الدعاية تاريخيا، ذراع للشركات الرأسمالية، قبل أن تستثمر السياسة فيها، لتصبح آلتها الضاربة، الأمر الذي ربطها بالخداع والتسويق النفعي، وتحوّلت مهمتها التوعوية والارشادية الحقيقية الى الإشهارية أولا قبل المصداقية.
ومهما كان التقييم لها، فإنها انقلبت الى سلعة اقتصادية وسياسية، لا غنى للحياة عنها.
في عراق قبل 2003، خفتت الدعاية الحرة، وانحسرت الى تفخيم النظام السياسي، ونشْر أيديولوجياته وشعاراته،
وتجبّرت المنشورات الاعلانية والحزبية على سواها، وهو شأن بديهي في أزمان الحروب، مثلما هو نمط دأبت عليه جميع الأنظمة الشمولية.
في عراق ما بعد 2003، استفاضت الدعاية وشملت كل النشاطات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأسهم في رخاؤها، تطوّر تكنيكيات النشر والاعلان.
لكن الظاهرة المميزة، في العراق، هو تحوّل منصات التواصل الاجتماعي، والكثير من وسائل الاعلام والفضائيات، الى
واجهات دعائية سياسية، فيما غزت الإعلانات التجارية، بغداد بطريقة فوضوية، وضاقت النوافذ الاعلانية المتخصصة، التي تمنع استغلال المحيط العام والخطاب الاعلامي الحكومي، في الدعاية.
لا يُعرف بالضبط حجم وارادات الإعلانات الى ميزانية الدولة، فيما المؤكد ان البلديات في مدن أوربا تجني ملايين الدولارات منها، موفرةً المال وفرص العمل للعاطلين، ولتطوير مشاريع البنى التحتية. ولا يقل ثمن الإعلان في شارع في مدينة هولندية او ألمانية، في مراكز المدن، عن الثلاثين ألف دولار في السنة، على أقل تقدير.
الدعاية السياسية، البيضاء، والرمادية، وفّرت عبر التاريخ، وجبة معلوماتية دسمة مخلوطة بالأكاذيب والحقائق، اقتادت الشعوب، وحسمت محصلات الحروب الاقتصادية والعسكرية، بعد ان نجحت في تطويع آراء الناس وسلوكهم نحو الاتجاه المطلوب، على رغم من انها استُثمرت حتى في التزييف والاكاذيب ولوي أعناق الحقائق، للوصول الى الهدف.
في العراق، تحرّكت الدعاية السياسية الداخلية والخارجية بعد 2003 وما قبله، على وتر الانفعالات والعواطف، وكان لها دور كبير في الأزمات السيكولوجية والعاطفية، التي أثّرت على مدارات الأحداث.
لا يبدو العراق قصيّا عن شعوب العالم في مفعول الدعاية على مستقبل البلاد، ففي العام 1792 أنشأت الحكومة الفرنسية وزارة متخصصة بالدعاية، فيما الثورة الفرنسية لم تبتعد عن توظيف الدعاية للترويج لشعاراتها.
لكن الدعاية السياسية في أوربا اليوم، ناسبت نفسها مع رخاء الديمقراطية الحقيقية، بعد ان كانت ومنذ الحرب العالمية الأولى تركّز على تفخيم الملوك والزعامات والشخصيات المهمة، وهو الامر الذي لا يزال يطبع البلدان العربية وشعوب العالم الثالث.
الإمبراطورية الألمانية بقيادة بسمارك و فيلهلم الثاني، اعتبرت الإعلان جزءاً جوهريا من البروباغندا السياسية،
وعوّلت إنجلترا وألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، على الحرب الدعائية بقدر التركيز على الحروب العسكرية.
وألهمت الفاشية والشيوعية والاشتراكية الوطنية، الأنظمة الشمولية في العالم، طرائق تمجيد الحزب والقائد، وانفقت أموالا طائلة لغسل أدمغة الأفراد.
ومع تطور وسائل التواصل، استثمر الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما العام 2012، في الدعاية في حملات مركّزة، لغايات سياسية عبر التواصل الاجتماعي، ما دفع إدارة فيسبوك، الى وضع قوانين صارمة تهمّش الاستهداف السياسي.
وفي هولندا، اثار توجيه رسائل دعاية سياسية عبر فيسبوك الى الأعضاء المشتركين، خلال الانتخابات، ضجة واسعة لتأثيره الواسع على نتائج صناديق الاقتراع.
آنفا، حظَر قانون البث البريطاني العام 1990، أي شكل من أشكال الدعاية السياسية على الراديو، وانطبق ذلك حتى على منظمة “محترمة”، مثل العفو الدولية التي مُنعت من إطلاق حملة إعلانية حول الانتهاكات في رواندا.
القوانين الصارمة الخاصة بالإعلان، تجاوزت الأحزاب والنوافذ السياسية، الى الشركات المصنّعة للمنظفات، والسكائر، والمشروبات الروحية، حفاظا على البيئة والصحة العامة.
الديمقراطية العراقية الناشئة تحتاج الى ضبْط الدعاية على اختلاف شواكلها، منعا للفوضى السمعية والبصرية، قبل السياسية، وللحيلولة دون توجيه الرأي العام لجهة على حساب أخرى، وتحويلها الى مشروع ربحي يدر بالأموال الطائلة على الميزانية.