23 ديسمبر، 2024 8:37 م

{ الخلق عيالي فأحبهم اليَّ ألطفهم بهم وأسعاهم لحوائجهم }

حديث قدسي

” خير الناس أنفعهم للناس “

حديث نبويّ شريف

قال الشاعر العربي :

اقض الحوائج ما استطعت

                      وكُنْ لهم أخيك فارِجْ

فلخيرُ ايامِ الفتـــــــــــى

                    يَوْمٌ قضى فيه الحوائج

-1-

من أهم السمات التي تقفز بالشخصية الانسانية الى القمم العليا ، الحبّ الصادق للناس ، والتوثب لخدمتهم ونفعهم ، وتحمل المشاق وألوان المكابدات من أجل قضاء حوائجهم، وادخال السرور على قلوبهم …

انه مقياس عظيم للسموّ والرفعة والمكانة المتميّزة عند الناس .

ومن هنا تجد ان من يملك هذه الروح ، يقتحم القلوب بلا استئذان، ويستقر في حناياها …

بينما لاتجد الانانيين والذاتيين الاّ وهم يعيشون في مستنقعات الذمّ ، يتلقون ما يستحقون من كلمات التقريع والاستهجان لمواقفهم ومسالكهم .

-2-

ومن أعظم المراجع شغفاً باغاثة الملهوفين والتنفيس عن كرباتهم ، هو المرجع الأعلى للامامية في عصره ، شيخ الفقهاء ونابغة العلماء آية الله العظمى الشيخ جعفر الجناحي الكبير (1156 هجرية – 1227 هجرية)

صاحب كتاب (كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء ) والذي لقّب ب (كاشف الغطاء ) نسبةً الى كتابه ، وصار ذلك لقباً لعائلته .

قال المحّدث النوري في وصفه :

( وان تفكرّت في بذله الجاه العظيم – الذي أعطاه الله من بين أقرانه ، والمهابة والمقبولية عند الناس على طبقاتهم من الملوك والتجار … للفقراء والضعفاء من المؤمنين … وحضّه على طعام المسكين لرأيت شيئاً عجباً )

مستدرك الوسائل /ج3/397-398

وقال عنه السيد الأمين في الاعيان :

( قد انتهت اليه رئاسة الإمامية الدينية في عصره ، والزمنية في قطره ، فهو الفقيه الأكبر ، مفتي الامامية ، رجع الناس اليه ، وأخذوا عنه …

واشتهر باعتدال السليقة في الفقه وقوة الاستنباط  من الأدلة ، فكان أعجوبة في الفقه .

ولقوة استنباطه ، اشتهر من باب المُلح – ان الشيخ جعفر عنده دليل زائد ، وهو دليل الشم ، وكان مع ذلك أديباً شاعراً )

أعيان الشيعة /4/100

وجاء في ترجمته أيضاً :

( كان من دأب الشيخ – رحمه الله – كلما صلّى بالجماعة ، أن يأخذ طرف ردائه ويدور بين الصفوف ، ويجمع الدراهم والدنانير ويعطيها للفقراء والمساكين )

ان هذا المسلك ناطق بمزاياه الأخلاقية والانسانية ، فهو لايرتاح الاّ حين يُدخل السرور على قلوب البائسين والمستضعفين من الفقراء والمساكين .

لم يمنعه علوُّ شأنِه ، وارتفاع مكانته من مباشرة جمع المال بنفسه للضعفاء والفقراء ، وفي كل يوم حين تنتظم الصفوف لتصلي خلفه ..!!

-3-

ومن روائع القصص التي نُقلت عنه ، والتي تصلُح ان تكون درساً بليغاً لكلّ المتعطشين للقيام بأدوار انسانية نافعة ، هذه القصة :

حين سافر الشيخ الى (اصفهان) جاءه شاب علويّ من طلاب العلوم الدينية – الفقراء طبعاً – قائلاً :

ان لي حاجةً استحي من بيانها لك ، ولكن الضرورة ألجأتني الى ذلك فقال له الشيخ :

قل ياولدي ، فلعليّ استطيع أن أقضي حاجتك، فقال الشاب :

ان هناك فتاة جميلة ، تعلّق قلبي بها ولستُ قادراً على ان أكون بعيداً عنها ، فلا طعم للحياة عندي بدونها وهي ابنة فلان – الرجل الثري المعروف في البلد – ولن يوافق على تزويجي بابنته، للفارق الكبير بين مستوى معيشتنا، فهو غني كبير، وأنا فقير للغاية ، فجئتك راجياً ان تكلمه في هذا الأمر ليكون الفرج – بعونه تعالى – على يديك ، وتزاح عني هذه الغُمة .

لقد رق الشيخ لهذا الشاب الذي أضناه الحُبُّ وتيمّه وقال له :

سأفعل ان شاء الله .

ثم أرسل رسولاً الى والد الفتاة يخبره بعزمه على زيارته في المنزل ، ففرح الرجل كثيراً ، وخرج لاستقباله من منتصف الطريق بكل حفاوة وتعظيم ، وأجلسه في أحسن مكان ، وقدّم له مالذَّ وطاب …

فقال له الشيخ :

جئتُك في حاجة وأنا أرجو ان لاتردّني، ثم عرض عليه رغبة الشاب العلوي في الزواج من ابنته ،

ورغبّه بذلك حيث أنه اذا وافق فسوف يصبح صهراً للرسول (ص) وفي ذلك شرف كبير له في الدنيا والاخرة .

ثم قال له :

ان ضَعْفَهُ المالي لايمنع من ذلك، لأنك تستطيع ان تقدم لك ما يلزم من المعونة، والله ورسوله يجزيانك عن ذلك أحسن الجزاء …

امتنع الأب ، ورفض وساطة الشيخ، وحين خرج الشيخ تلقاه الشاب وسأله بكل لهفة عن النتيجة ، ولم يخف الشيخ عنه ما جرى …

وبعد أيام عاد الشاب العلوي الى الشيخ يطلب منه ويتوسل اليه ان يعيد الكرّة ، لعل الاب الرافض في المرة الاولى أن يستجيب في المرة الثانية .

وهنا لبّى الشيخ رغبة الشاب ووعده بالتدخل ثانية .

وهكذا كان ،

ولكن الاب في المرة الثانية لم يكتف بالرفض والإصرار على موقفه السابق ، بل أضاف الى ذلك التقصير في التعامل مع الشيخ بما يناسب مكانته ومقامه ..!!

ومعنى ذلك أنّ الشيخ تعرّض شخصياً بسسب رغبته في حل مشكلة الشاب العلوي الى مالا يليق من تصرف الاب، واحتسب عناءه عند الله أجراً ومثوبة.

واذا كان الشاعر يقول :

صاحب الحاجة أعمى       لايرى إلاّ قضاها

فقد عاد هذا الشاب العلوي الى الشيخ ثالثةً، وكرّر توسله بان يتدخل الشيخ في المسألة …!!!

وهنا كان بوسع الشيخ الامتناع عن ذلك، خصوصاً بعدما لقي من برود الأب وتقصيره في مراسم الاستقبال والتوديع ،ولكنه لم يمتنع ، وقبل التدخل ..!!

وحين ذهب الشيخ الى منزل الاب أجابه الرجل :

قلت لك أني لا أوافق على تزويج هذا الشاب فلماذا الاصرار ؟!

فقال الشيخ :

اسمع ايها الرجل :

” ان هذا السيد العلوي صاحب لهفة وحاجة فلو عاودني خمسين مرة ان اساعده في قضاء حاجته وازاله لهفته، وطلب مني في كل مرة ان آتيك وأكلمك في شأنه لما ترددتُ في اجابة طلبه، مهما لقيتُ منك من التنكر والجفاء والإعراض، فان غرضي أسمى من ذلك .. “

فعند ذلك بكى الرجل بكاء شديداً، وانقضّ على يديْ الشيخ يقبلهما ويقول له:

مولاي

أنا مقلدك ، وأدين ربي بطاعتك واتباعك ،

أردتُ ان اختبر صبرك وتحملك ليطمئن قلبي ، ويزداد ثقةً بك، وهذه نفسي ، واولادي ، ومالي بين يديك تتصرف بها كيفما تشاء “

فشكره الشيخ على ذلك ، ودعا له ثم خرج ليبشر الشاب العلوي المتلهف بحصول الموافقة .

وتمّ عقد القِران بينهما

وعاشا في مسرة وسعادة …