23 ديسمبر، 2024 5:46 ص

الدراويش يبحثون عن الحقيقة

الدراويش يبحثون عن الحقيقة

مسرحية (الدراويش يبحثون عن الحقيقة) للكاتب السوري مصطفى الحلاج، من المسرحيات العربية المعاصرة القليلة التي حققت النضج والابداع على صعيدي الشكل والمضمون.
ومصطفى الحلاج، واحد من كبار كتاب المسرح في سوريا، محور مسرحياته، الانسان العادي الذي يعيش في مجتمعات دكتاتورية تستمر في البطش والتعذيب، تحاول جاهدة الغاء هوية الانسان وابتزازه الى ابعد حد ممكن.

ظهرت “مسرحية الدراويش هذه عام 1970، وهي بالتأكيد لم تكتب للعام الذي ظهرت فيه ولا للذي سبقه او الذي تلاه، بل لكل عام يمضي وكل عام يأتي، لانها كقضية انسانية تحمل قضية الانسان في كل زمان ومكان، ولانها كقضية فنية تحمل اضافتها من الماضي الى الحاضر فالمستقبل، والا ما كانت من الفن العظيم جزءاً في وحدة كنزه الذي هو تراث للبشرية جمعاء.

قضية الانسان في هذه المسرحية تلخصها كلمات همنغواي التالية: من الممكن قهر الانسان ولكن من المستحيل تدميره. على وقع هذه الكلمات.. ينهض حدث المسرحية ليطرح في دلالته اخطر قضية كانت منذ كان الانسان او منذ دخل الانسان في علاقة الحاكم بالمحكوم في النظام الاجتماعي الذي فرز في تطوره الناس الى سادة ودراويش، الى سلطة ورعية، الى دولة صارت حرية الانسان فيها قضية القضايا.

مسرحية الدراويش تركز على مسألة التحول والانتماء في حياة الانسان وانتقاله من حياة الهامش او اللاموقف او الدروشة الى بؤرة الازمة او اتخاذ الموقف او الانتماء السليم، كما تطرحه هذه المسرحية، التي “تناولت موضوعاً محلياً من وطننا العربي، ولكن دون ان نقول الى اي قطر ينتمي ربما وقع في هذا البلد او ذاك وربما كان قابلاً للوقوع في هذا البلد او ذاك، المهم انه يجري على ارض من عندنا، وفي فترة من تاريخنا بعيدة او قريبة ولكنها معروفة هي فترة الحكم الذي يعيش معزولاً عن الشعب وفي خوف منه ثم في عداء له يبلغ حد البطش.

ويعرض الكاتب لحقيقة مرة تنسحب على كثير من مجتمعات الوطن العربي المتخلف على وجه الخصوص، انها حقيقة تعذيب الانسان وسلبه براءته واكراهه على الاعتراف بذنب او جريمة لم يقترفها.

الاطار التاريخي والاجتماعي لهذه المسرحية هو فترة ما بعد هزيمة حزيران/ 1967، حيث راح كثير من ابناء الامة العربية يعيدون النظر في الظروف الحضارية والاجتماعية والتاريخية والسياسية التي ادت الى تلك المأساة. وقد توقف كثير من الادباء عند اشكالية الانتماء او اتخاذ المواقف المسؤولة التي كانت بعداً من ابعاد الهزيمة او سبباً من اسبابها.

والمسرحية تمسك لحظة الازمة في عملية البطش هذه حين يكون الحكم في ذروة طغيانه وذروة ضعفه معاً فيعمد في ارهابه الى اخذ الناس بالوشاية او الشبهة ويحكم عليهم على اساس تشابه الاسماء لا حقائق الافعال،

ويكون الحكم حتى الموت مستنداً الى ملف التحقيق يرتكز على المتهم مذنب والآن التعذيب تتكفل بان تجعل المتهم يعترف بأنه مذنب وهو يعترف لانه سيموت في الحالتين بل انه في سعيه الى الخلاص يختار الموت السريع الذي تأتي معه رصاصة الرحمة على الموت البطيء الخالي من كل رحمة.

هذه الصورة الرهيبة لعملية الكبت البشعة ترتسم خطوطها وتتكامل ألوانها عبر المشاهد الثلاثة للمسرحية حاملة معها كل حقيقة وموضوعية عبارة همنغواي (من الممكن قهر الانسان ولكن من المستحيل تدميره).

في هذه المسرحية الهادفة يلقانا بطلها درويش عز الدين، انسان مسالم يعيش في حاله، يعيش في كنف اسرته بعيداً عن هموم السياسة ومشاكلها، فهو شخصية لا ناقة له ولا جمل في كل ما يجري حوله وهو لا يقدم ولا يؤخر في حياة مجتمعه لا سياسياً ولا فكرياً ولا وطنياً.

ودرويش بهذا الاسم المسرحي يمثل الفئة من ابناء الوطن العربي تظن انها آمنة اذا تجنبت الظروف والمشاكل التي تمر بها مجتمعاتنا واوطانها، وتمضي الامور على هذا النحو الى ان يعتقل درويش خطأ لتشابه اسمه مع اسم شخص آخر يدعي درويش، تبحث عنه السلطة لتزعمه خلية وطنية تناهض الحكم وتدعو للتمرد عليه، فيلاحقه سوء طالعه متهماً بتهمة سياسية بالغة الخطورة وهي محاولة قلب نظام الحكم في بلده.

يلقى درويش في السجن وينال من العقاب والمهانة ما لم يكن يخطر بباله او يسمع عنه طيلة حياته الحيادية او الهامشية او الدرويشية، كل هذا ليعترف بأنه زعيم تلك الخلية الخارجة على القانون ولكي يدل رجال الامن على بقية افراد هذا التنظيم الذي يتزعمه.

يرد درويش التهمة بأصرار فلا بد ان يكون الامر قد ألتبس على رجال الشرطة والمخابرات، فهو انسان بعيد عن السياسة لا بد ان يكون هناك درويش عز الدين آخر هو المطلوب.

حاول درويش اقناع المحققين انه شخص آخر لا علاقة له بالشخص الذي يبحثون عنه وان تشابه الاسماء كان بمحض الصدفة حتى لو كان هذا التشابه في اسمه كاملاً – الاسم الثلاثي- ولكن لا احد يصدقه، فصيحاته تذهب ادراج الريح، فحبل المشنقة يوشك ان يطبق، وتظن السلطة انه يصر على الانكار تجنباً للعقاب او الاعدام، وتسوء معاملته اكثر فأكثر في السجن ويلقى اصناف التعذيب والمهانة، وفي تلك الاثناء بدأ يتعرف على قضايا في السياسة والمشاعر الوطنية… وبدأ يشعر داخلياً بالتحول من اللاموقف واللاانتماء الى اتخاذ موقف منتم ملتزم ضد هذا التعذيب وضد هذا الفساد السياسي بحثاً عن الحرية والحقيقة والامن والاستقرار.

والجميل في المسرحية، هذا الصراع الداخلي الذي يدعه المؤلف يمور في نفس درويش بعد ان يكتشف طغيان الظلم على كل شيء.

انهم يريدون سلبه براءته بأي ثمن، لم يصدقوه حين اقسم لهم ان المطلوب شخص آخر يحمل الاسم نفسه. وحين بدا ان قاضي المحكمة يوشك ان يصدقه، تدخل المخابراتيون الغلاظ مؤكدين انه هو المجرم المطلوب.

وحين يرى درويش ان الموت بات مؤكداً بحقه بعد فترة قصيرة يفضح ببلاغته الواقع السياسي والاجتماعي في بلده بل انه جراء هذه التهمة التي (لبسته) بالاكراه يتحول الى درويش آخر مستعد ان يقدم نفسه قرباناً للحرية.

فبعد هذا الاحساس الداخلي بالتحول يتوصل الى فكرة عظيمة تتوهج في اعماقه، ويقرر ان يتبناها ويعلنها، كانت هذه الفكرة ان يعلن انه درويش الحقيقي الذي تبحث السلطة عنه وانه درويش زعيم التنظيم المعارض، وانه كان مضطراً للانكار خشية الاعدام، وهو من جانب آخر اتخذ هذا القرار عقاباً له ولتاريخه الهامشي الطويل الذي ابتعد فيه عن حركة مجتمعه والتغيرات التي طرأت عليه عقاباً على هروبه من المواجهة وعدم اسهامه في بناء مجتمعه وتوجيهه نحو الطريق السليم عقاباً لنفسه على الانسلاخ والتزام الحياد ظناً منه انه سيكون آمناً بعيداً عن مشكلات وطنه.

يقهقه ساخراً من مفارقات الحياة التي ارغمته على دخول قفص الاتهام وهو الوديع البريء. لم تنفعه الاثباتات التي ساقها للتدليل على برائته، فعصره عصر استبداد وادانة بالشبهة وحتى الوشاية. اما رجل الوشاية فمن ازلام المستبد او الدكتاتور، همه ارضاء سيده ولو من خلال تلفيق التهم للابرياء.

مجموعة افكار دارت برأس درويش وهو يحاول اتخاذ القرار بأفتداء درويش الحقيقي الذي اصبح بالنسبة له نموذجاً للنضال الوطني الحميمي الشريف، واتخذ هذا القرار ليعدم هو بدلاً عن ذلك الرمز الوطني ليعطيه فرصة الحياة بعد ان تكف السلطة عن البحث عنه ولو مؤقتاً اذ ربما ينجح في المستقبل في رد الظلم واستعادة العدل والحرية لكل المظلومين والمسحوقين.

يعترف درويش وقد اصبح صاحب موقف وانتماء، انه درويش الذي يبحث عنه ويقدم للمحاكمة ويصدر عليه حكم الاعدام ثم يواجه الموت بروح مطمئنة وبحالة فرح ونشوة، اذ استطاع ان يفعل شيئاً سامياً في حياته الهامشية تلك، وان موته هذا لم يكن هامشياً ولا بالمجان وانما جاء موتاً مشرفاً ملتزماً في سبيل وطنه ومجتمعه ومستقبل امته.

ان هذه المسرحية تعري واقعاً مأساوياً غير غريب عن بعض مجتمعاتنا العربية التي تصفي وتعدم على مجرد الاسم والهوية والقرابة، والمهم انها أحيت صراعاً داخلياً لدى البطل درويش جعله وهو المسالم البعيد عن السياسة واهلها يجد نفسه فجأة مخلوقاً جديداً ثائراً على الزيف والتمويه وتلبيس التهم.

انها مسرحية حرة تطرح قضية الحرية ومعزتها على الانسان ومعاناة هذا الانسان واستشهاده في سبيل توكيدها، ثم هي لا تضحي بالظروف التاريخية في سبيل الغائية الشكلية او الجمالية. انها تفهم هذه الظروف وتملك الجرأة والقدرة على مقاربة احداثها في اعقد واحرج نقاطها وبهذا الامتلاك تأتي الجمالية عنصراً في الابداع لا شكلاً بهرجياً على سطحه.

مسرحية الدراويش تجعلنا نحس اننا مثل درويشها نعاني من الاختناق من فقدان الحرية. هذه المسرحية تهزنا بمأساة بطلها ولكنها تجعلنا نثق ايضاً الا شيء يحطم الانسان ويحمله على التراجع، وهذا كمحصلة هو التفاؤل العميق الثوري الذي نخرج به منها.

وبعد، أرانا في عالمنا هذا مازلنا نعيش مأساة درويش عز الدين الذي فقد برائته لمجرد تشابه الاسماء، ترى متى تصان براءة انسان المجتمعات العربية المختلفة. متى ينقضي الخوف والقلق على المصير من واقع هذه المجتمعات التي تبتز انسانية الانسان.

* المسرحية:

الدراويش يبحثون عن الحقيقة، تأليف – مصطفى الحلاج، ط 2، دار الفارابي، بيروت 1979.