لاشك ان الدكتور على الوردى اكثر علماء الاجتماع العراقيين شهرة وانتاجا, وشغل ساحة الثقافة والاجتماع والتاريخ فى فترة عمله استاذا لعلم الاجتماع فى جامعة بغداد, وما زالت افكاره ونظرياته بعد وفاته موضع اهتمام المختصيين وشرائح واسعة من الشعب, عدا ذلك فهو معروف ويحضى بمكانة كبيرة على مستوى الوطن العربى, فى الحقيقة, ينظر اليه كاحد اعمدة “التنوير” فى العراق, وينظر اليه كـ “ايقونه” واحد المسلمات والبديهيات العراقية فى غزارته للانتاج وابداعه وما اثار من مواضيع كانت تثير جدل ونقاشات كثيره على مستوى المنتديات الثقافية والاذاعة والتلفزيون.
ان العلم لا يقف مترددا خائفا امام المسلمات وانما فى حالة حركة وتطور مستمر ويتوصل من خلال البحث العلمى والمنهجية والنقد والاختبار الى نتائج جديده, من خلال الاخذ مبدئيا بمنطلقات وافكار جديده تعطى نتائج مخالفة لما يعمل به ومتعارف علية. ان حالة اكتشاف معارف جديدة حول المجتمع والانسان تعتبر شديدة التعقيد, ويمكن ان تكون جانبية وفرعية, ولكنها مع ذلك ضروريه لادامة عملية البحث والاكتشاف.
ان خصوصية الدكتور الوردى تكمن فى كتاباته وطروحاته التى لاتميل الى التعقيد اللغوى المتخصص ولا الى بناء نظرى فلسفى معقد يتطلب فهمه وادراكة بعضا من الخيال اومستويات من التجريد , انها ملموسة حاضرة وقريبة جدا يستطيع المرء احتضانها والتفاعل معها وكأنه قد سمع بها وعايشها مسبقا وتكلم بها مع الاخرين فى مناسبات مختلفة.ان طروحاته التى يقدمها مثلا, حول الشخصية العراقية, التاريخ الاسلامى او العادات والتقاليد…الخ مستشهدا بالشعر. بالقران الكريم, واحيانا ببعض العلماء الغربيين تمنحها صفة العلمية والموسوعيه, لاسيما اللغه الجميله السلسه تجعلها مادة مشوقة للقراءة والتعلم واعادة, القراءه, انه بشكل او بأخر مثل سلسلة (كتاب الجيب) فى الخمسينات, وسلسلة (الريدردايجست) الامريكية, التى توعد بالمتعه وتقدم معلومات متنوعة وتعطى القارىء شعورا نخبويا متعاليا. ان القارىء يتعرف على بعضا من التاريخ والاقتصاد والجغرافية وجوانب من سيرة العلماء والقادة والمشاهير والعادات والتقاليد …الخ ويرتقى بها ومعها الى درجة المثقف الذى توصل الى الحقيقة المطلقة. ان مؤلفاته, على سرعة انتاجها واعدادها الكبيرة قد شملت مختلف حقول المجتمع العراقى, خاصة نظريته الشهيرة حول ازدواجية الشخصية العراقية وثنائية والبداوة والحضارة للشخصية العراقية والتاريخ العربى والاسلامى, انها ايضا اللغة البسيطة المتداولة الممتعة والاسلوب القصصى , الذى يقارب الى حد كبير ما كان متداولا ما قبل الحداثة, وما يعرف بـ “الحكواتى”
ان نظرية د. الوردى التى قامت على الصراع والتناقض بين” البداوة والحضارة” القاها كمحاضرة فى الخمسينيات بدعوة من “دار المعلمين العالية”, انها لم تكن من ابداعه الشخصى وانما من نتاج ابن خلدون والتى استخدمها لتحليل المجتمع فى شمال افريقيا بعد انحلال الدولة فى الاندلس وظهور الدويلات فى المغرب والجزائر, والغريب ان ما قدمه ابن خلدون كان من خلال مراقبته وتفاعله مع مجتمع كانت مكوناته وشروط حياته قبل حوالى 1250 سنه. ان تكوين وانهيار السلطان على مراحل ثلاثة اجيال كانت تربطهم العصبية القبلية, الا ان هذه الشروط لم تكن متوفرة فى “بداوة العراق” من ناحية حجم هذه القبائل ومدى قوة هذا التعصب القبلى العشائرى فيها وفيما بينها, بالاضافة الى التوزيع المكانى والاختلاف الطائفى ولم تتطور البداوة لدى القبائل مرحلة من التنظيم الفوقى الذى يمثل الى حدما مرجعيات محدوده. ان تمركز البداوة فى عراق الخمسينيات يحدد بالمنطقة الغربية, اما المنطقة الجنوبية فقد كان السكان مستقرين ويعملون غالبا فى الزراعه, فى صياغات مختلفة من علاقات العمل. من هذا فان التعميم على البداوة كعنصر فى بلورة الشخصية لا يتفق مع معطيات الواقع لاسيما ان نسبة البدو فى تركيبة المجتمع العراقى فى الخمسينات لاتزيد على 5 -10 %. ان النسبة العالية المؤثرة فى تركيبة المجتمع العراقى فى الخمسينات كان الريفيين الذين يعملون بالزراعة, وكانت نسبتهم فى عام 1960 53% وانخفت فى عام1970 الى 47%, وفى الوقت الذى يزداد عدد العاملين فى قطاع الخدمات, انهم سكان مستقرون منذ عقود كثيرة يحملون سمات شخصية ريفية بالارتباط الدينى والاعراف الاجتماعية ولها مرجعية عشائرية وتكاد تكون السمة الطاغية التى يحملها العراقيون بشكل عام.
ان المجتمع العراقى اخذ اول تماس مع الحداثة مع دخول القوات العسكرية الانكليزية المسلحة العراق عام 1914 وتم تأسيس الدولة العراقية الحديثة فى نهاية العشرينيات, هذا يعنى ان عملية الحداثة لم تقطع اشواطا كبيرة فى بلورة مجتمع باخلاقيات وقيم جديدة, انه مجتمع فى دور التغير والتكوين, ولذلك يصعب وضع نظرية حول الشخصية العراقية لاسيما السنين القليلة لـ “الحكم الوطنى” والاوضاع غير المستقرة التى تميزت بها السنين الاخيرة لثورة 14 تموز. انى شخصيا اشك بان الدكتور الوردى عايش بدو المنطقة الغربية وتعرف عن سماتهم الشخصية عن قرب واغلب الظن لم يقوم بزيارتها. ان نظريته حول طبيعة المجتمع العراقى التى جاءت بصيغة التناشز الحضارى هى ايضا ليست من نتاجه الشخصى وانما قد وضعها العالم الامريكى ” ماكيفر”, الا ان كليهما اصبحت تعود الى منجزاته الفكرية وملكيته الشخصية. ان تنائية الصراع , البداوة والحضارة واقتصارها على تكونيين اجتماعيين يدعو الى التسائل: هل ان المنطقة الغربية من العراق برمتها تمثل البداوة وبنفس الوقت ذات طائفة محددة, وماذا عن المنطقة الوسطى والجنوبيه الذين كان سكانها مستقرين ويمارسون الزراعة منذ قرون. ترى هل ان بغداد تمثل الحضارة وما هى مقومات هذه الحضارة؟ وهل يمثل العدد المحدود من موظفى الدوله السكان الحضريين. ان عدم مراعاة مكونات اجتماعية عراقية اخرى, الاكراد, الصابئه, اليزيدين والكلدان والارمن…الخ يؤكد على عدم اهلية منطلقات هذه النظرية ولايمكن تعميمها لانها غير ممثلة للتكوينات الاجتماعية العراقية ومبدئيا يصعب وضع نظرية بهذا الحجم على مجتمع ما زال فى عملية التغيير والتكوين ولم تكتمل فية عملية الاستقلال الوطنى, ناهيك عدم حصول تطور مجتمعى نوعى فى عمق الحداثة ومكوناتها والذى ينعكس فى الاخلاق والفكر والسلوك. فى فترة لاحقة اخذت النظرية شكلا جديدا, هو لا يختلف مبدئيا عن المنطلقات الاولى, وجاء بنظرية التناشز الاجتماعى, التى وضعها العالم الامريكى ماكيفر. ان ما اورده الدكتور الوردى حول التباين بين الكللام والرغبات وبين الادعاء والممارسة كان ومازال قائما فى كل المجتمعات البشرية وحتى فى تلك التى ارتقت الى مستويات عالية من النقدم, والا هل ان ماكيفر قد نسجها من خيالة الخصب ام من تفاعله مع المجتمع الامريكى, هذا بالاضافة الى ما يطرحه السياسيون ورجال الاعمال وما يقومون به فعلا يحمل تباينا كبيرا بين الوعود والفعل. انها ليست خصوصية عراقية يصلب بها الشعب العراقى, وحين يؤكد الوردى بانها مستفحلة ومتجذرة فى الفرد العراقى فهو لم يقدم سندا علميا على مقولته, واذا كان ذلك فعلا وواقعا فانه لم يقدم الاسباب التى بلورة هذه الظاهره , من ناحية اخرى هل يمكن وضع نظريتين عن مجتمع لازال فى اولويات الحداثه والتكوين الحضارى: الاولى لابن خلدون عن مجتمعات بدويه تحكمها العصبية القبليه عاشت قبل 1250 سنه ونظريه حول مجتمع الحداثة والرأسمالية المتطوره عن المجتمع الامريكى. انى اعتقد ان طروحات الدكتور الوردى حول الشخصية العراقيه كانت غير موضوعية وكان اثرها سلبيا على العراقيين الذين اخذوا يتهمون بالشسفرونيا المعرفة كمرض نفسى عصبى, بدلا من ان تكون النظرية تعبيرا عن تباين فى مستويات مختلفة من التقدم والديناميكية الاجتماعية.
عندما اقرا فى احد كتب الدكتور الوردى المتاخرة تداهمنى الذاكرة من انى قد قرأتها فى كتاب اخر سبق نشره, وبدون تطاول على الدكتور الوردى, انه كثير التكرار والاعادة, وما يقدمه من راى, فرضية, حكم لايقدم له سند علمى, ولكن هذا الفراغ يتحول الى سند علمى فى كتاب لاحق اخر. يبدو لى ان مقولات الدكتور الوردى حول العراقيين تقوم على احكام مسبقة كثيرة شائعة وقديمه, لقد اعاد لها الحياة باطار “علمى” ولذلك وجدت استجابة لدى القراء لتؤكد على جلد الذات وصحة المنطلقات والاحكام التى كانوا يتداولونها. انى لم اتتلمذ لدى الوردى وعندما بدات العمل فى قسم الاجتماع, كان الدكتور الوردى يتمتع بالتقاعد, وحضيت مرة واحدة لبضعة دقائق بوجوده فى سكرتارية قسم الاجتماع وقد احاطته( السيدة فريدة الخليلى) بحفاوة بالغه بالاضافة الى وجود بعض الطلبه الذين تتلمذوا لديه, كان موضوع الساعة انذاك حول انخفاض الانتاجية فى مؤسساتنا الصناعية, الموضوع قد تم طرحه من قبل الحكومه ( صدام حسين) الذى بدأ يطرح نفسه كقائد حداثى, طرح احد الطلبة هذه القضيه وامكانية علاجها, وطرح احدهم مبدا “النموذج الايجابى” واذا بالدكتور الوردى يتبناه مباشرة ويؤكد عليه. فى هذا الحضور القصير لم اجد فيه شخصية العالم السوسيولوجى الذى يعطى الموضوع ويحدد ابعاده المتعده, وانما التزم الصمت حائرا الى ان جاءت مبادرة الخلاص, وكما يبدو فانه كان لا يريد ان يدخل فى اشكاليات هو فى غنى عنها.
يعد الدكتور الوردى من المحدثيين والتنويريين بما قدمه من نقد حول الوعاظ والسلاطين والشعراء والاخلاق …الخ الا انه عاش فى التاريخ ولم ينال الحاضر والمستقبل رعايته واهتمامه لا سيما كانوا مثقلين بمشاكل وقضايا كثيرة وكبيره. ان قضايا كثيرة مهمة كانت بحاجة ماسة الى التحليل والدراسه, زواج القاصرات, زواج المتعة وتعدد الزوجات, قضايا الفقر والتخلف وسلوكيات المعممين وطروحاتهم فى تغييب الوعى والتاكيد الخرافه والشبق الجنسى الذى اخذ حيزا كبيرا من نشاط المرجعيات الدينية وليس اخير اشكالية الطائفية واهمية الوحدة الوطنية. الم يكن من مهماته كعالم ومتنور وله مكانة علمية واجتماعية كبيره ان يؤكد على مبدأ الدين لله والوطن للجميع ومبدئيا فصل الدين عن السياسة والدوله, وكما اعتقد ان هذه المواضيع تحضى باهمية كبيرة من افضل واعمق درس من تحليل منطق ابن خلدون. مما لاشك فية انه نشاطا علميا يشكر علية, ولكنه قد تنصل من مسؤلياته كعالم مرموق فى الاشارة, على اقل تقدير اثارة ومعالجة القضايا التى تشغل المجتمع, لقد كان مشغولا بذاته يعالج “الوسواس ” والقلق المصاب به ولم يتمكن من الخلاص منه.
ولد ونشأ وعاش طيلة حياته فى مدينة الكاظمية التى تعتبر تاريخيا من المركزاالدينية الشيعية الرئيسيه المؤثره, التى كانت فيها صور ” المظلوميه” واجتهادات مستمرة لادامتها تمثل احد المفردات اليومية المؤثرة فى الوعى الباطن فكرا وسلوكا, هذا بالاضافة الى مبدأ “التقيه” الذى يقضى عدم التعرض للخطر دون اسباب موجبه, هذاالمبدأ الذى ينسب الى الامام علي من اجل الحفاظ على الحياة والاستمرار ومن دون ان يعرض المرء نفسة طعام سائغا للاعداء. الا ان الشيعة العراقيون, نظرا لـوجود الطائفيه “لقوة الغاشمة” قد طوروا المبدأ حيث اخذ يستوعب جميع انواع السلوكيات, بما فيها الزحف ,الاستجداء, الطاعة العمياء, الوصولية والانتهازية لتحقيق قدرا محدودا من طموحات الذات والذى افرز حالة الطموح لكسب ود وصداقة الحاكم, المدير , الرئيس واخذ ينتمى الى احزابة ومؤسساته ويحاول جاهدا ان يكون من ضمن الحلقات القريبة اليه. مع استمرار التسلط الطائفى فقد مبدأ التقية مفعوله وتحول الى عملية تبريريه . لا شك بان التسلط الطائفى لم يعطى قدرا واسعا من الفرص للولوج فى مؤسسات الدوله, وعندما ينجح احدهم فى نيل رضى رئيسه او مديره ويصبح رئيس قسم او مدير عام, فان اول اجراءاته تصب فى مختلف انواع العقوبات الاداريه لبنى قومه من الشيعة وابناء المنطقة, وبهذا يقدم الدليل على اخلاصة وطاعته, ويؤكد لمديره انه قد احسن الاختيار. الا ان الحالة المعقدة عملت على فرز شخصية قلقة ومهزوزة, متخوفه وتفتقر الشجاعة وروح التضامن. ولكن بنفس الوقت يعتقد انه يعمل ضد النظام. فى فترة الحكم الملكى كان الدكتور “ضياء جعفر” احد اعضاء حزب الاتحاد الدستورى الذى يقودة السيد نورى السعيد رئيس الوزراء, واصبح فى عدة وزارات وزير للاشغال والمواصلات كممثل للشيعة. ان السيد “الوزير” لم يجرؤ على تعيين عامل او مستخدم من ابناء جلدته, فى الوقت كان رؤساء اقسام ومدراء فى وزارته يجتهدون فى ايجاد وملىء الفراغات. ان سلوكيات حكومة المحاصصه, خاصة بقيادتها الشيعيه قد قدمت البرهان تلو الاخر خلال الـ 15 سنة الاخيرة تبعيتها, عجزها, وجبنها فى القيام بواجباتها الوطنية وكان للمقومات الشخصية بتاريخها الطويل اثرا كبيرا فى هذا الفشل. ان دراسة الدكتور الوردى فى تكساس/الولايات المتحدة الاميركية كان علم الاجتماع فى الجامعات الامريكية يعيش فترة نمو وازدهار وكانت عدة مدارس تجتهد فى تقديم نظريات واساليب للبحث العلمى, الا ان انصراف الدكتور الوردى نحو التاريخ العربى والاسلامى جعل منه مؤرخا اكثر منه سوسيولوجيا. !!انه لم يبدى اهتماما بمنهجيات اخرى لعلم الاجتماع ومحاولات لتقديم اما عن المنهج والتفسير المادى للتاريخ فقد كان فى غنى عنه, لم يرغب به, لم يحبه!!. ولابد من الاشاره الى ان الولايات المتحده فى هذه الفترة عاشت هجوما وردة من المحافظين المتشددين يتزعمهم السيناتور مكارتى وقد شنت حملات ومحاكمات ضد عددا كبيرا من المثقفين واليساريين والفنانين, وثانية لم يساهم الدكتور الوردى فى عملية تنوير حول مجتمع كان فى الخمسينات نموذجا للتقدم والديمقراطية.