19 ديسمبر، 2024 1:22 ص

الخيال الشعري… الاحساس والتحريض

الخيال الشعري… الاحساس والتحريض

الشعر كما يعرف راسخ وصلب وهو ليس عاما او مجرداً انه يقدم عالما يتناسب واحاسيسنا باعطائنا تعابيرا مدركة وحية لبعض الاحاسيس الطبيعية والمواضيع الطبيعية يستخلصها بكل ما يقدر عليه الشاعر من دقة من خلال الاحساس او من خلال التخيلات “متذكراً انه كي يتخيل يعني في الاصل ان يتصور شيئاً ما”.

ان الاحساس بالعالم المدرك بالتأملات بالاصوات، الروائح والمذاق واللمس، كل هذا هو الاساس الذي يستند عليه الشاعر حيث يعيد الينا الاحساس بنقاوة الاشياء وحتى بالنسبة للناس الذين يعيشون في مجتمع مدني متحضر يصبح الشعر وسيلة الى جانب اشياء اخرى لتجديد اسس الحياة النقية في احاسيسنا هذا لا يعني اننا نقول بان الشعر يساوي عالم الاحاسيس المباشرة ان رائحة الضربات عند اللمسة الاولى قوية جدا لدرجة انه لا يوجد وصف فعلي لتلك الرائحة.

ان الشعر الذي يتحقق باللغة ليس احساساً مباشراً وقوانينه الحقيقية لا توجد من اجل موازنتها بالوجود الحسي للعالم ولكن “أي الشعر” يقدم لنا شيئاً آخر.

في هذه الدراسة سيكون لدينا الكثير لقوله عن هذا الشيء نقول ببساطة ان النظرية التي يستخدمها الشعر هي تحريص خيالنا من خلال تقديم درامي للمواضيع والاشخاص والاحداث.

هذا يعني ان الشعر لا يستطيع ان ينفصل كثيراً عن عالم الاحاسيس ان مثل هذا سيصبح مجرد كلام عقلاني فارغ ومن وقت لآخر فان الشعر في اي ثقافة كان ربما يفقد عذوبته وطزاجته- وعندما يصل الى ذلك- عاجلاً ام اجلاً يظهر جيل جديد من الشعراء الذين يشعرون بان من واجبهم انقاذ الشعر من تجربته واعادته للحياة بربط معانيه مرة اخرى بالاخيلة.

ولذا فانه في بداية القرن الحالي وجد الشعراء انفسهم يعانون من اطالة الشعراء الفيكتوريين ومن التقاليد الرثة والبلاغة الفارغة وبدأوا تجاربهم على الشعر الذي يركز على الخيال او على اسس خيالية تنجح كمساعد اضافي للخيال والذي يصب اهتمامه على جعل القارئ يستنفذ ما في القصيدة حسب استطاعته مفضلا ان لا يتدخل بفرض نفسه على القارئ.

الشعراء الذين ينتمون لاحد فروع الحركة التخيلية يسمون انفسهم “بالموضوعيين” مفترضين ضمن اعتقادهم بان القصيدة يجب ان يسمح لها بالتحدث عن نفسها.

الخياليون واتباعهم كانوا متأثرين بالشعر في منطقة الشرق الاسيوي وخاصة الشعر الذي يركز على ابراز الخيال ويستفيد من الاقتراحات والتضمينات ويحرص على تجنب العبارة المباشرة ومثال على ذلك نأخذ قصائد قصيرة من الشعر الياباني:

* الغراب يجثم.

فوق غصن ذابل بلا اوراق

فجر خريف

* وايضاً هناك قصيدة اخرى كتبها شاعر ياباني في القرن الرابع عشر تقول:

في البرق حتى في الضوء الساطع

في الرعد الذي لا يطول

حتى لدقيقة

الاعداد الكثيرة لحبات المطر

يمكن عدها على اوراق النباتات

* وهناك ايضاً مثال ثالث لشاعر ياباني في القرن الثاني عشر:

على سريرها المفروش بحصيرة من

القش

لا تزال السيدة على جسر “يونغ”

وضوء القمر ينفذ من خلال الحصيرة

في ليلة انتظار خريفية

وهي ما زالت ممدة هناك في الرياح

المظلمة

ان هذه القصائد الثلاث يسود فيها الخيال ما يمكن ان نسمها فيه انها قطع مزاجية… فمن الواضح ان الاولى والثالثة كذلك.

اكثر القراء سيجدون ان الغراب الوحيد الذي يحط فوق غصن ذابل بلا اوراق في فجر خريفي يعني (الوحدة) الرثاء لنهاية فصل الربيع او بشيء ما له علاقة بهذا التصور.

القصيدة الثالثة ايضاً تتحدث عن (الوحدة) الرياح تهب… السيدة تعد سريرها على الارض العراء بلا فراش ويوفر لها التمتع بضوء القمر، وليل الخريف ينتظر…

هل السيدة تنتظر ايضاً؟ هل حبيبها متأخر عن موعد اللقاء؟ هل نسى تماما موعده؟ هل مات؟ الشاعر لا يخبرنا عن ذلك ومن الواضح انه فعل ذلك ليحرض خيالنا في طرح الاحتمالات ويجعلنا نستخلص رغبة تناسبنا وتناسبه.

القصيدة الثانية هي اكثر هذه القصائد (الموضوعية) البرق يضيء بسرعة خلال هبوب العاصفة ويعتقد بانه يعمي ولكنه في الحقيقة لا يعمينا وبالرغم من قصر المدة التي يسطع فيها البرق يمكن رؤية شيء دقيق بالتفصيل.

ولكن حتى في هذه القصيدة هناك تلميح يمكن تأويله نظرة داخلية عميقة وسريعة ورشيقة ربما تقدم لنا الالهام المناسب.

ان الخيالات في هذه القصائد غنية بترابطات خاصة وقد تكون الترجمة الى الفرنسية ليست لها نفس الفاعلية في اللغة الام للحكم على الشعراء الشرقيين في تأويل معنى القصيدة ومن خلال مرجعيتها للعادات الشرقية.

ومع ذلك فان فقدان بعض من المرجعيات كان اكثر ايحاءاً للمتخيل في القرن العشرين الذي يستشهد بهذه القصائد كدليل على ان نضارة وحركة الشعر تظل مستمرة اذا كان الشاعر يستند حقا الى الخيال ويترك الثرثرة عما عنته.

ان الخيالات المختارة جيدة وقد قلت انها سوف تحرض اخيلة القراء وهي تقول ايضا اكثر من العبارة الصريحة فالقصائد الشرقية من هذا النوع الذي قمنا بشرحه تعمل على الاستفادة من المواضيع والاحاسيس الطبيعية.. ولكن متخيلي القرن الواحد والعشرين لا يقيدون مواضيعهم بالطبيعة، وهم ايضا يقدمون صورة موجزة عن حياة المدينة وكمثال على ذلك هناك قطعة صغيرة من قصيدة (الاشعاع) للشاعر جون كولد فليتشر:

نقرات من المطر المتواصل

على الارصفة المضاءة

فجأة تنطلق المضلات..

لتنحني على اقواسها متمايلة كازهار

متفتحة امام العاصفة

المنظر يستخلص بحيوية كما هو واضح انه يوم مشمس تتدفق فيه الامطار فجأة لان المطر نقرات وبدأ هناك فجأة انطلاق آخر مقابل هو المظلات وفجأة ازهرت الشوارع بالمظلات التي بدأت تنحني على طول الشارع وكأنها تتحرك ذاتياً.

المنظر بالرغم من انه يقدم موضوعاً واضحاً الا انه يقترح اتجاهاً لذلك.. هنالك ايضاً تلميح للبهجة والمتعة في المنظر من داخله هذا ناتج عن المقارنة البارعة بين (المظلات) و (الازهار) و (المظلات.. منحنية) وهذا عكس تويجات الازهار الطبيعية حيث ان ساق المظلة تنتهي بتويجة تكون منحنية على الساق نفسه بمعنى (محدبة) ومع ذلك فالمقارنة بين (الزهرة) و (المظلة) هو شيء متوهم لان المطر ينتج لنا الازهار ينتج لنا فجأة هذه الخيالات الغربية من الازهار السوداء الكبيرة على ارصفة المدينة.

ان تركيزنا هنا سيكون ليس على المقارنة ولكن على الاخيلة في الواقع ان التفكير بالواقع ببراعة مجازية كتلك التي تحول المظلات الى ازهار، اضاف شيئاً مهماً للقصيدة ولو لم يستخدمها الشاعر بهذا الشكل فان محصلة القصيدة سيكون نوعاً من انواع القصائد المتخيلة.

لنفرض ان الشطر الاخير في القصيدة كان بهذه الصيغة تحديات سوداء حجبت المطر، المجاز هنا سيكون قد دمر ولكن الخيال سيظل باقياً في التعبير عن شوارع المدينة لحظة زخات المطر.

ــــــــ المادة مترجمة عن الفرنسية سبق ونشرتها في جريدة القادسية عدد 22 7 1996 واعيد نشرها اعماما للفائدة .
*[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات