28 يونيو، 2025 10:03 ص

الخيال والانسلاخ عن الواقع

الخيال والانسلاخ عن الواقع

لا يرغب الإنسان في أن يكون منقادا لحياة يومية رتيبة خالية من التجدد، بل إنها تسير فقط ضمن خطوط واضحة السمات والدلائل، سواء كانت راجحة أو غير راجحة. لذا بدأ الإنسان يتخلص من واقعه، ناجيا بنفسه إلى مدار أرحب وأوسع نبضا، ذلك هو الخيال.

البداية هي ما إن شاهد المتغيرات، راح يسعى أن يكون ضمن حلبتها مجددا، واضحا في الهدف والسعي، غير آبه بما تؤول إليه كمتغير ليس له علاقة بالواقع.

ولا أجزم، بل أعد الأدب وفنونه أحد أعمدة الخيال، لينطلق من واقع مرتبك تسوده العشوائية واللاتنظيم، أو من حالة القلق والتكرار اليومي إلى صور ذهنية يحاول أن يرسمها بعيدًا عن الواقع. مثال على ذلك اللغة الشعرية التي تتجرد وترسم شيئًا مغايرا ومناهضا لواقع يعتاش عليه، كما هو حال القصة والمسرح والرواية والتنوعات ذات الصلة.

فعالم الخيال عالم افتراضي يمتاز بصفة القفز والانشغال الذهني، يجيد الخروج من نص كتبته الحياة إلى نص لا ينتمي لها. كما أن العلم روّج هو الآخر لمثل هذه الحياة عن طريق الابتكار والاختراع، سواء كان علميًا أو طبيًا، وسواء كان بنية تحتية أو غيرها.

فالطب عبر الأجهزة الحديثة بدأ يخطو نحو الانبهار، متساميا بما توصل أو وصل إليه الحال، فانتقل من إجراء عملية جراحية وكأنه يسعى بجد لإجرائها من خارج الجسد، بدلاً من التلامس المباشر كالخدوش والجراح.

يراهن الخيال من خلال ما تم طرحه من مادة حيوية إلى صورة ذهنية، مثلما تراهن مجالات ومشروعات الحياة. ولولا الخيال، ما رأينا الحديث عبر الهاتف وكأن الاثنين قبال بعض يتحدثان في نفس المكان، ولولاه لما تطور الأمر وأصبح الاتصال مشاهدة وإظهار حركات وسكنات الاثنين بشكل مباشر أيضا.

ومما يلاحظ أن حاجة الإنسان للخيال حاجة نفسية للترحل من المحيط المعبأ بالثقل اليومي، وهدفه الكشف وعدم الركود أو الركن في الزوايا الضيقة التي لا تدر بالنفع، أو لا يجد فيها غير الأقل نفعا. كما هي الحاجة لتقليل المعاناة وصهرها إبداعا يفضي إلى وجود أكثر حضورا.

ولأن الأدب قصة أو شعرا أو فيلما سينمائيا، لا يريد نقل رتابة الحياة كما هي، وبالتالي يفقد العمل الأدبي أهميته وجودته عندما يكون الواقع قد أدى إلى حالة المأساة أو المسرات دون حاجة للخيال، أو ضياع الوقت في مشاهدة فيلم لا يختلف عن الواقع بشيء، بل ربما الواقع أدهى وأمر.

لذا، فإن العمل الأدبي الذي لا يتخيل اللغة ولا يتخيل المشهد يمكن أن ينضوي ولا يضيء، نتيجة ضعف الأسلوب أو تراكمية الأداء، مما يفصح بكلماته عن حياة ميتة غير متجانسة أو غير قادرة على جذب المشاهد أو المتلقي، الذي يعد بطلاً ظل يحاول أن ينتصر لوجوده بحيوية ومغايرة، أو أن يتجه في النص إلى بعد أكثر مما يساكن يومه.

أحدث المقالات

أحدث المقالات