23 ديسمبر، 2024 8:53 ص

الخيار بين الحداثة والعودة الى الماضي

الخيار بين الحداثة والعودة الى الماضي

منذ مدة ليست بالقصيرة ونحن نتسائل عن سبب تخلف الدول العربية والاسلامية . وغالبا ما يدور الحديث بين قطبين متناقضين . احدهما يدعو للعودة الى امجاد الماضي ويرفع شعار الاسلام هو الحل . والآخر يعزو اسباب تخلفنا الى التمسك بمعتقدات دينية وقبلية بالية . وهو ينشد الحداثة ونبذ كل ماهو قديم .
ويستشهد البعض بتجربة اليابان . فاليابانيين بقوا محتفظين بتقاليدهم ولكنهم تقدموا حتى على الامريكان . والاخر يستشهد بالدول الافريقية وامريكا اللاتنينية ليبرهن ان رفضهم للتغيير والتمسك بتقاليد دينية بالية هي السبب في بقائهم متخلفين عن العالم المتمدن .

وفي اعتقادي ان كلا الطرفين قد جانبا الصواب فلا افراط ولاتفريط . . اليابانيون حافظوا على قيمهم بالحد المعقول ، كقيم محمودة ونبذوا التقاليد التي تتعارض مع التطور الحضاري والتكنلوجي . واخذوا من الغرب حضارتهم وعلمهم ، فاصبحت اليابان دولة متحضرة بكل معنى الكلمة ، لانها جمعت كل ماهو محمود من القيم والتقاليد مع التكنولوجيا الحديثة . ولكن الهنود مثلا ظلوا محتفظين بكل عقائدهم وتقاليدهم دون تشذيب او انتقائية ، مع اكتساب التكنولوجية الغربية . فاصبح مجتمعهم هجينا لا يستطيع منافسة العالم المتحضر . . اما الصين فقد تركوا كل العقائد الدينية وتمسكوا بالفكر الشيوعي الماوي المعدل فانتقلوا الى مصاف الدول الناهضة ولهم مستقبل واعد من ناحية التكنولجيا رغم التجارب المريرة لاحلال القيم الشيوعية التي لم تصمد طويلا .
واذا عدنا الى مجتمعاتنا العربية والاسلامية الراهنة فاننا نرى احزابا وتوجهات متمسكة بشكل اعمى بالماضي ، وبكل تفاصيله الحسنة والمؤلمة . وهم يعتقدون انهم قادرون على احياء امجادهم بنفس الطريقة التي سار عليها الاولون . وهم يرفضون الحداثة لان كل محدثة فتنة . وهذا خطأ فادح . فالدين الاسلامي كان فكرا ثوريا تقدميا عند نشأته وسط العصر الجاهلي ، وفي وقت لاحق نال حضارة سمت على كل الحضارات . وكانت اوروبا تتطلع اليهم لاقتباس ماتوصلوا اليه من علوم وتقدم . ولكننا لانستطيع ان نعيد نفس التجربة وبنفس الادوات . لان الحضارة تذبل وتشيخ اذا لم يجر تجديدها في الفكر والوسيلة . ولذلك نحن بحاجة الى التجديد والتحديث . لاننا اصبحنا كما كانت القبائل العربية قبل الاسلام . نتمسك بعادات وتقاليد الاباء والاجداد وننسبها الى الدين جزافا . مع فكر جامد اعمى لم يعد يواكب التطور التكنولوجي والحضارة الانسانية . ولم نطور نظرية ثورية تنتزعنا من التخلف والركود الفكري . .
انظر الى المسيحية واليهودية حيث استطاعتا موائمة الدين مع التطور العلمي والثقافي المعاصر ، مع الابقاء على القيم الدينية . اقول القيم وليست الطقوس الكثيرة والشكليات فقد تركوها منذ زمن بعيد . وبذلك بقيت الديانتين مستمرتين وهما اقدم من الدين الاسلامي . انظر الى اسرائيل مثلا وهي دولة علمانية ، ليس فيها هذا الكم من الحلال والحرام والحجاب وغيرها ، الا اعدادا قليلة من الارثذوكس التي حافظت على نفس الطقوس القديمة . اننا بحاجة الى التحديث والتجديد في كل مفاصل الحياة ، واولها الطقوس والمظاهر الدينية ، اللحية والمحابس والمسبحة ، وكثرة الصلوات والزيارات والفتاوى الغريبة لكل من هب ودب . والتمظهر الديني الزائف في كل مناحي الحياة تقريبا . والتضييق على النساء ، الذي ظل في ازدياد حتى اصبحت المرأة عندنا محنطة كالمومياء . كل ذلك بدعوى الشرف والعفة . والكثير ممن يروج لهذه الافكار ، مرتشي ، وسارق ومغتصب لاموال اليتامى ، ومن جعل مرافق الدولة العامة بقرة حلوب ، له ولعشيرته الاقربين . . حتى الاوقاف بشقيها اصبحت مرتعا للصوص والفاسدين .
ولنا في تجارب الحكم الاسلاموية والقاعدة وداعش وحزب الدعوة ومن تبع ولاية الفقيه ، فشلوا كلهم ، لانهم ساروا بعكس التيار الحضاري والعلمي . وهم يستندون الى افكار عتيقة غير متجددة وهم يجترون الماضي من سلوكيات متخلفة تستند على فتاوي ظالة ماانزل الله بها من سلطان . ومازال وعاظ السلاطين يبثون سمومهم ويشيعون الجهل والخرافة في خدمة حكام فاشلين .
علينا الاعتراف بان سبب تاخرنا وفشلنا يعود لاولائك المتخلفين الذين يدعون العلم والمعرفة والتفسير . ويستندون الى تفاسير قديمة ، واحاديث نبوية مشكوك بصحتها لانها جمعت بعد اكثر من مائتي سنة من الرسالة المحمدية . في حين ان التفسير وخصوصا نصوص القرآن بجب ان يستند على اسلوب البحث العلمي الرصين . وهذا بلا شك من اختصاص العلماء في مختلف المجالات الفلسفية والعلمية والتاريخية والاجتماعية . وهذه الامور لايفهما رجال الدين لانهم مازالوا يدرسون الشريعة وفق الفكر الماضي الذي عفى عنه الزمن ونحن في القرن الحادي و العشرين لدينا ادوات وطرق بحث علمية مختلفة تماما عن ماسبق .
ان المشكلة ليست في الدين الاسلامي لان جوهره مبادئ سامية ، ولكن في من يحاول التشديد ولي النصوص وتحميلها افكارا غريبة تتناسب مع فكر المفسر القبلي المتخلف ، وليعظم السلطان باسم الدين ، او للاستحواذ على السلطة والمال .
ان القرآن حمال اوجه على قول الامام علي عليه السلام . واننا يجب ان ناخذ الوجه الذي يتناسب مع التقدم العلمي والحضاري . فالخليفة عمر بن الخطاب اوقف دفع المال الى المؤلفة قلوبهم رغم وجود نص صريح . ولكنه رأى ان الاسلام قد عظم وتعزز في الامصار ، ولم تعد هناك حاجة الى دفع نقود من بيت المال الى اعراب لايمثلون اية قوة في اوساطهم . انه لم يلغي النص ولكن الزمن تغير والقاعدة الفقهية تنص على تغير الاحكام بتغير الازمان .
وفي زمن الحكم الملكي صدر قانون الاراضي الاميرية ، الذي اعطى للمرأة حصة في الميراث مثل الرجل . على اعتبار انها منفعة وليست رقبة . ومن هذه التجربة الكثير مما يمكن العمل بها للتجديد والتحديث .

ان الاسلام ليس سبب التخلف بل اصحاب التشدد في الدين هم الذين يراوحون في اماكنهم ولايغادروها خوفا على زوال سلطتهم الدينية المؤثرة في الناس الجهلة وهم يخوفوهم من العقاب في الدنيا والآخرة . .
وكلما تشددوا في الدين وعقَدوا المسائل الفقهية كلما زادت حاجة الناس اليهم . . فزادت سلطاتهم وثرواتهم منذ مئات السنين الى يومنا الحاضر .
وفي الخمسينات من القرن الماضي انتشرت الحداثة على اعقاب الحرب العالمية الثانية ، فانحسر طغيان الجهل والخرافة . . وتحررت المرأة ولاقت احترام الرجل ،فنجد نساء محاميات وطبيبات وناشطات في مختلف مجالات الحياة . وبدأت الثقافة والفنون والاداب بالازدهار . وتم ارسال البعثات الى الخارج ودبت الحياة المتمدنة في كل مرافق الدولة والمجتمع . ومازلنا كذلك حتى بدأت الشعارات الدينية تسوق لنا من جديد ، بهدف تعطيل مسيرة الحياة الحضارية واعادتنا الى القرون الوسطى .

الم يقل وزير الخارجية الامريكي الاسبق قبل غزو العراق انهم سيعيدوننا الى عصور الظلام . انهم كانوا يخططون لهذا الغرض . ونحن نصفق لاولئلك القادمين مع المحتل وهم يرفعون شعارات اسلاموية لم نحصل منها سوى الجهل والخيبة وتفشي الفساد والمخدرات والمتاجرة باسم الدين . . وازدادت فتاوي الحلال والحرام . . في حين ان الاصل في الدين الاسلامي الاباحة اي ان كل شئ حلال ، الا ماورد فيه نص صريح وواضح بتحريمه وليس من باب التفسير والتوسعة . ان الدين الاسلامي دين الرحمة والفطرة ولاوجود لاي تعقيد فيه .

لقد اصبح الدين عند كثير من الناس رياء وعادة . وليس عبادة خالصة وطاعة لوجه الله . والا لكانت علاقة الانسان
بربه مباشرة دون استعراض العبادات والطقوس على الملأ .

اننا بحاجة الى تعزيز فكر الحداثة والتجديد . وهي ليست بدعة او ضلالة وانما تطور الحياة . وهي ليست غزوا ثقافيا استعماريا ، انما تقدم يحترم العقل والحياة والانسان . وان الضلالة والبدعة هي ماعشاه ونعيشه الان . ، وهذا ما دعى الاغيار يغزونا ويستعمرونا . ونحن مازلنا نراوح في التخلف والجهل ، ونختار اسوأ الناس ليتسيدوا علينا ، ويعيثوا فسادا .

اننا عندما ندعو للحداثة والتجديد ، فاننا لانتخلى عن القيم الاسلامية العليا مثل الصدق والامانة والادب وانصاف المظلوم والصبر والحياء والتواضع والنظافة . والمعاملة الحسنة . . فالدين المعاملة وليس طقوس جوفاء ورياء .

ان الواجب الانساني والحضاري والديني يحتم علينا مزج الحداثة بالقيم الاسلامية العليا ، لننهض من هذه الكبوة ونخرج من الجهل والتخلف ، الى عالم التمدن والانسانية الحقة .
ادهم ابراهيم