بلاشك تمثل الدبلوماسية إحدى صور فن التفاوض في العلاقات الدولية، وعادة ما يكون التفاوض بين ذوي المصالح المتعارضة، سواء كانوا أفراد، منظمات، أو دول، أو قوى أو نظم، لاسيما يُعد التفاوض مفتاح النجاح في إدارة العلاقات على مختلف أشكالها، لأنه أصبح يحدد مصير المجتمعات والدول. يرى بعض المفكرون أن التفاوض علم قد مر بمراحل عديدة شملت مرحلة الفن، أي فن التفاوض، ومرحلة الأدب، بمعنى أدب التفاوض، والمرحلة الثالثة مرحلة العلم، ويقصد بها علم التفاوض، بيد أن كل هذه المراحل لا يختفي بوجود الأخرى.
ولما كان من الصعب أن تخلو أي عملية تفاوض بين الفواعل السياسية في العلاقات الدولية من دواعي النزاع والصراع، بسبب تتداخل فيها وتتفاعل عدة عناصر أبرزها (عوامل مجتمعية) تنعكس على الأفراد والرأي العام، عندما لا تصل عملية التفاوض بين الفواعل السياسية إلى نتيجة مرضية ومقبولة للشعوب. من هنا عملت الدول على تغيير استراتيجياتها وتكتيكاتها في هذا المجال، حيث كان ومازال أبرز هذه الاستراتيجيات هي (الدبلوماسية السرية) التي تمثل الصورة الثانية في العلاقات الدولية وفن التفاوض، تلك العلاقات التي لا يوجد فيها اعتبار للرأي العام. وليس فقط مع تباين الموضوعات، وتأثير الرأي العام، ولكن مع طبيعة الموقف التفاوضي، ومع اختلاف الأطراف التي يتم التفاوض معها وتغير مواقعها في السلطة أو في هيكل اتخاذ القرارات. عليه أصبحت (الدبلوماسية السرية) توجها قويا وفاعلا في المؤسسات العلمية ومراكز الدراسات، واليوم يمثل هذا الفن من الدبلوماسية علما له أصوله وقواعده في العلاقات الدولية، وأن الدول اتقنت هذا الفن لتجاوز أسباب التوترات فيما بينها بعيدا عن الرأي العام وتطلعات الشعوب. وبعد نجاح استراتيجية (الدبلوماسية السرية) وبلوغها مرحلة التنفيذ دوليا وإقليميا، باتت ضرورة حتمية للدول للوقوف على مدى الالتزام بمراحلها وحل المشكلات التي تعترضها.
وداخل هذا الزخم من الآراء المتقاربة حول دور (الدبلوماسية السرية) بأنها عملية تفاوض سياسي ودبلوماسي، وأمام التحولات العميقة في النظام السياسي الدولي، مع تنامي دور المنظمات غير الحكومية وأهمية الرأي العام، أعتبر منظري ومفكري وعلماء العلاقات الدولية أن (الدبلوماسية السرية) أنها إحدى أخطر المؤسسات الليبرالية الشريرة. حيث أصبحت هذه المؤسسة كفاعل رئيسي في النسيج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. في الوقت نفسه فهي بعيدة حقوق الإنسان، والرأي العام كما ذكرنا آنفا. لقد لعبت الظروف السياسية والاقتصادية الدولية دورا هاما في نمو وتطور (الدبلوماسية السرية) حيث شهد العالم أحداث وقضايا مهمة تطلبت إنشاء فلسفة جديدة من العمليات التفاوضية بين الدول، تكون بعيدة عن النشاط المؤسسي، بمعنى أن عملها مرتبط بصانع القرار السياسي حصرا، في الوقت نفسه، أن من يقومون بالدبلوماسية السرية ليس شرطا أن يكونون من ضمن السلك الدبلوماسي للدولة، وإنما ينتمي إليها أشخاص من خارج العمل الدبلوماسي، يمارسون نشاطات تهدف من ورائها إلى أهداف ذات صبغة دولية.
في السياق ذاته، لا تخلو (الدبلوماسية السرية) من الصراع، بل هي مرحلة من مراحل الصراع وإحدى مستوياته، فالتفاوض السري ظاهرة ﺳﻠﻮكية ﻗﺪﻳﻤﺔ ﻗﺪم الإنسان، ﻟﻜﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻓﻴﻬﺎ هو ﻣﺤﺎوﻟﺔ إﺧﻀﺎﻋﻬﺎ ﻟﻠﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﺑﻐﻴﺔ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﻟﻰ إطار عام ﻳﻘﻮم ﻋﻠﻰ أﺳﺲ راﺳﺨﺔ ﺗﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﻓﻬﻤﻬﺎ وكيفية التعامل معها. ففي بعدها السياسي، تشير (الدبلوماسية السرية) إلى موقف تنافسي خاص، يكون طرفاه أو أطرافه، على دراية بعدم التوافق في المواقف المستقبلية المحتملة، والتي يكون كل منهما أو منهم، مضطرا فيها إلى تبنى أو اتخاذ موقف لا يتوافق مع المصالح المحتملة للطرف الثاني أو الأطراف الأخرى. وﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم، ﻓﺈن ﻣﻔﻬﻮم (الدبلوماسية السرية) في الأدبيات اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻟﻤﺘﺨﺼﺼﺔ ﻳﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ، دﻳﻨﺎﻣﻴﻜﻴﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻩ ظاهرة، ﻓﺎﻟﻤﻔﻬﻮم من جانب، ﻳﻘﺘﺮح موقفا تنافسيا معينا ﻳﻜﻮن كل اﻟﻤﺘﻔﺎﻋﻠﻴﻦ ﻓﻴﻪ ﻋﺎﻟﻤا ﺑﻌﺪم اﻟﺘﻮاﻓﻖ في اﻟﻤﻮاﻗﻒ اﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻠﻴﺔ اﻟﻤﺤﺘﻤﻠﺔ، كما ﻳﻜﻮن كل ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻀﻄﺮا أﻳﻀا لاتخاذ موقف ﻏﻴﺮ ﻣﺘﻮاﻓﻖ عليها مع اﻟﻤﺼﺎﻟﺢ الوطنية. الأمر الذي تختلف فيه وجهات النظر حول (الدبلوماسية السرية) وما هيتها وفيما إذا كانت سلبية تماما أو فيها بعض الجوانب الايجابية. ربما هناك اتجاه ينظر إليها على أنها ظاهرة سلبية ومن الضروري تجنب مرحلة الوصول إليها والقضاء عليها في حالة بروزها. وهناك أتجاه آخر يرى أن (الدبلوماسية السرية) ظاهرة صحية وبدرجة ما فهي ممارسة مطلوبة.
على ضوء ما تقدم بصدد (الدبلوماسية السرية) ومفهومها، يمكن الانتهاء إلى التأكيد على بعض النتائج لما لها من دلالة خاصة في دراسة وتحليل وفهم العلاقات بين الدول. وبالتالي في التعامل معها واختيار الآلية المناسبة لكل موقف من مواقفها، وهي ضرورة التمييز بين دراستها كمفهوم، وكظاهرة، وكعملية تفاوضية. لاسيما أن التفاوض السري كممارسة له طبيعته المركبة التي تستمد خصائصها من الموقف التفاوضي ذاته، ومن طبيعة وعلاقات القوى التي تحكم أطرافه وموضوعه. أما (الدبلوماسية السرية) كظاهرة فإنها تتسم بالتعقيد البالغ، وإن كانت تجمع على الأقل بشكل كامن ومحتمل، بين مزيج من الأبعاد الإيجابية والسلبية معا، فإن التكييف النهائي لظاهرة التفاوض السري، إنما يتوقف إلى حد كبير على مجموعة المتغيرات التي تتشكل أولا، طبقا لمتغير الإدراك الخاص بأطراف التفاوض، وثانيا، بمتغيرات التوقيت، الموضوع، البدائل المتاحة، وغيرها من متغيرات بيئية تسهم بشكل متداخل في تحديد مدى وكثافة الظاهرة. وأخيرا، فإن المفاوضات السرية كعملية إنما تجد جذورها في روافد متعددة، كما أن أشكالها، ومظاهر التعبير عنها إنما تتداخل وتتقاطع فيما بينها بشكل يعكس قدرا لا بأس به من الاعتماد المتبادل بين منابع العملية التفاوضية ومظاهرها.
من هذا المنطلق، يمكن القول إن (الدبلوماسية السرية) هي محصلة التفاعلات التعاونية أو التصارعية القائمة بين الفواعل السياسية في العلاقات الدولية، سواء كانت هذه الفواعل الدول أو غير الدول، كالمنظمات الإقليمية والعالمية الحكومية وغير الحكومية.