أجرت قناة أور الفضائية مؤخرا حوارا رائعا مع أستاذ الإعلام بجامعة الشرق الأوسط في الأردن ومعاون عميد كلية الاعلام في تلك الجامعة الدكتور كامل خورشيد ، ضمن برنامج (الرقيب) ..وكان موضوع الحلقة (السلطة الرابعة بين المهنية والتسييس)، وهو من موضوعات الساعة التي تشكل محور اهتمامات رجالات السلطة الرابعة في الحفاظ على أخلاقيات المهنة ، وبخاصة سعيهم من أجل الحفاظ على الحيادية والحرفية والمصداقية في الرسالة الاعلامية، والحوار يجيب بحرفية ومهنية عالية عن تساؤلات الأجيال الصحفية الشابة ، وكل من يريد أن يدخل أسوار تلك المهنة ، ويسبر أغوارها، ويؤشر التحديات التي تواجه السلطة الرابعة ، وكيفية المحافظة على مثل وأخلاقيات تلك المهنة من مخاطر التسييس.
وقد أجاد مقدم الحوار الاعلامي إسماعيل الجنابي في تقديم هذا الحوار الشيق أيما إجادة ، وكان الرجل على درجة عالية من المهنية في التقديم ، وأنتقاء نوعية ومضامين الأسئلة التي هي محط أنظار الكثيرين..ولأهمية ما ورد فيه من معلومات إعلامية قيمة عرضها زميل العمر الدكتور كامل خورشيد..وأبدع في التعبير عن تساؤلات تهم الأسرة الصحفية عن موضوع حيوي عصري، يتناول السلطة الرابعة..ومستقبل الصحافة والاعلام عموما في ظل الفوضى الاعلامية التي تشهدها الساحة الاعلامية الآن..
وكان السؤال الأول الذي طرحه مقدم الحوار ، الاعلامي إسماعيل الجنابي هو : ماهو المعنى المتداول عن مفهوم الاعلام كسلطة رابعة…هل هو حقيقة أم مجازا..وكيف جاءت هذه التسمية ؟؟
فأجاب الدكتور كامل خورشيد عن هذا السؤال المحوري بأن مفهوم السلطة الرابعة، هو مفهوم مجازي بالتأكيد، لأن لا وجود للسلطة الرابعة في السلطات الثلاث الموجودة في الدولة، السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية..هذا هو التنظير ، لكن الواقع أن الصحافة منذ أن وجدت ككلمة مطبوعة أو منطوقة ، ومن ثم تطور المفهوم في القرن الخامس عشر، الى القرن العشرين تحول مفهوم الصحافة الى إعلام، لأنه رافق الصحافة الورقية وأنواع اخرى من الصحافة، الاذاعة والصحافة المرئية ، وأصبح يطلق كلمة الاعلام على الصحافة بشكل عام، في منتصف القرن العشرين.
وقال خبير الاعلام المخضرم الدكتور كامل خورشيد ضمن الحوار الشيق إن الاعلام الان قد غادر مفهوم السلطة الرابعة ، وأصبح يطلق عليه مجازا السلطة الأولى، من حيث القوة والتأثير ومن حيث تشكيل الرأي العام، ومن حيث الهيمنة في المجتمع، ومن حيث التغييرات التي يحدثها الاعلام وبخاصة خلال السنوات الثلاثين الاخيرة من خلال ما نسميه الان بالاعلام الحديث او الاعلام الرقمي والقوى الفاعلة فيه هي شبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت هي الوسائط لنقل الاعلام الى الجمهور، فأصبج الجمهور الان مشاركا، في العملية الاعلامية، وفي السنين والقرون الماضية كان الجمهور هو المتلقي ، ولا يحلم المواطن في يوم من الايام سابقا ان يكون له صوت او ان يكون هو ناطق عن نفسه، والان كل مواطن لديه صفحة ولديه حساب، وتحتمل الايجابية والسلبية حسب الاستخدام، وهذا يعتمد على استخدام منصة التعبير في الإعلام.
وعن سؤال عما يميز الصحافة سابقا بأساليبها ومضامينها عن الصحافة الحالية قال الدكتور كامل خورشيد أن مفهوم الصحافة يحتمل جزئين، الصحافة كمفهوم من جانب، والصحافة كممارسة، والصحافة كمفهوم باقية الى ما بقي الانسان، لأن الصحافة أو الاعلام هي التعبير الموضوعي لعقلية الجماهير، أما ما تحتاجه الجماهير من معلومات يشترط ان تكون المادة في الاعلام حقيقية مفيدة للجمهور وتخدم المجتمع، لكن كممارسة الان فأن الفرق أصبح في السنوات العشر الأخيرة ، أصبح هناك تحول جذري في الممارسة، وكبريات الصحف العالمية غادرت الورق الان، والصحافة الورقية باقية حيث الاجيال الحالية لايمكنها ان تغادر الصحافة الورقية لأن لها تقاليدها، من حيث نكهتها والاطلاع عليها صباح كل يوم، ويشم القاريء احيانا حتى رائحة الحبر، أما الان فقد غادرت الاجيال الجديدة هذا الشيء بحكم التطور، والصحافة بقيت لكن الوسيلة تغيرت، والوسيلة الان الانترنيت، وسابقا كانت المطابع.
وبشأن تأثير الصحافة يوم كانت مملوكة للدولة والان يملكها أفراد ومؤسسات ورجال اعمال ، أجاب أستاذ الاعلام بقوله: إن تأثير الصحافة من حيث كونها مملوكة للدولة ، قد تكون السلطة تاجرا وقد تكون سابقا الطبقة البرجوازية أو الطبقة الحاكمة، لكن مع الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر وتحرر أوربا، من عهود طويلة من العبودية ، دولة الحكم الالهي ، البابوية ، وبخاصة في زمن نابليون وما تلاه، أثر على كل الكرة الارضية، ونشأن هناك صحافة أخرى حرة شعبية، ناطقة بإسم الجماهير، فأصبح بعض المستثمرين الافراد، أصدروا صحفا، وعلى سبيل المثال فأن أقدم وكالة أنباء في العالم هي وكالة هافاس، 1835 كان هناك شخص مستثمر يتمتع بعقلية ثقافية وصاحب مال ،وكان الرجل يشتري معلومات وعمل مكتبا امام البريد يتاجر بالمعلومات، ويوزعها في ذلك الزمان عن طريق الحمام الزاجل، كان يوزعها الى أوربا وامريكا، هو شارل نيوز هافاز، ولم يكن هافاز أو هافاس ، يفكر ان تكون وكالته هي الوكالة الأولى في العالم ، التي هي الان الـ ( أ. ف.ب) أي وكالة الصحافة الفرنسية ، أي بعد مائة عام من نشوئها وقد امتلكتها الحكومة الفرنسية بعد إن أممتها، في 1945 ، أي بعد مئة عام من نشوئها، وتعتبر الان هافاز ، أي وكالة الصحافة الفرنسية ، هي أول وكالة أنباء في العالم، أي أن من أنشأها فرد لكنها تحولت عام 1945 من العلامات الوطنية الفرنسية، وصحيح ان من حيث شكلها وكالة لها استقلالية ، لكنها تتمتع بالدعم الفرنسي ، في مجال الاشتراكات والتأمين.. وهناك صحف ظهرت بجهود فردية، وظهرت في مصر صحيفة الاهرام التي أسسها أثنان وانطلقت من الاسكندرية وامتدت الى القاهرة، وكذلك مدحت باشا الوالي العثماني ، الذي أسس سنة 1869 صحيفة الزوراء في 15 حزيران التي نعيش ذكراها، بعد مئة وخمسين عاما ، لتكون ناطقة بإسم الحكومة التركية تجاه مواطنيها، أي أن السلطة هي من أنشأت الصحافة.
وهنا أراد مقدم الحوار أن يتعرف على موضوعة المهنية في الاعلام ، بسؤاله: أين المهنية حاليا من تطورات الاعلام يادكتور ؟ فأجاب الأستاذ كامل خورشيد انه بعد التطورات الكبيرة والمتسارعة في ميدان الاعلام قد أثرت سلبا على الاعلام، لان الصحافة كانت في السابق ، مطبوعة ومقروءة ، لها معايير ، وهي ان الصحفي لايعين ، وتجربتنا في الاعلام كطلبة في السبعينات، نعمل ونتدرب في دار الجماهير للصحافة ، ولا تنشر موضوعاتنا بأسماء وكان كاتب المقال معه في جريدة الجمهورية، أي انه ليس مسموحا ان تظهر اسماؤنا في الصحف انذاك، لان تقاليد المهنة أن يخلق الصحفي ، ويهيء حتى لايصيبه الغرور، لانه يعمل مع عمالقة ، ومن المشرف له ان يظهر موضوعك بالجريدة حتى ولو بدون إسم، ولا يعرف الناس انه موضوعك الا بعد سنوات، عندما تثبت وجودك ، والان أصبح المواطن بين ليلة وضحاها، لديه صفحة او جريدة وموقع، وغادر كل تقاليد العمل الصحفي ، وكان العمل الصحفي مبني على الدقة والتوازن ، وعلى الموضوعية .
وعن سؤال محوري من مقدم البرنامج ، ويكاد يكون موضع تساؤل المهتمين بمستقبل الصحافة ومن يراقب عملها ، يوم كانت هناك مراقبة ومحاسبة على الصحافة..اليوم من هو مسؤول عن هذه الفوضى في الصحافة؟ فيجيب الدكتور كامل خورشيد بمهنيته المعهودة بأن الحكومات السابقة هي من تدير الصحافة ووسائل الاعلام وتتحكم فيها وتراقب توجهاتها ، ولديها أنظمة وقوانين تنظم شؤونها، أما في ظل العصر الديمقراطي والتعددية وسيادة عهود الفوضى فلم تعد هناك رقابة، وبإمكان أي صاحب مال او لديه سلطة أو حتى أفراد عاديين ان يقيموا صحيفة او محطة اذاعية او تلفزيونية او مواقع الكترونية خاصة بهم، أو صفحة شخصية ناطقة بإسمهم، وليست للحكومة القدرة على مراقبة ادائهم او محاسبتهم في ظل حرية منفلته، وليست لها ضوابط او مزاجه، ولم يعد بمقدور وسائل الاعلام فرض نفسها على الجمهور.
هذه هي أغلب محاور الحوار المهمة التي يجد فيها رواد مهنة الصحافة ممن عرفوا بمهنيتهم ومهاراتهم وخبراتهم الصحفية فرصة ان يعاد الحديث عنها بهذه الطريقة ، كما ان الاجيال الحالية من زملاء الأسرة الصحفية من الشباب لابد وان يغرفوا من مائها العذب وتربتها الصالحة لنمو الافكار والرؤى والتوجهات مايعيد لهم شغفهم بأساليب تلك المهنة ومعاييرها واخلاقياتها ، لكن لايغادروها، مهما تطورت وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ، وتبقى نبراسا للاجيال تستلهم منها ما يفيدها في عملها الصحفي إن أريد لمهنة الصحافة ان تحافظ على أخلاقياتها ورسالتها من ايدي العابثين والطارئين، ومن سلطتهم الأقدار ظلما على مقدرات تلك المهنة العريقة الأصيلة التي ينظر اليها المجتمع بإحترام وتقدير، لما يلعبه الصحفيون والاعلاميون من ادوار ايجابية مؤثرة في تقدم المجتمعات ونهوضها ، وهم من يعلق عليهم الجمهور الآمال في أن تبقى الصحافة منارة لللمة الحرة الأصيلة المعبرة عن طموحاتهم في بناء المستقبل الجديد والعيش الآمن الكرين والسلم المجتمعي، ونبذ الحروب والصراعات وتسلط الجول على مقدرات الشعوب، والصحفيون هم من لديهم القدرة على أن تبقى راية الحرية المسؤولة حفاقة وتمنحهم القدرة على التجدد والابداع وفي التعبير عن طموحات الملايين من الشعوب المتعطشة الى المعلومة الناضحة الصادقة المفيدة..من اجل اعلاء الكلمة ولكي تبقى لها مثل تلك القدسية والاحترام ، إن حافظ عليها اصحاب المهنة من ان أن تتعرض للتشويه والانقراض..!!
تحياتنا للزميل العزيز ورفيق رحلة العمر الدكتور كامل خورشيد ، وللاعلامي الرائع المحاور المبدع الذكي إسماعيل الجنابي، لما قدمه من عرض جيد لهذا الحوار ولطبيعة الأسئلة التي صاغها بعناية، لكي يستخرج من ضيفه لآليء ودرر من الكلام العذب عن السلطة الرابعة، وكيف تحافظ على سمعتها ورسالتها ، من خلال جملة السمات والمواصفات المطلوبة للعمل الصحفي وللرسالة الاعلامية عموما، التي أشرنا اليها ضمن مضامين هذا العرض من الحوار الشيق..