فتح دراسات مسائية للحصول على شهادة البكلوريوس وتوسيع هذه الدراسات يتفق تماما مع سياسة التوسع في قبول الطلبة في الجامعات، وهي سياسة ذات ابعاد تربوية عديدة خصوصا في وضع يتصف بفقر الامكانيات البشرية والبنى التحتية الملائمة، وفي زمن اختلط فيه الحابل بالنابل قد نخسر فيه نتيجة الرهان على الكم كل انجازات النوع. الدراسة المسائية تزيد حتما من عدد طلبة الجامعات ضمن نفس الامكانيات البشرية من اساتذة وإداريين وباستخدام البنايات والمختبرات والقاعات وغيرها من البنى التحتية. ومعنى آخر للدراسة المسائية هو استخدام نظام “الشفتات” المعتاد عليه في المعامل لإنتاج نفس البضاعة وفي نفس المكان وذلك بتغيير “العمال”، ولكن بدون تغيير “المهندسين” المشرفين، وهو امر ليس بالملائم ابدا لتطوير وتحسين النوعية وجودة البرامج الاكاديمية.
الدراسة المسائية او الدوام الجزئي في الجامعة تسمح للموظف بتوسيع آفاقه أكاديميا، وفي نفس الوقت تعمل على توفير مهارات اجتماعية ومهنية وتنظيمية والحصول على قدر كبير من المعارف في فترة قصيرة نسبيا من الزمن، وربما تساعده في تسلق سلم الوظيفة او ايجاد فرص عمل افضل. هذه هي اهداف الدراسات المسائية لما هي عليه في الدول المتطورة، وهي عادة تتوفر لكبار السن ممن فاتهم قطار التعليم العالي والعاملين في الدولة او الشركات، وهي في اغلب الاحيان تكون بصورة شهادات مهنية كالدبلوما وما شاكلها.
في العراق قد لا يختلف الغرض من الحصول على الشهادة إلا بكون الشهادة نفسها ليست مهنية وإنما اكاديمية وتقدمها تلك الجامعات نفسها التي تقدم الشهادات الصباحية، اي ان الجامعة تمنح شهادتين متشابهتين في معظم مكوناتها إلا في اوقات دوام طلابها. قد يستغرب من هذا الامر من لا علاقة له بالتعليم العالي في العراق إلا ان العجب يزول عندما يعرف السبب. سياسة الدولة في العراق هي توفير فرص الدراسة الجامعية والحصول على الشهادات الاكاديمية (اي تلك التي بدرجة البكلوريوس) لكل من يرغب من خريجي الدراسة الاعدادية ولا يستثنى من هذا خريجي المدارس الصناعية والزراعية والدينية والفنون التطبيقية والتمريض، وبما ان الكثير منهم لا تسمح لهم معدلات تخرجهم للولوج في الدراسات الصباحية في الجامعات يلجئون الى الدراسات المسائية حيث يجدون ضالتهم في التعليم العالي بحصولهم على شهادات عالية تتناسب متطلبات الحصول عليها مع مستوياتهم العلمية وقدراتهم البسيطة الا انها شهادات ليست بذات فرق عن شهادات الدراسات الصباحية، وتكفل القوانين حصولهم على نفس الامتيازات التي يحصل عليها اقرانهم خريجي الدراسات الصباحية.
الدراسات المسائية لا تأخذ بنظر الاعتبار كون الجامعة مؤسسة تدريبية اكاديمية توفر للطالب بيئة اكاديمية صحية لنمو معارفه عن طريق التعليم والتعلم لقابليات المهنة والاحتراف والاتصال والمواصلة والقيادة والعمل الجماعي والعلاقات الاجتماعية، ولسبب بسيط ان الدراسات المسائية ليست لها بيئة جامعية إلا في كونها عبارة عن مجموعة محاضرات يلقيها اساتذة متخصصين ضمن ساعات مخصصة لهم في قاعات الجامعة. اما اذا افترضنا عدم وجود فروق بين البيئة الاكاديمية والبحثية والمجتمعية للدراسات الصباحية عن المسائية فان هذا سيعني وجود ضعف تركيبي كبير ومشكلة هائلة في الدراسات الصباحية. حاليا تجد الدراسات المسائية سببا لوجستيكيا وأرضية خصبة لنموها في ظل تحديد ساعات الدوام الصباحي في الجامعات الى موعد اقصاه الساعة الثانية او الثالثة بعد الظهر وهو ما تنفرد به الجامعات العراقية بالرغم من ان تحديد الدوام لساعات محدودة في اليوم ينفي صفة “جامعة” عن المؤسسة التربوية برمتها.
هل الدراسات المسائية في الجامعات ضرورة؟
الجواب بالتأكيد هو النفي لان الجامعة التي تعتبر نفسها مؤسسة راقية ورصينة للتعليم العالي تمنح شهادة واحدة لا شهادتين احداهما صباحية والأخرى مسائية لا فرق بينهما إلا في اوقات الدراسة. مع هذا فمسؤلية الجامعة تتعدى منح الشهادات الاكاديمية بحيث توفر كورسات ودراسات مهنية وتدريبية مسائية او بدوام جزئي لا توازي شهاداتها الاكاديمية الاعتيادية من قبيل البكلوريوس او الماجستير.
أي من الجامعات تمنح شهادتين اكاديميتين صباحية وأخرى مسائية؟
قليلة جدا او معدومة هي الجامعات الرصينة التي تمنح مثل هذه الشهادتين، وفيما عدا جامعات العراق والأردن وعلى نطاق محدود جدا في بعض الدول العربية الاخرى فان وجود دراسات اكاديمية مسائية على مستوى البكلوريوس والماجستير خصوصا في التخصصات العلمية والعملية معدوم او قليل جدا، وهو في العادة يكون مخصصا لكبار العمر ومن فاتهم قطار التعليم العالي من الموظفين.
ما هي مساؤئ الدراسات المسائية؟
لا تختلف مساؤها عن مساؤئ الدراسات في الكليات الاهلية والتي خصصتُ لها مقالتين، يمكن مراجعتهما على الرابطين المذكورين في اسفل المقالة *. لذا وبشهادة عدد من الاكاديميين العراقيين وبصريح العبارة انها دراسات تعطي شهادات جامعية من غير كفاءة علمية. اخبرني احد الأكاديميين ان له صديق تخرج من كلية الاداب قسم الترجمة ولا يعرف ان يكتب جملة انكليزية مفيدة ومتكاملة من حيث المعنى والقواعد، ومع ذلك فانه يتفاخر متباهياً بأنه حصل على شهادة البكلوريوس بالترجمة بعلاقاته وأمواله. ويعتبر اكاديمي اخر ان الدراسات المسائية اضحت مكان سهل للحصول على شهادة جامعية وخصوصا عند السياسيين العراقيين وأعضاء الاحزاب المتنفذة، ويشير الى التسيب الواضح في الدوام وعدم حضور الطلبة للمحاضرات وغياب الرقيب او المحاسب لهذه التصرفات. وكما هو الحال في الكليات الاهلية، تبرز ظواهر من الفساد منها الابتزاز المالي للطلبة والمحسوبية، وايضا بعض الحالات الغريبة منها حضور بعض حمايات السياسيين في القاعات الدراسية وغض النظر من قبل ادارة الكلية عن هذه التصرفات الغير مقبولة.
الاهم من هذا كله ان ما يصلح للدراسات المسائية محدود من ناحية الشهادات والكورسات فالدراسات الاكاديمية (البكلوريوس والماجستير) في الفروع العلمية والطبية والهندسية غير ملائمة أبداً، بينما تكون دورات التقوية والحصول على الخبرة والدبلوم العالي ودبلوم الاختصاص اشد ملائمة خصوصا للعاملين في حقول الاختصاص، ومن الراغبين من الكبار باكتساب معلومات جديدة.
والدراسات المسائية الاكاديمية تبخس حقوق طلبة الدراسات الصباحية لان شهاداتها معادلة للشهادات الجامعية الصباحية في حين يكون الطالب دون المستوى، وغير ملائم ابدا للدراسة الجامعية ولا يمتلك المؤهلات الضرورية للولوج في الدراسة الجامعية، لذا فهي كما يقول المثل “تخلط الاخضر بسعر اليابس”، وبطريقها يدخل الطالب الدراسة الجامعية “عبر الشباك وليس عبر الباب”، كما انه ليس من العدل ان يمنح طالب حاصل على 60% فرصة متساوية مع طالب متفوق حاصل على اكثر من 80% وبحصول الاثنين على شهادة واحدة في نفس الاختصاص ومن نفس الكلية والجامعة.
وتضع شهادات الدراسة المسائية عبئ على الجامعة من حيث كونها حجر عثرة امام الاعتراف العالمي بشهادات الجامعة، لذا على الجامعة التي ترغب في الحصول على اعتماد اكاديمي عالمي ان تحسب الف حساب قبل التفكير بفتح مثل هذه الدراسات الاكاديمية المسائية. اننا في الوقت الذي نطالب الجامعات باعتماد نظام “امتحان الدخول السيكومتري” العام كنظام جديد لقبول المؤهلين فقط الى الجامعات وكأسلوب لتحسين جودة المدخلات نجد في فتح الدراسات المسائية لكل من يرغب في الدراسة الجامعية، والتوسع في الكليات الاهلية بدون الضوابط التي ذكرناها في مقالتنا السابقة، ارتداد للتعليم العالي وسيكون له نتائج وخيمة في انحطاط مستويات الشهادات الاكاديمية.
وصولا الى اصلاح جذري شامل لمنظومة التعليم العالي اقترح التصور الحالي بشأن الدراسات المسائية:
1- الغاء الدراسات المسائية للحصول على شهادات البكلوريوس في الاختصاصات الاكاديمية.
2- فتح دراسات مسائية تدريبية في مواضيع مهنية لتحسين الكفاءة وعلى مستوى الدبلوم وشهادات الخبرة.
3- يقبل في الدراسات المسائية كبار العمر والموظفين ومن فاتهم قطار التعليم العالي.
4- فتح دراسات مسائية قصيرة المدى اي لا تتعدى ستة اشهر في مواضيع ثقافية وعلمية وصحية وتكنولوجية وفنية عامة ذات اهتمام جماهيري وتكون مفتوحة للجميع. وتعتبر مثل هذه الخطوة من اهم الوسائل التي يمكن فيها نشر الثقافة العلمية والتكنولوجية الاصيلة من قبل الجامعات، وتمكين الناس الاعتيادين من تعلم اساليب ووسائل جديدة لتحسين حياتهم والاهتمام بحرف او هوايات تبعدهم عن مصاعب الحياة وظروفها القاسية في مجتمع غير مستقر يسود فيه الارهاب والفساد. وهنا احب اقتراح بعض هذه الدراسات المسائية كالديكور والتمريض المنزلي والإسعاف المستعجل، وتنظيم الحدائق وإدامة المنازل والتلوث البيئي والصحة العامة وثقافة التسامح والمحاسبة والاقتصاد المنزلي والرسم والفنون التشكيلية وفن الكتابة واللغات الاجنبية ونظم الشعر وعلم النفس الاجتماعي وهندسة السيارات وتصليح الادوات الكهربائية، ومئات من الحرف والهوايات الاخرى الضرورية لبناء الانسان ثقافيا واجتماعيا ومهنيا. اليس هذا الغرض هو حقا مهمة الجامعة؟
وفي خاتمة هذه المقالة لا املك إلا ان اقول اني قد عرضت رأي وادليت بفكرتي ولعلني قدمت اقتراحات نافعة كما هو عليه عادتي في كل مقالاتي السابقة آملا من وزارة التعليم العالي والجامعات العراقية عدم إهمالها، واعتذر ان لم اوفي الموضوع حقه وقولي كما قال الشاعر:
وما كل لفظ في كلامي يكفيني…. وما كل معنى في قولي يرضيني