18 ديسمبر، 2024 8:00 م

الدستور العراقي—-حقل ألغام

الدستور العراقي—-حقل ألغام

الانتفاضة الشعبية التي يشهدها العراق منذ مطلع تشرين الاول الماضي فتحت الحديث والدعوة الى تعديل مواد الدستور العراقي التي تعيق تطور البلاد وتحقيق العداله والتنميه الاقتصاديه والاجتماعيه والقضاء على المحاصصة والفساد, إلا ان دعوة الحكومة العراقية في الحديث عن إجراء تعديلات دستورية ما هي إلا محاولة لذر الرماد في العيون, لانها مجرد محاولة لكسب الوقت والالتفاف على الاحتجاجات الشعبية ومطالبها المشروعة.

حيث أقرت شخصيات عراقية ساهمت في كتابة الدستور بأنه كتب في ظل ظروف خاصه يعاني منها العراق من الاحتلال الأمريكي وضعف مؤسسات الدولة اضافة الى حداثة التجربة الديمقراطية وان محاولة تعديله لا يمكن ان تتم من دون وجود تفاهمات سياسية بين المكونات وايضا ما بات يعرف بـ( الفيتو المحافظات الثلاثة) والذي يجعل التعديل أقرب الى المحال,والذي بموجبه يسقط اي تعديل دستوري إذا رفض الناخبون في ثلاث محافظات خلال استفتاء شعبي, يمكن القول بكل وضوح ان الزعامة الكردية باتت تمارس ما يمكن تسميته (الدكتاتورية الدستورية) ضد محافظات العراق العربيه.

وبالفعل فإن كتابة مسودة الدستور العراقي جاءت في ظروف سياسية وامنية اقل ما توصف به هو أنها غير طبيعية الأمر الذي أثار كثيرا من الخلافات عند تفسير كثير من المواد مما يزيد من تعقيد الأمور.

من المعروف ان سلطات الاحتلال وضعت قانون ادارة الدولة المؤقت الذي أصبح لاحقا ارضيه ومرجعية لمسودة الدستور العراقي الجديد,وبموجب القانون أعلنت المحافظات الكردية الثلاثة في شمال العراق ككتلة سياسية وادارية واحدة لايجوز المساس بها, ثم اقر القانون نفسه مبدأ الفيدرالية,كما ألزم مشرعي الدستور بتثبيت هذا المبدأ بالاضافة الى مواد اخرى تمنح سلطات الاقليم صلاحيات واسعة تتجاوز سلطات السلطة المركزية(المادة١٤٣) مع حق الإقليم المطالبة بما أسماه القانون بالمناطق المتنازع عليها من غير ان يسميها ليجعل منها اساسا لخلافات دائمة لا تنتهي.وهكذا زرع الدستور الدائم بذور مشكلة تهدد بالانقسام إن لم نقل بأنه أصبح اداة الانقسام والاختلاف بدلا من ان يكون اداة لتوحيد العراق والعراقيين.

ومما تجدر الاشاره اليه ان مسعود البارزاني اعلن في حينها أنه سيسعى بكل قوة لمنع قيام دولة عراقية قوية المركز وسيعمل على عرقلة اي توجه لتقوية جيشها كي يكون درعا لهذه الدولة,مما يوحي بان هناك استهداف اميركي اسرائيلي بالاتفاق مع الاكراد بتفكيك الدولة العراقية واعاقة بناءها من جديد بما يوهله لاعادة لحمة ارضه وشعبه,وهذا ظهر جليا حين اعتمد الساسه الاكراد على الخبير الاميركي بيتر غالبريث بصياغة مواد دستورية وضمنها في الدستور العراقي لتحقيق اهدافهم المعلنه وغير المعلنة, ولعل أخطر مادة دستورية تمكن غالبريث من تمريرها هي (المادة115) والتي يمكن اعتبارها مفتاح تفتيت العراق وهذ نصها( كل ما لم ينص عليه الدستور في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية يكون من صلاحية الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم , والصلاحيات الاخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والاقاليم تكون الاولوية فيها لقانون الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم في حالة الخلاف بينهما) مما يعني اذا حدث خلاف الأولوية تكون للإقليم وليس لبغداد حسب النص الدستوري.

هذه المادة ومواد اخرى اضافية مكنت ادارة اقليم شمال العراق من التمتع بصلاحيات أكبر من صلاحيات الفيدرالية لدولة مركزية ضعيفة لا تتمكن بحكم كوابح الدستور من تقليص صلاحيات الإقليم التابع لها, كما تركت مسألة استثمار الثروات الطبيعية ( النفط والغاز) في الإقليم مبهمة (المادة 111- 120وتخضع للقوانين والتشريعات الصادرة ,حيث استغلت الفقرة الثانية من المادة لصالح إجراءاتها في استخراج النفط وتوقيع العقود مع العديد من الشركات الاجنبيه خلافا للمادة(111) الصريحه.

حيث تمادت القيادة الكردية بتجاوز الدستور ومواده من خلال كتابة وإقرار دستور للإقليم تجاوز في صلاحياته سلطات المركز,وبما أن اي تناقض بين الدستور الدائم واي دستور او قوانين محليه يحسم لصالح الاقليم وقوانينه(المادة115-121) لهذا فإن السلطة المركزية بقيت عاجزة أمام انفراد الإقليم في اتخاذ من يناسبه من قرارات دون الرجوع للمركز, وهكذا بدأت التناقضات والاختلافات تظهر بين المركز والاقليم, حيث امتدت سلطات ونفوذ الإقليم وتمتعه باستثمار الموارد الطبيعية ليس في الإقليم فقط وإنما في مناطق ما يسمى المناطق المتنازع عليها والتي اعتبرتها سلطة الاقليم مناطق يحق لها التصرف بها بحرية, هذا في الوقت التي تعاني المحافظات الاخرى من هيمنة الأحزاب وانعدام الأمن وانتشار البطالة والفساد وانعدام الخدمات المختلفة.

واخيرا استطيع القول ان الدستور جاء مفصلا على مقاس الاحزاب الكردية , ومن هنا يتبين لنا السبب في إصرار سلطة الإقليم على التمسك بالدستور بصيغته الحالية وتعارض اجراء اي تغير عليه خاصة وأن التعديلات تجري بين حين واخر بل تتبدل الدساتير في مختلف دول العالم تبعا لتطور الظروف السياسيه والاقتصاديه والاجتماعيه ومتطلبات حاجات المجتمع.

ان اعادة النظر فى تعديل وصياغة مواد الدستور اصبحت حاجة ملحة من أجل تطمين المجتمع العراقي بكل اطيافه والحفاظ على اللحمة الوطنية من التمزق ومحاربة المشاريع الانفصالية وتحقيق العدالة الاجتماعية والحياة الكريمة لكل أبناء الشعب العراقي.