19 ديسمبر، 2024 2:02 ص

الدكتاتوريات وبضاعة الضمائر الفاسدة

الدكتاتوريات وبضاعة الضمائر الفاسدة

ما تعرضت له شعوب العالم العربي من صحوة أطاحت بالكثير من الانظمة الدكتاتورية يجري العمل على قطعه من جذوره التاريخية التي صنعته عبر محاولة أظهار إن الصورة الحاضرة هي الصورة النهائية التي تحمل بذاتها ” السبب والنتيجة ” وان مقتضيات العدل توجب اعادة الحرية والعدالة وحقوق الانسان والمشاركة في العمل السياسي الى الانسان العربي الذي حرم وعلى مدى عقود من هذه الاستحقاقات الطبيعية وعلى الرغم من ان إعادة قراءة الأمور وفهمها في أطرها العامة ومنها التاريخي يعني الاستعداد لتحمل التهم التي قد تبتدئ بالتفكر وفقاً لنظرية المؤامرة وقد لا تنتهي الا بإعادة هيكلة السجون العصرية لاحتوائك غير إننا هنا نبني على حسن الظاهر واستثمار فسحة الحرية في التعبير عن الحرية فمع تتابع الأحداث في المنطقة العربية ما بعد الحرب العالمية الثانية اكتسبت هذه المنطقة أهميتها لتمتعها بجملة من المميزات قد يكون النفط واحداً من أهم تلك الأسباب يضاف إليه الموقع والإمكانيات وان المنطقة تمثل سوقاً باذخاً للاستهلاك على مختلف المستويات مع الإقرار بأن التباين في الأهمية مابين دول المنطقة يدفعنا الى إعادة طرح السؤال لماذا بقيت الدول الأكثر أهمية في المجال الاقتصادي ” النفطية ” بمنآى عن تلك التي أصبحت تسمى ” رياح التغيير ” رغم أن الرياح لا تعرف التمييز بين المناطق التي تجتاحها ؟!! ان محطات الانتظار التي أدمنها القطار العربي حملت أليه وفي أوقات مختلفة بضائع محلية تم تسويقها إليه من مناشيء عالمية فالدكتاتوريات المحلية لم تكن لتشغل تلك المساحات الفارهة من عقود التضحيات من الشعوب لو لم تكن الإرادة العالمية المتحكمة بفرض قوانين اللعبة السياسية هي التي تمدها بأسباب الوجود والبقاء على حساب تلك الدول المقهورة والمقموعة بصلف الأسلحة التي تصنع هناك على مقاسات تمرد الشعوب هنا في الوقت الذي كان من المفترض أن تقابل حركات التحرر من الطغاة بالمزيد من التأييد والمساندة ونزع الشرعية عن الأنظمة الفاسدة والتي تلطخ جسمها بالكامل بدماء الابرياء ولم يقتصر الأمر على أيدي السلطة الحاكمة بشرعية الحديد والنار ولكنا أحسسنا بألامان والاطمئنان لإنسانية المعايير ورحمتها وعدم الدفع بمحركات التطرف في إيجاد المبررات والذرائع التي تدعم حركتها المنحرفة هي الأخرى لكن باتجاه آخر ولكنا تجنبنا الدخول على الأقل الدخول في دائرة”الثغرات المأساوية ” بالعمل كيف نخترق الجدار كي نكف عن صدم رؤوسنا ؟ بحسب تعبير جيل دولوز .

لم يكن للشعوب من ذنب جعلها تدفع فواتير باهضة الثمن سوى أن فلسفة المصالح تجعلها تحكم وتتحكم بمقدرات هذا الكون المترامي الأوجاع كانت تقتضي أن تبقى الشعوب على تخلفها والسماح لقبضة الدكتاتورية أن تضرب الابرياء بلا رحمة والتفاوض مع كيانات السلطة بشرعيتها المسلحة لضمان تدفق الفوائد واستمرار المصالح الدنيئة في امتصاص ثروات العالم المبتلى بمزدوجة كارثية ولهما جبروت وتسلط وطغيان الحكام ” الفراعنة ” في هذه الكلمة التي استخدمها السيد محمد باقر الصدر ” قدس ” مستشرفاً من خلالها هذه المرحلة البالغة الدقة والحساسة حين استقرأ بعبارته المشهوره ” أن الجماهير أقوى من الطغاة مهما تفرعنوا ” وثانياً ابتلاء الشعوب بالارادة المنحرفة المسيرة لحركة السياسية العالمية وما تمثله الولايات المتحدة الامريكية من الثقل الاكبر في اداتها وهي بطبيعة الحال إرادة منحازة سلفاً لجهة معينة تعيد من اجل الحفاظ على أمنها واستقرارها ــ اعني إسرائيل ــ ترتيب جميع الأوراق في المنطقة وخلطها وضرب بعضها بالبعض الآخر بل ان استراتيجيات القرار الأمريكي تعتمد هذا الركن جزءً حيوياً في فلسفتها السياسية وبعد ذلك لن يعود مهماً أن تنتشر مبادئ الديمقراطية أو الاستبداد فألهذف من ورائهما هو تحقيق الغاية الأصل وهنا تتحول ورقة الشعوب الى منطقة مساومة يجري الاهتمام بها في حال ابتعدت عن مصالح وأمن إسرائيل وبقدر ما تحقق مصالح الولايات المتحدة وأمنها القومي والاقتصادي حيث تتجلى ابرز المشتركات في هذه المزدوجة الحاكمة في الاتفاق على الفساد والظلم واتفاق المنظومتين على الاضطهاد الشعوب بغطرسة الحكام ومقابل هذا بقيت معظم الشعوب تمارس نضالها الذي بدا عبثياً في نظر الكثيرين لعدم وجود الحد الأدنى من التكافؤ ما بين امتلاك الحكومات للمال والسلاح والنفوذ والاجهزة المخابراتية يضاف الى ذلك الدعم الدولي وما بين الشعوب الفقيرة المغلوبة على أمرها ولا تملك سوى إرادتها وأملها في مسيرة الحتمية التاريخية التي لم تكن يوماً في جانب الظالمين على أنها مارست نوعين من المواجهة تمثلت الاولى في التحدي والاصرار والمواجهة السلمية داخل حدود البلدان والنمط الآخر في الهجرة والعمل خارج اسوار الوطن في فضح وكشف الممارسات الوحشية وكلا الطريقتين لم تنجحا في تغيير الانظمة وأن كانتا قد اسهمتا في اضعاف القوة التأثيرية الغاشمة للسلطة الحاكمة بل أن قدرة التأثير من الداخل زلزلت في كثير من الأحيان أسس الظلم وكادت ان تطيح به لولا ما قدمته القوى العالمية من الاسناد والدعم وتبرير تصفية الشعوب لذلك بقيت الشعوب تناضل بلا هوادة وتكررت هذه النماذج في التجارب الآنية في تونس ومصر وليبيا وسوريا والبحرين وغيرها لتتماها مع المؤرخ توينبي في الرحل وهو عكس الامر تماماً حيث يرى أن الرحل هم الذين لا يتحركون ويصبحون رحلاً لانهم يرفضون الرحيل ” لكن الامر وقبل ما حدث من تغييرات جذرية لم يكن بهذه السهولة فالمنظومة السياسية الكونية ما زالت تمارس ذات الانتقائية المريضة وتحاول فرض المعايير في جهة ومعارضة ذات المعايير في الجهة الأخرى ولعل دول الخليج وان كانت تتمتع بالمستوى الاقتصادي المعقول والمريح في كثير من الاحيان الا انها بعيدة تماماً عن طرح مفهوم الحرية وحق الافراد في المشاركة السياسية الفعلية والاحتكام الى اشتراطات عدم التمييز بين افراد المجتمع الواحد واعطاء الفرص لمفهوم المساواة وهذه الأمور غير متوفرة في حقيقة الأمر التجربة الخليجية على سبيل المثال وليس ادل على ذلك من التهميش الفادح للمرأة وحالة الازدراء السياسي وحتى الاجتماعي لنصف المجتمع هذا فضلاً عن المستويات المتدنية من الحرية الى الحد الذي يذكرنا بالعبارة اللامعة لناظم حكمت الذي يقول ” آه أيتها الحرية لقد ضاق جلدي ” بل وبمستويات أضيق من ذلك تمارسها السلطة المرتكنة في شرعيتها الى الصمت المطبق وسياسة التغاضي المتعمد التي تمارس من قبل السلطة العالمية وتفعيلها للملفات من خلال الإعلام أو منظمات حقوق الإنسان أو المنظمات الدولية صاحبة الاختصاص وما يقف وراء تلك السياسات هي الحاجة المستمرة لتدفق النفط الخليجي الى الأسواق العالمية وبهذا فأن حالة الفساد التي تطالب الجهات الدولية بالقضاء عليها أو الحد منها على الأقل نجدها وقد تم ممارستها بصورة عملية على ارض الواقع وعند الدخول اكثر الى التفاصيل نجد ان القوة السياسية المحركة للسياسة الدولية تديرها شخصيات تمتلك شركات متعددة الجنسيات تسعى وبكل الاشكال على المحافظة على مصالحها وإبقاء استثماراتها خارج دائرة التأثيرات وبعد ذلك لن يكون مهماً ان تكون الشعوب تحكمها أنظمة ديمقراطية أم استبدادية وعلى الشعوب هنا أن تفرض إرادتها في الضغط على الأرقام المتحركة في الساحة الدولية لخلق معادلات جديدة فالمجتمع الدولي لا يعترف إلا لمن يملك وسائل التأثير والقادر على أن يؤثر فعلاً على مسار الأحداث في عالم ظاهره السلام وباطنه الصراع بلا رحمة على مناطق النفوذ .

إن حركة الشعوب العربية أوجدت لها مساحات جديدة من التأثير في خلق حالة من ” عدوى العافية وقفزت الى واجهة الاهتمام بعد أن ركنت على رفوف الإهمال والحكام الطغاة الذين كانوا بالأمس يسحرون من إرادة الشعوب اخذوا يتفاوضون  ويغيرون ويعترفون بأهمية الحوار مع الشعب لكن كل هذا يجري وفق متغيرات عالمية قد لا تتاح فرصة أخرى يمكن استثمارها لانجاز الثورات التي تطيح بجميع العروش الفاسدة ومن يقف خلفها ولا يعني أن النجاح الذي جرى تحقيقه غير قابل للمصادرة فأن للسلطة وحكوماتها اذرع أخطبوطية تستطيع إعادة هيكلة الأدوار والالتفاف على الثورات واحتوائها وسوف نسمع من جديد أن الشعوب غير مؤهلة على قيادة نفسها والوصول الى تكوين نخب سياسية قادرة على إجادة لعب الأدوار السياسية وتبدو الخشية كبيرة في أن يتم استغفال وتمرير الأوراق الخطرة على الساسة الجدد وهذا الأمر قد لا يخلو من الصحة إلا انه بالإمكان الاستعانة بالنماذج الوطنية وان الشعوب لا تعاني عقماً في انجاب الساسة وبدلاً من ممارسة التقزيم بحق الشعب فلتدفع القوى القديمة ثمن أخطائها وتعترف أن السيادة كل السيادة للشعب ودعونا ننسى العبارات الواطئة للقذافي المقبور وهو ينعت الشعب الليبي بأشنع الصفات التي تنطبق عليه ولنتذكر أيضا عبارة المستشرق ماسينيون حيث يقول رداً على اتهام الشعوب يمثل تلك الاوصاف ” ثمة ما هو أسوأ من القمل ، انه الضمير الفاسد ” .

أحدث المقالات

أحدث المقالات