ينحدر الدكتور جحا من أسرة شيعية، لكنّه دأب على تقديم نفسه بوصفه إنسانًا عربيًا مسلمًا.
ومع اعتزاز الدكتور جحا بهويتيه القومية والدينية، لكنّه يأبى أشدّ الإباء أن يُصنَّف نسبةً لهاتين الهويتين ؛ فهو بحسب ما يعتقد لا يجد فرقًا بين بني الإنسان مطلقًا، وتراه دائمًا ما يردد المقولة المشهورة : (( إنما الناس أحد صنفين إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق)). وطيلة الحرب الأهلية التي نشبت في أرجاء مختلفة من العراق ، وبلغت ذروتها بين الأعوام 2005- 2007 لم يترك جحا عادة التجوال في (صوبي) الكرخ والرصافة، فتارة تجده في منطقة الكسرة الشيعيّة، وتارة في الأعظمية، ومرةً في باب الشيخ السنيّة وأخرى في الكاظمية، وهكذا…
الدكتور جحا عاش وما يزال معتقدًا بجزمية تامة في أن المذاهب الأسلامية المتعددة سواء السنيّة منها أم الشيعيّة إنما هي أحزاب دينية كانت تتنقل بين صفوف المعارضة والسلطة منذ أن أنشأتها الظروف التاريخية والسياسية المختلفة أول مرة، وحتى أيام الناس هذه…
ومن حُسن حظ الدكتور جحا أنّه لم يُجبر في ظروف الحرب الأهلية على إجابة سؤال: هل أنت شيعيّ أم سنيّ؟ وإلا لكان صاحبنا في عداد المقتولين على يد أحد عناصر الجماعات الدينيّة المتطرفة آنذاك …
يعمل الدكتور جحا حاليًا أستاذًا جامعيًا في العراق، وقد تلقّى قبل أكثر من عام دعوة للمشاركة في مؤتمر عُقِد في القاهرة وجَمَع عددًا من الأكاديمين المصريين والعراقيين ، واستمر زهاء أسبوع.
أكثر ما أزعج الدكتور جحا -في مدة إقامته القصيرة في مصر- السؤال الذي كان يحاصره دائمًا بالقول: هل أنت شيعيّ أم سنيّ؟ وهو السؤال الذي كان يزدريه جحا كلّ الازدراء حينما كان يصدر عن أحد مواطنيه العراقيين، وعادةً ما كان يتهرب من إجابته، وإذا وجد نفسه مضطرًا للإجابة فإنه غالبًا ما يُجيب بطريقة تختلط معها السخريّة اللاذعة التي تصل أحيانًا إلى مستوى الحطّ من قيمة السؤال وقائله أيضًا…
لكنّ جحا الآن في القاهرة، هو ضيف مدعو إلى مؤتمر ذي مسحة ثقافية، فهل يتصرّف مع السائل على نحو ما كان يفعله في بغداد؟ هو غريب، وقد تعلّم من أهله العراقيين قولهم: (( يا غريب كون أديب))، وعليه لم يكن بدّ أمام جحا -وهذه الحالة- إلا التهرّب من السؤال، لكنه لم يُفلح في الهرب أبدًا، فقرر جحا أن يُجيب سائليه المصريين جوابًا دبلوماسيًّا مختصرًا، لكن الاختصار سرعان ما كان ينجرف إلى إسهاب جدلي يخسر معه جحا فرصة التمتع بأجواء القاهرة التي طالما حلم بالعيش فيها ولو أيّامًا قليلة. وما زاد في التنغيص عليه، والتكدير من صفو السفرة أنّه حالما كان يصرّح للمصرين بانتمائه وراثيًا إلى المذهب الشيعيّ يغدو في عيونهم ضيفًا ثقيلًا، لاسيما عيون الذين يرون المسلمين الشيعة مرتدين عن الإسلام !
المهم أن معالي الدكتور جحا رأى أن الطريقة التي لا مناص من ركوبها هي الإجابة على السؤال العتيد بالقول: إنه مسلمٌ سنيّ…
فبهذه المناورة يستطيع جحا أن يظفر بشيء من الراحة والسعادة في ما تبقّى له من أيّامه الثمانية…
في اليوم السادس من رحلته ذهب جحا لزيارة معرض الكتاب في القاهرة، كان يومًا من أحلى أيّام حياته، وما زاد في حلاوة ذلك اليوم أنّه لم يُسأل عن طبيعة مذهبه هناك ، الأمر الذي أغراه في أن يعاود الذهاب إلى القاهرة الجديدة في اليوم التالي أيضًا ، ولكي يحظى بقدر أكبر مما حظي به من سعادة في اليوم الماضي عزم جحا على التوجه للمعرض منذ الصباح الباكر، وأن يشتري أكثر ما يستطيع شراءه من الكتب، ولكن شاءت الصدف أن يصل وأبواب المعرض لمّا تُفتح بعد كما شاءت الصدف أن يلتقي هناك بروفوسورا مصريًا متخصصا بالتاريخ، وما أن بدأت أول كلمات التعارف بين الرجلين، وما أن عرف المصري أنّ جحا من العراق حتى بادره بالقول: هل أنت شيعي أم سني ؟ وما كان من جحا إلا أن قال إنّه: مسلم سني!
المهم أنّ الأمر لم ينته عند هذا الحدّ فقد أصرّ أستاذ التاريخ المصري على دعوة جحا إلى وجبة طعام شهيّة في التجّمع الخامس، تخللتها حوارات حميمية عن التاريخ والأدب والسياسة، وبينما هم كذلك إذ أذّن المؤذن للصلاة، فكان من الطبيعي أن يبادر الصديقان (السنيّان) لأداء الصلاة مؤتمين بإمام المسجد، وحينها ما على جحا إلا أن يتخذ وضعية التكتّف أي وضع اليد اليمنى على اليسرى أثناء الصلاة على نحو ما تفعله الشوافع والأحناف والحنابلة ، لا وضع اليدين على الفخذين على نحو ما تفعله المالكية والجعفرية والزيدية، لكن المفارقة التي لم يحسب جحا لها حسابًا أن المسير إلى الجامع أخذ وقتًا طويلًا انفرط معه عقد جماعة المصلين، وما أن دخلا المسجد حتى حلف البروفوسور بأغلظ الأيمان على أن يكون جحا هو إمامه في الصلاة، ولم يرضخ البروفوسور لكلّ توسلات جحا في أن يكون هو الإمام أبدًا…
حتى بعد أن انتهت رحلة القاهرة وعاد جحا إلى بلده ظل مرتبطًا بصداقة جميلة مع أستاذ التاريخ المصري الذي كاد أن يختزل في شخصيته الصعيدية كلّ ظرافة المصريين وطيبتهم، لكن شيئًا ما يزال يحزّ في نفس جحا يتمثل في أنه لم يُخبر صديقه المصري وقتها بأنّه لم يكن سنيًا، ولم يكن شيعيًا، بل كان مسلمًا فقط، وقبل ذلك وبعده إنسانًا فقط …