أن افكار الخيال تُدرج ضمن الافكار المركبة , كما صنفها الفيلسوف (ديفيد هيوم) هذه الافكار الخيالية مُستقات من الواقع الحسي المباشر , و الغير المباشر, فهي نتاج فكرتين واقعيتين .
يضرب (هيوم) مثالا على تكوين ألأفكار الخيالية , فتصور خيالي ذهني (لجبل من الذهب) هو نتاج صورتين واقعيتين , فالجبل هو صورة واقعية , كذلك الذهب , وقد مَنتجَّ الذهن الصورتان الواقعيتان لتكوّنان فكرة مركبة واحدة هي (جبل من الذهب) , تحولت الى صورة خيالية بفعل النشاط العقلي , ضمن معطيات واقعية , من خلال عملية التخيل .
وبذلك يكون ” الخيال هو اعتبار ذهني يحملنا الى ظروف استثنائية , لم نعرفها , ولم نلمسها , ولم نعتدها , ولم نراها , وليس لها وجود في حياتنا اليومية , لكنها تعي حقيقتها في تصوراتنا الذهنية , نستحضرها عند التخيل كصورة موجودة , وتخلق فيها تصورا جديدا واعتبارا جديدا” 1.
وقبل الولوج الى عالم الخيال , لنتعرف معا ً على كيفية انتاج العقل للصور الطبيعة والواقعية بنوعيها (الصور السالبة المستنسخة ) و(الصور الجمالية) .
ان النتاج الفني , سواء تشكيلي أو فن فوتغرافي وفنون النحت والعمارة والفنون المسرحية والموسيقية والقصة والرواية والشعر وباقي الفنون , ما هي الا رموز ودلالات بصرية أوسمعية , إستلها الانسان الفنان من الطبيعة والواقع حصرا ً , بطريقة مباشرة أو غير مباشرة , عبر حواسه الخمسة , والحواس الاخرى التي يتفاوت نشاطها من كائن انساني لأخر , فيقوم الانسان بادراكها في وعيه الداخلي عن طريق الجهاز العصبي الذي يقوم بوظيفة “جماع للحس وحصيلة للمدركات الحسية ومخزنا داخليا لكل ما ياتي من الخارج عبر الحواس “2 .
أن عملية الادراك , التي أثارته المعلومات الحسية , الواردة على شكل اشاراة كهربائية ,عبر المدركات الحسية (الحواس الخمسة) الى الخلايا العصبية , ما هي الا إدراكا يُرسي دعائم تكوين الصورة البصرية او السمعية او المقروءة حصرا ً, فعندما تتم عملية نقل الانسان الفنان للصورة يتحسسها الدماغ ,ويقوم باستنساخها
كما هي ,(صورة سالبة) وبعد عملية الاستنساخ تُستدعى هذه الصورة الدلالية الأنية , عن طريق التخيل حيث تبدأ عملية التأمل والخيال ,والمزج المعلوماتي, بعد أن تُستدعى كافة الصور المخزونة داخل الجهاز العصبي عند الانسان في مركزالذاكرة.
وتختلف كمية ونوعية المعلومات المخزونة , التي حصل عليها الانسان من الطبيعة والواقع , طيلة الزمن الذي عاش فيه , على عوامل شتى كنا قد ذكرناها مسبقا ً في بحثنا المتواضع هذا ,وفي مقدمتها الوعي .
في هذه اللحضة تتم عملية مزج المعلومات وتحميلها على الصورة الانية (للصورة السالبة) , ليتشكل حينها الموضوع والرؤية , حتى تكتمل الصورة وتُبثْ فيها الروح الجمالية .
ودعماً لما تقدم يقول الفيلسوف (جان بول سارتر) عندما يصف عملية الادراك والتَخيّلْ .
ان ” الورقة التي كنت انظر اليها فوق الطاولة , ها هي الان , بعدها , قد ادرت عنها رأسي . تظهر لي ثانية , ولكن هذا الظهور غير شك , غير الظهور الاول , فالان هي مُتَخَيّلة , وفي الاول كانت مُدركة , لأن الوعي في الوضع ألأول يكون وضعا ً مؤسسا ًللصورة , والموضوع الذي يظهر له , إنما هو الصورة نفسها .
أما في الوضع الثاني , فالوعي لا يكون وعيا ً مؤسسا ً للصورة , بل وضعا رؤويَّا ًوعلميا ً, راجعا ً بالتأمل ليس في الصورة , وإنما في الوعي المؤسس للصورة ” 3. , حيث أن “عقلي” في لحضة تأسيس الصورة , وقبل عملية التخيل واستدعاء الانطباعات السابقة من منظومة الذاكرة , ماهو الا صفحة بيضاء خالية من أي معلومة ً , وفي هذه المرحلة يكون العقل فيها خامل وعند عملية التخيل وأستدعاء المعلومات من الدماغ , تتم عملية التوصل الى المعلومة والمعرفة من خلال ربط تلك الافكار والانطباعات المخزونة في الذاكرة مع الاحساس وذلك لوجود قوتين في العقل احداها ترى المتشابهات من الافكاروتميز بينها فتنتج منها صورا مفرحة ورؤى مقبولة من الذات . وقوة اخرى تعمل على رصد المتناقضات والحكم عليها والخروج بصورة تتقبلها الذات , لتكون هذه الصور هي عصارة افرازات الكيان الانساني في تلك اللحظة من الزمن 4. ان الوعي المؤسس للصورة ما هو إلا حصيلة معطيات وإنطباعات إحتفض بها “الكائن الانساني” في ذاكرته الذاتية من خلال طريقين أولهما (الطريقة المباشرة) وثانيها (الطريقة غير المباشرة)
فالطريقة الاولى هي عندما يرى ظاهرة طبيعية محضة , فيضفي عليها نشاطه العقلي الذاتي وأنطباعاته الخاصة , بعد استحضارذاكرته التي تخص هذا الموضوع بعينه , والذي إستله من الطبيعة مباشرة ً , بالتالي يخرج بتصورذاتي خيالي جمالي لتلك الظاهرة.
أما الطريقة الثانية غير المباشرة التي تتمثل برسم تصورات عن موضوع أستله الكائن الانساني من الوقع وعليه بصمات انسان اخر , فتكون حينها المعرفة والتصور والخيال , هي حصيلة وعيه الذاتي مضافا اليه وعي الانسان الذي أنشأ ذلك الموضوع , وبمعنى أكثر وضوحا سيتكون وعي وخيال جديد , هو نتاج لحصيلة (خيالَّيْن) يتصارعان ليظهران خيال اقوى , وبذلك تتكون صور ذهنية جديدة اخرى , كما يحدث في الجدل الديالكتيكي للافكار.
ويعلق الفيلسوف (سبنوزا) في هذا المجال أن الخيال ” لا يمكن استتبعاده من حياتنا , والطريقة الوحيدة للتحكم في الخيال تكون عن طريق تحكم اخر أقوى منه , مثلما يمكن السيطرة على انفعال بانفعال أخر… خاصة عندما يرتبط بالفعل ويبتعد عن الانفعالات السلبية , يمكن ان يكون طريقا ً للحرية وخاصة عندما يتحد مع الصور الجديدة من الخبرة التي تقوم على اساس الحب ” 5.
ومما تقدم ينطبق على كل النتاجات الفنية والادبية المسموعة والمرئية والمقروءة وما تنتجه من صور جمالية .
إن قيمة هذه الصور الجمالية الجديدة للفنان هي نتيجة الادراك الحالي لتجاربه العقلية , مضافا اليها أستدعاء , جميع التجارب العقلية السابقة التي لها علاقة بالموضوع ذاته سواء كان ذلك الاستدعاء أراديا , حيث يقوم الفنان بعملية التذكر والتامل , واستدعاء المعلومات والتجارب السابقة , فالمخ البشري ” يحتوي على شرائط الذاكرة المختزنة لكل شئ رأيناه أو شعرنا به , وهذه الاشرطة يمكن ان تدار مرة أخرى ” 6 , أو أن يكون الاستدعاء تلقائيا ً كما في عملية التخيل والاسترسال الفكري .
أن عملية الاستدعاء الارادي والتلقائي كلاهما يقعان ضمن حدود الادراك والوعي. هنالك تجارب شخصية مهمة تحدث في سير الحياة البشرية للفنان , تُقدم النفس على استبعادها لعدم مقبوليتها على النطاق الشخصي والاجتماعي , فيحاول الفنان أستبعادها عن الاضواء المباشرة أو كبتها وأخفاء معالمها ويكون الفنان في صراع
داخلي , أما أن يرفضها كليا ً او جزئيا ً أو التعويض عنها وتحقيقها بصورجمالية اخرى غير الصورة الاصلية التي تم استرجاعها , فيلجئ الى تصويرها على شكل رمز او علامة .
حيث ان كل ما تبعده النفس البشرية وتتناساه وتعجز عن تحقيقه في حينه , تحاول ان تغيبه وتغير معالمه في الوعي الذهني وتحوله الى خزين اللاوعي , او تطمره في سحيق الوعي , حيث لا يمكن للادراك ان يستدعيه بسهولة وذلك لمعوقات تصطدم مع الذات والمجتمع , وهذا ما يظهر جليا في السلوك الانساني وتصرفاته , وتندرج في السيرة الذاتية للفنان , ورغم كل ما تقدم من معوقات لعدم أظهارها ؟ تظهر بصماتها بين حنايا النتاج الفني او الادبي , أما على شكل رموز وعلامات كما في الفنون التشكيلية , او تظهر معانيها مرمزةً ما بين السطور بالنسبة للادب المقروء , وبذلك يكون للتخيل والخيال فضل في اغناء القيمة الجمالية للنتاجات الفنية من حيث الشكل والمضمون وتحويلها الى مرحلة الابداع والدهشة 7 .
ان عملية التأمل والخيال , ما هي الا ظِلال لمواضيع مستنسخة من المواضيع المدركة , متوشحة بوشاح الحرية , متحررة من قيود الزمان والمكان , وفي جوهرها محاكية لاصل الموضوع بتصورا ً جماليا ورؤيةٍ جديدة ٍ لا تخرجه من مضمونه بقدر ما تضعه في بؤرة التحليل و التركيز , فقابلية الخيال على ” اللعب الحر , او اللعب المفعم بالحرية” 8. , وقابليته في تخطيه للزمان والمكان والسفر الحر وبسرعة الضوء الى اي نقطة في الزمان والانتقال الى المكان الذي يتخيله , بغية إستلال اي معلومة يراها مناسبة لعملية الابداع , قدجعلت منه ذو قابلية وقدرة فائقة على رسم الصور الذهنية حيث يمكنه الربط ” بين تلك التمثيلات الخاصة بالحاضر وتلك التي يمكن ان تكون متعلقة بالمستقبل اعتمادا ً على الحاضر وفي الحالتين هناك إتكاء على قوانين الخيال التي يمكن التنبؤ بها بوصفها عملية تتحرك في تسلسل مستمر خاص بالتتابع الزمني .
فنحن نستعيد احد التمثيلات من الزمن (ا) الى الزمن (ب) أذ يمكن أحداث التكامل بينهما كمكون خاص بالزمن الحاضر ” 9.
أن الزمن عبارة عن كائن مرتبط باطار حدده الانسان متخم وممتلأ بالاحداث وشتى أنواع العلوم , وكل ما انتجه الانسان طيلة وجوده على الارض , جميع هذه البيانات السابقة والحاضرة والتي سوف تاتي , محفوضة وستحفض في عقل الانسان الفسيولوجي العضوي , وتنتقل هذه البيانات اما عن طريق النقل المباشر
من انسان لاخر أو عن طريق التدوين واعتماد الوثائق , وغيرها من الطرق الحديثة لحفض المعلومات , والفكر الانساني هو الوحيد القادر على اصطياد واقتناص المعلومة في اي لحضة من الزمن , السائر الذي لا يتوقف ابدا .
باستطاعة الانسان السفر عبر الزمن , ويستوقف اي لحضة زمنية ويتفحصها ويستل منها ما يحتاج من بيانات سابقة كان قد وضع الانسان بصمته عليها , او كان شاهدا على ما فعلته الطبيعة ذاتها في اي نقطة زمنية .
الزمن لا يتوقف ولكن الانسان قادرا على ان يستوقفه ويستل منه ما يريد ومن ثم اللحاق به ثانية , مستعينا بعملية التخيل والخيال ليتجول في مساحة الزمن الواسعة لان الزمن ما هو الا ذلك ” الكائن الصائر السيال المنقضي دائما : ماضي ولم يعد ومستقبل لم يأت وحاضر لا يكون أبدا ً , ينفلت من بين فروج الاصابع دائما ً , ومجرد الامساك باللحضة الراهنة يعني انفلاتها وأتيان اللحضة التالية , لتنفلت هي كذلك في توال لا يتوقف أبدا ً ” 10. .
أن اللحضة الزمنية التي يريد الفنان او الانسان ان يضعها تحت المجهر ويغوص في ثناياها ليستل منها المعلومة والبحث , يجب أن تكون ضمن سياقات أختصاصية محددة الاطار, ليستفيد منها في البحث في موضوعه , وبالتالي وصوله لحالة الابداع حيث ان الزمن المطلق مليئ بكم هائل من المعلومات في شتى انواع العلوم العلمية والانسانية وكل ما يجول بالفكر الانساني , وفي لحضة زمنية معلومة تقليدية تتجمع علوم الكوكب اجمع , وهذا الثراء اللحضوي للزمن هو حصيلة ما خلفه الفكر الانساني والبشري عموما ً وهو تاريخ الحضارة الانسانية ( الفكر الجمعي اللحضوي ). فهو قطعا يختلف عن التاريخ الذاتي المرسوم في ذاكرة الفرد , وهو الزمن التقليدي للانسان .
اختلف العلماء على تسمية محددة للزمن ومنهم من قال انه كيان ومنهم من رفض هذه التسمية , ومنهم من قال ان هنالك زمن مطلق ومنهم من نفاه وكان القاسم المشترك بينهم على ان ” الزمان هو مجرد ترتيب للحوادث وليس كيانا ً في ذاته , ونستطيع ان نستمد فكرة الزمان من تعاقب الحوادث في الكون , ولكن لا وجود لزمان مطلق يتكون من سلاسل منتظمة من اللحظات التي توجد في ذواتنا ” 11
فالفنان يُعنى بالإلمام بفكره الذاتي وفكره الجمعي والتباين بين الفنانين في هذا المجال من المعلرفة يتسبب حتما (بتعدد الرؤى الجمالية لنتاج فني بعينه ) وبعد النظر والتمحيص بكل ما جاء في بحثنا المتواضع هذا نرى أن (الخيال والتخيل) كان له الاثر الكبير والحاسم في تطور الفكر الانساني الفردي والجمعي وبالتالي
تطور الجمالية للفن بعد انصهارها في بودقة (الموهبة الفنية للفنان) لتنتج خيالا إبداعيا ًوهي إعادة إنتاج الصور في ذاتها مُتخطيا ًواقعيتها ومُحتفضا ً بأستقلاليتها وإعطائها بُعدا ً جماليا ً في ( الشكل والمضمون) .
في بحثنا عن الخيال الزماني وعلاقته بالفن والمعرفة لا يفوتنا المرور البسيط على الخيال المكاني الذي يعتمد اعتمادا كليا مبدئين رئيسيين هما المادة الواقعية التي تشكل المكان التقليدي , وعملية التخيل المرتبطة بالذهن , فالمادة في الواقع ما هي الا صور تقليدية أخذت طابعا ً أليا ً من خلال الاستعمال والتكرار وبعد تعرضها الى الطاقة الخيالية تتحول من واقع مادي ساكن الى حركة ديناميكة فتغير الصور التقليدية الى صور ابداعية تبث الروح في الصور القديمة لتفسر الحدث وترتبط بالموضوع المراد تسليط الضوء عليه , وعلى هذا النحو يستطيع الفنان “بخياله المزدوج ان يخلق بين الارض والسماء كما يحلو له , وان ينسج ما يود من الصور الفريدة المبتكرة وأن يحول ـ بفضل “كيمياء” لا حاجة فيها الى حجر فلسفي ـ أبسط الاشياء الى عالم مدهش رائع ” 12.
الخيال اللغوي :
هنالك أرتباط وثيق بين اللغة والخيال أشار لها الفيلسوف اليوناني ( أرسطو ) والفيلسوف الفرنسي (ريكو) وهو أحد ممثلي التيار التأويلي الذي تأثر تأثرا كبيرا بفكر الفيلسوف الالماني (هايدجر) الذي مهد له الطريق للتوصل الى أفكاره وتصوراته , والتي ايقن من خلالها , بأن الخيال هو عامل مهم ورئيسي للوصول الى الحقيقة 13 . حيث أن هناك احداث (غير معقولة) (غير واقعية) حصلت على الكوكب قبل نشوء الكتابة , ولعدم وجود وثائق ومؤشرات تؤكدها ,غير التناقل الانساني التاريخي للخيال اللغوي ,سواء كانت حكاية أو اسطورة , من هنا كان لا بد من استحضار ذلك الحدث عن طريق التخيل والتأويل , ووضعه على طاولة التحليل المعاصر لاثباته او نفيه عن طريق المعنى الادراكي , أن تبني (الهرمنيوطيقا) (علم التأويل) التي تعنى بفتح وفك الكودات والشفرات التي تخص المعاني , غير المباشرة هو امر ” يعترف بالقدرة الابتكارية للخيال هذه القدرة الخاصة على تحويل بعض المعاني المعطاة الى معايير جديدة والقدرة التي تمكن
الفرد من تكوين التاويل الخاص بالمستقبل أو النظر اليه على انه المسرح الممكن لحرية المرء وعلى انه افق للامل” 14.
أن قدرة الخيال على أستدعاء واستخلاص الصور من الخزين الحسي في لذاكرة , وتحويلها الى عوالم اخرى جديدة , لم تعد كافية لنقل جوهر تلك الصور , فلذلك كان لا بد من الاستعانة بالخيال اللغوي , حيث يمكننا انطاق تلك الصور وجعلها تتكلم , من خلال المحتوى والمعنى الموجود في اللغة والكلمة , وبذلك يمكننا التعامل مع الخيال على انه بعد من ابعاد اللغة , بل وتفضيل النموذج اللغوي الدلالي الخيالي على النموذج البصري الخيالي , وذلك لان النموذج اللغوي الدلالي الخيالي يمكنه ان يُكّونْ صورذهنية دلالية تضاف الى النموذج البصري لتتكامل الصورة وتنتج صورة جمالية , يتحول الخيال فيها الى خيال ابداعي .
ان قوة الخيال ” تلك القوة التي لم تعد هي الملكة الخاصة باستخلاص الصور من خبرتنا الحسية ولكنها القدرة على جعل عوالم جديدة تشكل فهمنا لانفسنا . ان هذه القدرة لا يمكن نقل جوهرها من خلال الصور , ولكن من خلال المعنى الموجود في لغتنا …. وهكذا فان الوظيفة الانتاجية للخيال هي وظيفة لغوية ” 15 .
أن الهدف الرئيسي للغة هو الاتصال بين البشر وتوصيل المعنى , وبدونها لا يمكن ان تكون هناك لغة , ويمكننا تقسيم المعنى اللغوي الى ثلاثة مستويات اولهما القصد وتعتبر الدلالة الاولى للمعني , وعندما يعجز القصد من توصيل الموضوع , ياتي المستوى الثاني من المعنى , وهو عملية التفسير , ويقوم بعملية أيضاح ما خفي , وياتي (التاويل) بالمستوى الثالث للمعنى, الذي يرتبط ارتباطا وثيقا ً بالخيال اللغوي , ويرى الجرجاني ” أن المعاني هي الصور الذهنية التي توضع لها الفاظ مناظرة , وينبغي ان نلاحظ ان مفهوم المعنى أعم وأشمل من مفهوم الدلالة” 16 . فالمعنى هو الصورة الذهنية (Image) التي تثيرها الكلمة , ليست في حد ذاتها هي المعنى , وانما هي شئ يبنى على اساس المعنى ,الاستعارة في اللغة هي جزء من الصورة فعندما نقول ( أشتعل الرأس شيبا ً) فهذا يعني أن الفنان قد جمع بين أشياء لم يسبق لها أن أجتمعت , وهو سر الاستعارة في اللغة , فهذا الاختلاف في المعنى المجازي يحفز الدماغ الى انتاج صورة تكشف عن شئ جديد , ولكنه في نفس الوقت لا يخرج عن المعنى الرئيسي بل يضيف له جمالية تسند المعنى الاول , وللخيال يرجع الفضل في تكوين تلك الصورة الجديدة الغريبة عن الواقع والمتفقة في المعنى فالصورة اللغوية هي ” ما يدركه المتأمل من المعاني من فوارق دقيقة
وشفيفة بين هيآتها وأشكالها وشيئاتها وملامحها وأشياء كثيرة غامضة يفترق فيها المعنى في الذهن عن المعنى وتكون له في النفس هيأة لا تكون لغيره , وهذا ما سماه العلماء , الصوره”17 , التي سينقلها الفنان من صورة لغوية الى صورة ذهنية , يتعكز عليها لاتمام نتاجه الفني سواء كان تشكيليا او مسرحيا ًويحول تلك الصور الذهنية الى تشكيل واقعي مستخدما ادواته الفنية في عملية الابداع .
ومن هنا نستشف ان التكوين النهائي الذي أنتجه الفنان من خلال التحولات الصورية , قد مر بعدة مراحل ,اولهما تحويل الصور الذهنية الى صور لغوية عندما كتب المؤلف النص المسرحي , وثانيهما هي تكوين صورة ذهنية جديدة من قبل المتأمل (المخرج) ثم تحويل تلك الصور الذهنية الجديدة الى تشكيل حركي واقعي , وفي تلك المراحل تختلف نوعية الصورة الجديدة وبالتالي تختلف انتاج تلك الصورة من فنان لاخر اعتمادا على وعيه وثقافته وقوة خياله في نقل الصورة اللغوية الاولى للمؤلف , وخبرته في نقل الصورة الذهنية التي توصل اليها وتحويلها الى تشكيل حركي , وبالتالي ستختلف الرؤى من فنان لأخر, بالاضافة أن لكل مخرج مسرحي هدف, و” المخرج بدون هدف حياتي اعلى لا يمكن أن يجتذبه هدف الكاتب المسرحي أو أن يستجيب له , فيختار المواضيع القريبة منه ليطورها ويغنيها)”18. وبواسطة هذا التطوير ستمتزج الافكار وتتناظر أو تتباين فتنتج رؤى وصور جديدة تختلف من فنان لاخر , وسنشرح ذلك لاحقا في البحث المتواضع هذا