حول الزيارة الأخيرة للوفد الروسي الحكومي إلى دمشق دارت التساؤلات والتكهنات والاجتهادات والتحليلات الصحفية حول آفاقومستقبل الوضع السوري.
تنبأ البعض بأن الرئيس السوري، بشار الأسد، ينتوي الترشح لفترة رئاسية أخرى العام القادم، بينما تكهن البعض الآخر أنه لا يعتزمذلك، بينما يرتّب في المقابل لإيجاد بديل مناسب له. كذلك ارتكزت اجتهادات بعض المحللين السياسيين والصحفيين على تقييمالتحركات والخطوات الدولية في الشأن السوري، فرأى البعض أن زيارة الوفد الروسي الحكومي ليست سوى تهيئة لأجواء ما بعدبشار الأسد، لأن روسيا ربما ترتّب الأمور على النحو الذي يضمن لها مصالحها، ويحافظ على ما أسموه “عقود احتكاراتها“، خاصةفيما يتعلق بميناء طرطوس واستخدام قاعدة حميميم العسكرية وغيرها من الاتفاقيات التي أبرمتها مع الحكومة السورية.
كذلك هناك من قال إن روسيا مستعدة لمساعدة سوريا اقتصاديا، ولكن مقابل “شروط سياسية” و“خطوات محددة” يتعين علىدمشق أن تقوم بها في المقابل. وقال بعض آخر إن القيادة في دمشق لا تعتزم القيام بأي تغييرات، وتأمل بعد الانتصار الذي حققتهعلى الإرهابيين، وإفشال المخططات الإقليمية والدولية بشأن سوريا، إقامة علاقة تحالف استراتيجي مع روسيا، وفي هذا الاتجاهذهب البعض لما هو أبعد من ذلك، بأن روسيا “مضطرة” لدعم بقاء وضع الحكم في سوريا على ما هو عليه الآن، لكونه الضمانالوحيد لبقاء قواعدها البحرية والجوية المطلة على مياه المتوسط الدافئة، وما يترتب على ذلك من أهمية استراتيجية بالنسبةلروسيا في تعضيد موقفها الدولي أمام الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الناتو، وعودة هيبتها الدولية بعد تفكك الاتحادالسوفيتي وحلف وارسو. بل إن هناك من كتب أن الولايات المتحدة الأمريكية قد “تنازلت” لروسيا عن سوريا، وفقا لـ “اتفاق أمريكيروسي” بأن تتحمل روسيا مسؤولية سوريا كاملة!
في هذا الشأن ينبغي توضيح بعض الأمور الملتبسة ، وتسليط الضوء على الحقائق البسيطة والواضحة، والتي من الممكن، بقليلمن الموضوعية والحياد، قراءتها في تصريحات المسؤولين الروس والسوريين.
لقد صرح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، بأنعمل اللجنة الدستورية ليس محددا بـ “قيود زمنية“، وأشار إلى أن الدستور الحالي “يبقى معمولا به، ما لم يتم تبنّي دستورجديد“.
وهنا لا يتعيّن فهم حديث الوزير الروسي بأن روسيا ليست مهتمة بإنجاز تعديل الدستور أو التوصل إلى دستور جديد لسوريا،ولكنها ترفض وضع قيود زمنية، لحرصها على عدم تكرار السيناريو الليبي والعراقي، وإعطاء حجج لتفسير قرار مجلس الأمن رقم2254 على نحو آخر، واستخدامه ذريعة للقيام بعمليات عسكرية ضد سوريا.
بهذا الصدد لم تكن إجابة وزير الخارجية السوري موفقة في اختصارها، وتصريحه بأن “أي شيء يتعارض مع الدستور نرفضه“، وهوما ترك مساحة للقيل والقال والتكهنات والاجتهادات والصيد في الماء العكر.
من ناحية أخرى، أوضح لافروف، بشرح تفصيلي واف ، موقف روسيا من الأكراد، ومن عملية الانتقال السياسي في سوريا، مشدداعلى أهمية قرار مجلس الأمن رقم 2254، وضرورة دعم سوريا في المرحلة الحالية اقتصاديا، للتغلب على العقوبات الاقتصاديةالتي تمس الشعب السوري كافة. بل أقول في هذا الصدد إن روسيا تساهم اليوم في تشكيل تحالف دولي، خلال الأيام القريبةالقادمة، لتقديم مساعدات كبيرة لسوريا، دون اشتراطات، وهي مبادرة تحظى فعليا بقبول عدد من الدول.
نعود إلى هدف زيارة الوفد الروسي الحكومي إلى دمشق، والتي تأتي في سياق العلاقات الثنائية بين البلدين، وتحظى بأهمية كبيرةفي الوقت الراهن، بينما تمرّ سوريا بوضع اقتصادي كارثي، نتيجة لتسع سنوات من الأزمة والحصار المفروض عليها. تأتي الزيارةكذلك لمناقشة الخطوات التي يمكن أن تساهم في إنعاش الاقتصاد السوري على نحو سريع، وللتعبير مرة أخرى عن استعدادروسيا دوما للوقوف إلى جانب أصدقائها، وعدم تخليها عن دعم سوريا، والمساهمة في تخفيف معاناة الشعب السوري، خاصة فيظل مخاطر جائحة كورونا، وانقطاع الكهرباء، وشح مصادر الطاقة والوقود، ونحن على أبواب شتاء تشير جميع المؤشرات إلىقسوته الشديدة، وهو ما يحمل الحكومة السورية أعباء إضافية لتوفير وسائل التدفئة للشعب السوري. كذلك فقد حلت بالشعبالسوري كارثة جديدة هي الحرائق، التي تحتاج إلى تدخلات ومساعدات دولية لمواجهتها.
سياسيا، أكّد الوفد الروسي على مواقفه الثابتة، وناقش مع الجانب السوري الخطوات الواجب اتخاذها في الظروف الراهنة في شرقوغرب شمال سوريا، حيث تقوم روسيا بدور الوسيط بين الجهات المعنية، وعلى أساس تطور الأحداث، واستنادا إلى موقف روسياالثابت بشأن السيادة ووحدة الأراضي السورية، وعدم التنازل عن شبر واحد من التراب السوري، وحتى استعادة السيادة الكاملةللحكومة السورية على كافة أراضيها.
يمكن توقع التطورات في المستقبل القريب على النحو التالي:
إجراء تعديل دستوري، ثم الاستفتاء الشعبي عليه، وهو ما يمكن إنجازه تقريبا بحلول شهر مارس/آذار 2021، يليه انتخاباتبرلمانية في شهر مايو/أيار 2021، ثم انتخابات رئاسية في شهر يوليو/تموز 2021. وهو ما يتوافق مع قرار مجلس الأمن رقم 2254،ويضع المسؤولية على أكتاف السوريين لينطلقوا في هذا الإطار الزمني للتحضير لإنقاذ وطنهم، دون أي شروط مسبقة، بالتجاوبمع كل ما يمكن أن يساعد في تحقيق هدف بناء سوريا الجديدة، والابتعاد عن كل ما يمكنه عرقلة هذه المسيرة.
أما فيما يخص سعي البعض لتشكيل مجلس حكم انتقالي مؤقت، فأرى ذلك أمرا غير وارد، لأن هذه النوعية من المجالس تتشكلفي الحالات الطارئة، بينما نحن في سوريا أمام وضع شبه مستقر، تسود فيه الهدنة ووقف إطلاق النار في جميع المناطق، ما عدابعض القلاقل في إدلب وضواحيها، والتي تعالج من خلال التنسيق ما بين أطراف مجموعة أستانا (روسيا وتركيا وإيران).
كذلك يحاول بعض الصحفيين والسياسيين تصوير الوضع وكأن هناك شرخ في مجموعة أستانا، تحاول من خلاله الدول الثلاثة“التنافس” فيما بينها حول من تكون له اليد الطولى في سوريا، ومن يحقق أكبر قدر من المكاسب، وهو تصور لا أساس له منالصحة. فالدول الثلاث في مجموعة أستانا تسعى جميعا، وفي تناغم تام، إلى التوصل إلى سلام عادل وشامل، واستقرار مستدامفي منطقة الشرق الأوسط، يستند إلى علاقات حسن الجوار والتفاهم وقبول الآخر، في بيئة تساعد على ازدهار الشعوب والعيشبسلام. وتجري اتصالات بين الدول الثلاث بمعدل شبه يومي، ويتم تبادل الوفود والمسؤولين والخبراء على كافة المستويات بينهذه الدول، وذلك بالإضافة إلى علاقات الاحترام والثقة المتبادلة بين رؤساء هذه الدول.
مع كل ذلك، فإن هذا لا يعني إطلاقا اتفاقا تاما حول جميع قضايا المنطقة، وإنما يعني أن هناك أرضية مشتركة للحوار والتفاهم،تحفظ لكل من الأطراف وجهة نظره الخاصة بشأن موقفه وإرادته السياسية ومصالح بلاده، وتسعى دائما للتوصل إلى حلول وسط،ومساحات للمصلحة العامة والمشتركة، ودائما ما تغلّب تلك المصلحة في اتخاذ أي قرار مصيري.
ونهاية فإن الشعب السوري وحده هو صاحب الكلمة العليا، والكلمة الفصل في مصلحة بلاده، وذلك قرار سيادي بحت لا نقاشحوله.
أتوجه ختاما إلى أخوتي السوريين بأن يضعوا قضية إنهاء مأساة شعبهم فوق أي مصالح سياسية أو شخصية أو إقليمية أو دوليةأخرى، وكفى ما حاق بسوريا زهاء تسع سنوات عجاف، دفع فيها الشعب السوري العظيم دماءه ثمنا لمستقبل لا زال غامضا علىطاولات المفاوضات، ونزح فيها الملايين من ديارهم وتشتتوا في بلاد الله، دون أن يعرفوا متى يعودون أو إلى أين يعودون، وصمدمن صمد على الأرض السورية الطاهرة يواجه الفقر والجوع والمرض والموت في كل لحظة.
إن مسؤولية ضخمة تقع على عاتق السياسيين والصحفيين، بأن يتوقفوا عن صب الزيت على النار، وتأجيج الصراعات والأزماتوتحقيق “أعداد مشاهدات” تتناسب طرديا مع “أعداد القتلى والجرحى“، وأن يتوقفوا عن إعلاء المساجلات السياسية والمصالحالشخصية أو الإقليمية على حساب مصلحة المرضى والجوعى والأطفال والمستقبل.
إن سوريا باقية، والكل زائلون. فلنكتفي بهذا القدر من القتل والدمار، ولنحاول خلق واقع جديد، يمتلئ أملا وحبا يليق بسورياالمستقبل.
* سفير فلسطين في سوريا سابقا