في سِفر الزمان، حيث تلتقي الشواهد بالحروف، واللقى بالأفكار، يبرز اسم الدكتور سامي سعيد الأحمد كواحد من أولئك الذين نذروا العمر ليُنطقوا الحجر، ويبعثوا من رماد العصور شمس حضاراتٍ أبت أن تندثر. هو ابن الحلة، مدينة الفرات والظل الوارف، المولود سنة 1930، من ماءها الطيب نهل، ومن ترابها الطيني تشكلت ملامح شغفه الأول، حين كانت أروقة المدارس تهمس له بحكايات سومر وأكد وبابل وآشور.
لم يكن التاريخ لديه سردًا ماضويًا جامدًا، بل كان كائنًا حيًّا، يتنفس بين سطور الرقم الطينية، ويحكي للناس سرّ نشأتهم، وأصل حكايتهم. ومنذ خطوته الأولى في دار المعلمين العالية ببغداد، لاح منه ضياء اجتذب أساتذته، وكان طه باقر، شيخ الآثاريين العراقيين، من أوائل من أدركوا هذا النبوغ، فأشار بابتعاثه إلى أمريكا، وهناك، في جامعات شيكاغو وميشيغان، تشكّلت ملامح العالِم، واشتدت عُروقه الفكرية، وانفتحت أمامه أبواب العالم الأكاديمي الرحب.
لم تكن الغربة حاجزًا، بل كانت مِرقاةً لصوت عراقي أصيل، راح يدوّي بلغات العالم، يحكي عن وطن كان مهد الكتابة والمدينة والقانون. نشر في الدوريات العالمية، وكتب في مجلة “ناشيونال جيوغرافيك”، وأوصاه المؤرخ الكبير أرنولد توينبي بأن يكتب عن الشبك والإيزيدية، فكان في كلماته ضوء على الهامش المنسي، وتوثيق لما خفي على أنظار المؤرخين الكبار.
حين عاد إلى بغداد سنة 1967، لم يعد كما خرج، بل عاد وهو يحمل بين كتفيه مكتبة كاملة من المعارف، فانبرى في قسم التاريخ بجامعة بغداد، لا يُدرّس فحسب، بل يُنير، لا يُلقي محاضرة، بل يفتح بوابة على زمن ضائع، ويشعل في النفوس توقًا لمعرفة الذات عبر مرايا الزمن الغابر.
عشرات المؤلفات، بل المجلدات، أودعها في المكتبة العربية والعالمية، تنوعت بين موسوعات ومداخل وكتب تحليلية في حضارات العراق والشرق الأدنى القديم، اليهودية، المعتقدات، الأساطير، قوانين العراق القديم، اللغة، الأدب، وحتى الأحلام التي راودت الأوائل. ترجم، وحرر، وشارك، وبحث، حتى بدا كأنه يحمل خريطة الزمن في عقله، ومفتاح التاريخ في قلمه.
كانت رؤيته للتاريخ رؤية شاملة، لا تفصل بين النص والأسطورة، بين الطين والفكر، بين الدين والقانون. لم يكن يهوى التأريخ المجرد، بل يفتش في الدلالات، ويفكك الرموز، ويُعيد قراءة الوقائع في ضوء العقل النقدي والوجدان المعرفي.
في أبحاثه، لا تجد استعراضًا للأحداث بقدر ما تجد تأملاً عميقًا في منطقها، ونبشًا حاذقًا في خلفياتها، وكأنّه لا يكتفي بأن يعرف ما حدث، بل يسأل: لماذا؟ وكيف؟ وما الذي تركه لنا من أثرٍ في حاضرنا؟
كان يؤمن أن ماضينا ليس حطامًا جميلاً نتغنّى به، بل هو نواة فهمنا لذاتنا. لذا، كانت مؤلفاته تضرب في عمق الهوية، وتنتصر للعراق كحضارة لا كجغرافيا، وكإنسان لا كسلطة. وبين أروقة الجامعات، وصمت المخطوطات، وضجيج المؤتمرات الدولية، ظل الدكتور سامي سعيد الأحمد صوتًا عراقيًا نقيًا، يُذّكر العالم بأن على هذه الأرض، وفي باطنها، ما يستحق أن يُروى للعالمين.
رحل، لكن أثره باقٍ، في طلبته، وفي كتبه، وفي كل باحث يفتح سفر التاريخ القديم ليجد توقيعه هناك، ثابتًا كالنقش السومري، وعميقًا كنداء الآشوريين، وأبديًا كالعراق الذي أحبه حد التفاني.
هكذا كان سامي سعيد الأحمد: رجلٌ إذا قرأته، شعرت أن العراق ينظر إليك من عينيه، ويتحدث بلسانه، ويمتد بجذوره في كل سطر من سطور المعرفة.