره احداث زمنية ( ماضي) لكن ماضي طافح بالانفعالات والصراعات النفسية مثل كوت احفيظ ومعركة ألطف الشهيرة، ومكان متمثل بكربلاء الثورة وكربلاء الحسين ودم الحسين وما تحمله من اثار مكانية محسوسة مثل المراقد والمغتسلات والمقابر وعليه تكون هذه الدلالات الزمكانية خالقه لاسطوريتها ووجودها النفسي والحسي عبر تتابعات وتباينات نسقيه ولغوية مختلفة وكأننا أمام زمان ومكان واحد . اعتمد الكاتب اُسلوب وصفي مكثف في سرد الاحداث ولغة شعرية ثيمية اي لغة على لغة والتي تظهر من خلال الاستدراكات الموزعه على فصول الرواية اعتمد الكاتب خط حكائي  واحد على طول الرواية وهي تقنية الاخفاء والتجلي مما جعل بناءها اقرب الى بناء القصة منه الى الرواية في الختام نحن امام رواية غنية بالدلالات التاريخية والنفسية والاجتماعية ترصد فعل الثبات والتمركز الأسطوري لشعوبنا المسحوقة بفعل الإرث الثقافي والسياسي والاقصائي لذلك نتشبث بأساطيرنا لعلها تمحي او تخفف خسارتنا للواقع المعاش.