الدكتور لؤي يونس بحري مفكر سياسي وأكاديمي بارز، جمع بين عمق التحليلورصانة الموقف، وترك أثرًا علميًا في دراسات الشرق الأوسط والخليج.
ولد الدكتور لؤي في حضن العراق، في مدينة السلام بغداد عام 1934. أكمل دراسته الابتدائية والثانوية في بغداد. عند إكماله الدراسة الثانوية جابه العديد من الصعوبات المادية والاجتماعية والتي تجاوزها بتصميم وعصامية فريدين. قرر الدخول الى عالم الأكاديميا فتوجه الى عالم القانون فدخل كليةالحقوق في بغداد عام 1953.دفعه الى ذلك المسار لأنه لم يكن شابًا عادياً إذ كان يحمل بداخله مشاعر إنسانية واسئلة حول واقع المجتمع. مُنح شهادة الحقوق عام 1957. وبرغم التحديات السياسية التي عصفت بالعراق في الخمسينيات، ظل لؤي هادئًا في مظهره، متمرّدًا في أعماقه. لم يكن يرفع صوته، لكن كلماته كانت تمضي أبعد من الخطب، وتحفر في وجدان زملائه أسئلة لا تُمحى. غادر الى بلد القانون والحرية فرنسا، فالتحق بجامعة مونبلييهلدراسة الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية. لم تكن تلك الغُربة غياب وطن فحسب، بل لحظة مواجهة مع الذات. كانت باريس تفتح له مكتباتهاومراكزها العلمية التي نهل منها الكثير. أكمل دراسة الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية عام 1962. حيث دافع وبنجاح عن أطروحته التي عالجت “النظام السياسي في المجتمعات الخليجية”. وكان يطرح تساؤلات سبقت زمنها: ما العلاقة بين النفط والهوية؟ بين الثروة والاستقرار؟ وكان صوته الأكاديمي التحليلي يعلو في ميادين الثقافة والاقتصاد.
عاد الى العراق والتحق بكليته التي ترعرع فيها ليوفي الدين لها ولوطنه بغرس المبادئ الخيرة في طلابه وتنويرهم بما حصل عليه من معرفة بالعلوم السياسية وخبرة في الحياة، بمحاضراته والحلقات الدراسية واللقاءات العلمية التي كان يعقدها خارج المحاضرات المنهجية.
ترك الدكتور لؤي العراق عام 1979 في ظل تصاعد الأوضاع السياسية والأمنية التي رافقتها، وهي مرحلة شهدت تضييقًا شديدًا على الحريات الأكاديمية، وفرض الولاء السياسي داخل الجامعات ومراكز البحث. وكأستاذ مستقل التفكير، غير منتمٍ إلى أي تكتل سياسي، وجد نفسه أمام مفترق حرج: إما الخضوع لمنظومة فكرية شمولية، أو الحفاظ على كرامته واستقلاله العلمي والفكري. فاختار المغادرة ليواصل مسيرته الأكاديمية في فضاء أرحب، فدرّس في جامعات عربية ودولية، وساهم من موقعه في الخارج في تحليل قضايا العراق والشرق الأوسط بموضوعية وعمق، دون أن يقطع صلته بوطنه الذي بقي حاضرًا في كتاباته ووجدانه.
في مسيرته العلمية توجه الى حيث حصل على زمالة مؤسسة ألكسندر فون هومبولت، هي واحدة من أرقى الزمالات الأكاديمية في العالم، تُمنح للباحثين والعلماء المتميزين من خارج ألمانيا لتمكينهم من إجراء أبحاث متقدمة بالتعاون مع مؤسسات أكاديمية أو بحثية ألمانية. قضى عامًا كاملا في جامعة كولونيا في ألمانيا. وخلال هذه الفترة، انكب على تطوير بحوثه في الشؤون السياسية للشرق الأوسط، مما ساعده في تعزيز مكانته كباحث دولي. هذه الزمالة كانت أيضًا اعترافًا بتميّزه الأكاديمي واستقلاله الفكري، وفتحت له أبوابًا نحو التعاون العلمي المستدام مع مؤسسات فكرية رصينة. كذلك حصل على الدبلوم من أكاديمية لاهاي في القانون الدولي عام 1970.
انتقل الى الولايات المتحدة حيث عمل في جامعة تينيسي بالولايات المتحدة. كان أستاذًا مهاجرًا، يُعلّم طلابًا عن خريطة شرق أوسط ممزّق، لكن صوته كان يحمل الدفء العراقي ذاته، والحكمة التي لا تُشترى. كذلك كان أستاذاً زائرا في عدد من الجامعات الامريكية والعربية. وفي نهاية المطاف استقر في واشنطن العاصمة.
من نتاجه العلمي والثقافي الغزير كتبا تعتبر مرجعا سياسياً زتاريخياللباحثين:” الصراع الدولي حول جزيرة أبو موسى قبل الحرب العالمية الأولى“1971، “التعاون والتنظيم الدولي في القرن التاسع عشر“ 1964،“ سكة حديد بغداد: دراسة في تاريخ ودبلوماسية مسألة سكة حديد بغداد (1890–1914)” 1967،” مبادئ العلوم السياسية” 1966، 1967 و”الحركة الوطنية في تونس من الحماية إلى الاستقلال” 1965. ومما يجب ذكره هو إغناءه الموسوعة البريطانيا بمقالات بحثية في فصل “العراق” في كل إصدار سنوي لها من عام 1989 وحتى عام 2003. ونشر فيها مقالات مطولة عن الوضع العراقي في موسوعات أخرى. كذلك نشر مقالات في مجلات عالمية وعربية. واعترافاً بكفاءته وقدراته البحثية والأكاديمية فقد أنيط به تقييم 38 كتاباً نشرها علماء وباحثين من المجتمع الغربي والعربي.
وهذه نبذة مختصرة عابرة عن المسيرة الفريدة لهذا العالم الذي لم يتطلع الى مردود لما قدم وأفنى سنوات عمره في خدمة العلم والمعرفة. لقد كان يعمل بصمت ويستجيب وبكل رحابة لكل طلب في مجال اختصاصه من الطلبة والباحثين. عرفه الجميع صادق الكلمة يقول ما يضمر ويعني ما يقول ويوفي إذا وعد.
لقد كان مثقفاً من نوع خاص: لا يبيع رأيه، ولا يصفّق للحاكم، ولا يُساير التيار. اختار أن يكون شاهدًا، يكتب المقال لا ليُعجب، بل ليزعج الضمير الكسول. وبالرغم من الجدية التي تطغى على مسيرته وانحراف صحته في السنين الأخيرة لكنه لا زال يحب التندر ويجيد النكتة وويستمتع باللقاءات الاجتماعية ويطغعى على نظته للحياة بالتفاؤل الذي يعكسه على من حوله.
أطال الله في عمره وحفظه رمزا وطنيا وعالما سامقا.