لفتت انتباهي عبارة كتبها أحد المصارف الحكومية: توطين الرواتب …. خدمات مالية فريدة تنتظر الموظفين في العراق، فيخطر في بال القارئ لهذه العبارة اننا امام اختراع عراقي مبتكر لم يسبق له وكأننا سنكرر ما فعله السومريون آباء هذه الأرض من اختراع الكتابة المسمارية واكتشاف العجلة 3000 سنة ق.م أو تدوين قانون أورنمو Ur-Nammu الذي يعود للقرن الـ 21 ق.م، كأقدم قانون مدوّن موجود حالياً حيث ظهر هذا التشريع القانوني في عهد الملك أورنمو، مؤسس سلالة أور الثالثة، لنعود الى الواقع فالعراق يمر بظروف غاية في الحساسية حيث يواجه الاقتصاد العراقي تحدٍ حقيقي بعد الفشل الذريع في إيجاد بدائل عن بيع النفط الخام واؤكد هنا بيع النفط الخام وليس الصناعات النفطية Oil Refining Industry وصناعة البتروكيمياويات Petrochemical Industry، فالعراق من اكبر الاحتياطيات النفطية Oil Reserves في العالم فهو يمتلك 147.2 مليار برميل بحسب استكشافات عام 2018 أي 8.5% من الاحتياط العالمي- Thebalance – ومع هذا فهو يستورد سنويا 3.3 ترليون دينار عراقي منتوجات نفطية –التقرير السنوي لاستيراد العراق 2018 الجهاز المركزي للإحصاء 2019- ويستورد طاقة بقيمة 7 ترليون دينار عراقي –موازنة 2019 الوقائع العراقية: العدد 4529 في 11/2/2019- وكلها يمكن انتاجها عراقياً، فضلاً عن موارد أخرى كالزراعة والصناعات المختلفة والتجارة والسياحة والاتصالات وغيرها، هذا مع عدم وجود الصناديق السيادية الاستثمارية Sovereign Wealth Fund التي تأمن واردات اضافية ومحفظة لحماية مستقبل الأجيال خاصة في زمن الازمات، العراق اليوم يطلب المعونة لكي يسدد رواتب الموظفين والمتقاعدين لان ما يدخل الى الخزينة لا يساوي ما يحتاجه العراق لتغطية الرواتب فقط –مقال سابق بعنوان العراق في الدائرة الخطر – هذا بغض النظر عن الاحتياجات الأخرى، والطريقة التي يجب التعاطي بها مع هذه الازمة على مستويين استراتيجي اشرنا الى بعضها وآني ومن الحلول السريعة الآنية الدفع الإلكتروني Direct Deposit أو كما يحلو للحكومة في العراق ان تسميه توطين الرواتب التي كثر الحديث عنها مع انني استغرب كل هذا الجدل في امر صار بديهياً في دول العالم منذ عشرات السنين فقد بدأ العمل به منذ العام 1972 في الولايات المتحدة الامريكية، فالفكرة بسيطة جداَ، هي دفع الرواتب لمستحقيها عبر حسابات بنكية فالأموال لا تخرج من المصارف فمن حسابات رب العمل سواء أكان حكومة أو لا الى حسابات موظفين سواء أكانوا عموميين أو قطاع خاص ونفس الشيء بالنسبة للمعونات، توجد في العالم ثلاثة أنظمة كلها تؤدي ذات الوظيفة الأول Giro وهو المستخدم في اوروبا وهي كلمة إيطالية تعني الدائرة المغلقة الثاني ACH وهو المستخدم في الولايات المتحدة الامريكية وهي اختصار Automated Clearing House والثالث Direct Entry وهو المستخدم في استراليا وتعني الدخول المباشر دون المرور بالإجراءات الورقية ويلاحظ ان جميع هذه الأنظمة تؤدي ذات الغرض منها وهو Account To Account، في العراق الدائرة ناقصة حتى على افتراض حصول الطرف المستفيد على حساب بنكي ووصول مستحقاته اليه لأنه حينما يريد استخدامها ينتقل الى العملة الورقية بسبب عدم اكتمال الدائرة السوقية فتتحول من اجراء فاعل في تعزيز الاقتصاد الى اجراء شكلي فاقد لقيمته الحقيقية.
ماذا يتطلب الدفع الالكتروني؟
في مقام الإجابة على هذا التساؤل يمكننا ان نأخذ الواقع الافتراضي وأخرى نتحدث عن الحقيقة اليومية، فلكي تتحقق الدائرة المغلقة Giro لابد من توفر ثلاثة أطراف الدافع والمستحق والبائع سواء أكان بائع خدمة أو بائع سلعة وكل هؤلاء في حلقة واحدة فمن الحساب الأول وهو الحكومة او الشركة الى حساب المستحق ومنه الى حساب البائع فصارت الحلقة كاملة وبقت الأموال في إطار الحسابات البنكية فيتحقق الغرض من فتح الحسابات للمستحقين على هذا المستوى كما ذات الامر بين البائعين وفيه تكون الحلقة بين حسابين بنكيين، فالعراق كما انه يتطلب منه فتح حسابات بنكية لكل المستحقين كذلك يتطلب ان يكون لديه نقطة البيع أو نقطة الشراء Point Of Sale (POS) Or Point Of Purchase (POP) وهي النقطة التي تتم فيها عملية البيع بالتجزئة. في نقطة البيع، يحسب التاجر المبلغ المُستحق من الزبون، ويحدد ذلك المبلغ وهي كذلك النقطة التي يدفع المستخدم من خلالها إلى التاجر مقابل السلع أو بعد تزويده بخدمة معينة.
وهنا تنتهي المعاملات الورقية فلا نقود بين جميع الأطراف وهو اجراء بسيط يمكن تحقيقه متى ما عمل صاحب الشأن على فرضه على المصارف لكي تفتح الحسابات وتضع هذه النقاط (POS) في كل مكان تجري فيه معاملة.
من محاسن الدفع الالكتروني:
وتظهر الفائدة من الدفع الالكتروني في عدة اتجاهات ، عراقياً كشف الموظفين الفضائيين Ghost Employee فالبنك مكلف قانوناً بالتأكد من شخصية صاحب الحساب وألّا يكون شخصية وهمية او متوفى، خصوصاً اذا طبقت وسائل القياس الحيوي Biometrics مما يمنع من وجود الفضائيين كما انه ومن خلال وسيلة التطابق بين المعلومات Matching Information والمقارنة بينها Comparison Of Information يظهر كل من يستلم اكثر من راتب سواء أكان في القطاع العام أم الخاص أم منهما، وهنا يلزم القطاع الخاص بفتح الحسابات لموظفيه فيُعلَم من هم ويحدد دخلهم لأجل الضريبة والتقاعد فان كانت الأرقام التي تذكر من قبل الحكومات المتعاقبة واقعية فإننا سنوفر مبالغ كبيرة جداً لصالح الخزينة ونحد من ظاهرة الفساد المستشري، اما على المستوى الاقتصادي فانه سيوفر للبنك سيولة نقدية مستمرة فأغلب الناس تستفيد من رواتبها بمعدل 1/30 وحتى لو انفق احدهم راتبه في اقل من ذلك فان الأموال ما زالت في المصرف لان الحلقة مغلقة ايضاً كما اوضحنا وهذا الاجراء يمكن ان يوفر سيولة شهرية تقدر بـ 53 ترليون دينار عراقي ما يعادل 47 مليار دولار امريكي وهي كتلة نقدية كبيرة جداً، فقط من رواتب الموظفين والمتقاعدين ويمكن ان يتضاعف هذا المبلغ فيما اذا اضفنا له أموال القطاع الخاص من شركات وموظفين، وبتشجيع من المصارف من خلال ادخال هذه الأموال في مشاريع استثمارية يمكننا ان نحقق الغرضين معاً للمصرف وصاحب الحساب فتتحول الكتلة النقدية من حالة الجمود الى حالة الاستثمار والحركة الدائرية المنتجة والمؤثرة في الاقتصاد فتتعاظم الموارد وتزيد الأرباح للجميع بالإضافة الى ما يقدمه من حلول على مستوى فك الاختناقات الاقتصادية وتوفير فرص العمل فيساهم في النمو المستدام، كل هذا مع وجود المبرر الأمني الذي بدأت الحكومات تأخذه بنظر الاعتبار بسبب ظاهرة الإرهاب وغسيل الأموال وتهريبها.