أستراتيجية وادارة الازمات.
———
عندما استلم فلاديمير بوتين قيادة روسيا في العام 2000 كانت الدولة الروسية تعاني من تفكك مؤسساتي عميق واضطراب اقتصادي وانهيار في البنية الاجتماعية والسياسية عقب تفكك الاتحاد السوفيتي. لم يكن بوتين في ذلك الوقت يعِدُ الروس بأحلام توسعية أو استعادة الأمجاد الإمبراطورية بقدر ما كان يطرح رؤيته التي عُرفت لاحقًا بـ “مبادئ بوتين”، وهي استراتيجية تأسيسية ركّزت على إعادة بناء الداخل الروسي كشرط ضروري للعودة إلى النظام الدولي.
هذه المبادئ لم تُصَغ بشعار رسمي وقتها لكن جوهرها النظري والعملي كان واضحًا: لا يمكن لروسيا أن تستعيد مكانتها في النظام الدولي ما لم تستعيد أولًا تماسكها الداخلي لذلك سعى بوتين إلى استعادة مركزية الدولة، إعادة تنظيم الاقتصاد، السيطرة على الإعلام، كبح جماح الأوليغارشيات، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وحصر السلاح بيد الدولة. لقد فهم بوتين أن العالم لا يمنح الشرعية للقوى المتشظية وأن “الاحترام الدولي” يُنتزع بالقوة التنظيمية والتماسك الداخلي أولًا لا بمجرد الشعارات أو التاريخ.
في المقابل وبعد مرور أكثر من 22 عامًا على التغيير السياسي في العراق لم تُطرح حتى اليوم استراتيجية وطنية شاملة لمعالجة التحديات الداخلية بل ظلّ الخطاب السياسي العراقي مرهونًا بردود الأفعال والأزمات الآنية مع غياب واضح لرؤية تأسيسية تنهض بمفهوم الدولة.
العراق ما بعد 2003 يعاني من فجوة استراتيجية في ثلاث مسارات أساسية:
اولاً: المسار السياسي الداخلي لم تُحسم بعد طبيعة العلاقة بين المكونات ولا حدود سلطة الدولة مقابل نفوذ القوى شبه الرسمية. لا تزال الدولة تُدار بروح “المحاصصة” التي عطّلت إمكانية بناء مؤسسات فعالة مما يجعل العراق يبدو وكأنه كيان غير مكتمل السيادة الداخلية وبالتالي غير مؤهل للتموضع الفعّال في النظام الإقليمي أو الدولي.
ثانيًا: المسار الاقتصادي
لم يحدد العراق بعد ما إذا كان يتبنى اقتصاد السوق أو نموذج اقتصاد الدولة الريعية أو أي نموذج ثالث. التخبط في السياسات وغياب الاستثمار في البنى التحتية الاقتصادية طويلة الأمد جعل العراق عرضة للتقلبات النفطية مع ضعف شديد في القطاع الخاص وانعدام الرؤية الصناعية أو الزراعية المستدامة.
ثالثًا: المسار الاستراتيجي والتحالفي لا يمتلك العراق حتى الآن تعريفًا واضحًا لحلفائه وشركائه الاستراتيجيين فهو يتأرجح بين محاور متضادة (إيران، أمريكا، الخليج، تركيا)، دون تبني سياسة خارجية مبنية على “الربح المتبادل” أو على مصالح الدولة كمفهوم. وهذا الارتباك يعكس بدوره ارتباكًا داخليًا لأن السياسة الخارجية هي انعكاس مباشر لوضوح البنية الداخلية للدولة.
الدرس الذي يمكن استخلاصه من بوتين ليس في مآلاته التوسعية لاحقًا بل في لحظة التأسيس الأولى حين أدرك أن الداخل هو القاعدة في حين لا يزال العراق يعيش في مرحلة ما قبل التأسيس الحقيقي للدولة، رغم تغير الحكومات وتعاقب الأحزاب.
إن الفراغ الاستراتيجي العراقي لا يعني فقط غياب المشاريع الكبرى بل أيضًا غياب النقاش الجاد حول ما هو شكل العراق الذي نريده بعد 50 عامًا؟
ما هو شكل نظامنا الاقتصادي؟
ما هي أولوياتنا في الأمن، التعليم، التكنولوجيا؟
من نحن؟ وأين نقف في الخريطة الاقليمية والدولية؟
كل هذه الأسئلة لا تزال مؤجلة لأننا لم نبدأ بعد من الداخل.