مع ساعات الليل المتأخرة، يبيت العراقيون على قلق وكوابيس لاتنتهي، ليصبحوا بعدها على وساوس، تأخذ دورها هي الأخرى بإكمال ما تركته كوابيس أمسهم، بسد منافذ الفرح وأبواب السعادة من جهاتهم جميعها. ولم يكن هذا الحال ليحدث لولا أرضيتهم القلقة التي يقفون عليها، إذ أنها بالاسم وطن، وفي حقيقتها منفى ومهجر، حيث الغربة بكل معناها، والضياع بجميع مفرداته، ومعلوم أن أول مفردة تمحق ماهية الوطن هي مفردة الأمان.
فبدراسة بسيطة يقوم بها أي منظر لما يجري من خروقات أمنية في مؤسسات البلد ومرافقه، كالوزارات المسوّرة بأسوار أشد تحصينا من البنتاغون، او كالسجون والدوائر الأمنية الحساسة المحاطة بأسوار تسدّ (عين الشمس) وكذلك مراكز التطوع محكمة التحصين، فضلا عن الأسواق والمدارس والمستشفيات ودور العبادة، والتي بدورها باتت كثكنات عسكرية لايمكن الولوج اليها بيسر وسهولة، يتجلى واضحا أمامها مجتمعة، الكم الهائل من المال المصروف على هذه التحصينات، والجهد المبذول على الكوادر التي تشغلها، ومع كل هذا وذاك يتفاجأ المنظِّر ويصطدم الدارس بهول الخروقات التي اعترت كل هذه المنشآت، وحتما يصعب عليه الحصول على جواب شافٍ او تفسير مقنع لمستعصي الأسئلة التي تتوارد الى خاطره حينها.
لكن عودة بسيطة الى حقب التاريخ وما سجل في أسفاره من أحداث كانت فيها الخروقات آخر شيء محتمل الوقوع، يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من المبهم من الأمور، وتتضح الرؤية وتنجلي الأسباب والمسببات أمام الأعين والبصائر والأسماع، وتزول كل الشبهات في كيفية حدوث الخرق. إذ أن سور الصين العظيم الذي يبلغ طوله 2400 كم والذي يعد مشروعا دفاعيا عسكريا قديما بارزا ونادرا في التاريخ المعماري البشري. وهو ليس سورا فقط، بل هو مشروع دفاعي متكامل يتكون من الجدران الدفاعية وأبراج المراقبة والممرات الاستراتيجية، ويضم ثكنات للجنود وأبراج للإنذار وغيرها من المنشآت الدفاعية. ويسيطر على هذا المشروع الدفاعي نظام قيادي عسكري متكامل. ولكن رغم كل الجهود والأموال التي بذلها الحكام الصينيون في بنائه، لم يقم السور بمهمته المطلوبة في الدفاع عن البلاد ضد هجمات الشعوب البدوية (البرابرة). ولم يصد الغزوات التي قام بها أباطرة ملوك “تشنغ”. إذ تم اختراقه أكثر من مرة، والسر في هذا لم يكن لضعف في بنائه او لقوة خيالية في المهاجمين عليه، بل هي الخيانة وحدها كانت السبب في اختراقه، ووحدها الخيانة هي التي فتحت الثغرات أمام العدو وسهلت مهامه.
الخيانة اليوم في عراقنا الجديد هي السبب الرئيس الذي وضع مدننا تحت تصرف أسافل الناس وأراذل المخلوقات، والخيانة اليوم هي التي هجرت الآمنين في بيوتهم، والخيانة اليوم هي التي فجرت المؤسسات المحصنة والبنايات المؤمنة، والخيانة اليوم هي التي هتكت الأعراض وسرقت الأموال، والخيانة اليوم هي التي شتتت الجيوش ونخرت القوى البشرية والآلية، فالخيانة هي التي أودت بالحال الى ماهو عليه، فهل ننتظر خونة آخرين على الطريق ليجْهزوا على ماتبقى من العراقيين وأملاكهم وأرضهم وعرضهم؟
يروى أن هتلر النازي حين سئل عن أكثر الناس حقارة قابلهم في حياته أجاب: هم أولائك الذين ساعدوني على احتلال أوطانهم. فللحد من تداعي ماوصلنا اليه من قلق يحيقنا يقظة ومناما، قياما وقعودا وعلى جنوبنا، يجب قطع دابر الخيانة من أصله، كي لاتأتي علينا فروعها غدا، ويكمل الخائنون مسيرة محو العرق والدين والثقافة والحضارة، وبغير هذا ستكون الحلول ترقيعية والعلاجات غير ناجعة، ولن تكون للرقية جدوى غير تبليغ السم في العروق، لاسيما والخونة بارعون باللدغ في المقتل على مدار الساعة.