يبدو أن الأحداث في المنطقة بشكل عام وفي العراق بشكل خاص تسير باتجاه التقسيم، وهذا الأمر ليس من باب الإحباط أو التحريض أو الترويج لهذا المشروع القذر المرتبط أساساً بــ” جوزيف بايدن” نائب الرئيس الأمريكي الحالي، ونظرية الفوضى الخلاقة التي روجت لها قبله وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة ” كونداليزا رايس” عام 2005، وإنما من باب التحليل المنطقي للتطورات التي تجري في منطقتنا وتحديداً منذ انطلاق ثورات الربيع العربي، والتي تصب جميعها ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد القائم على تقسيم دول المنطقة لكانتونات طائفية وعرقية تتسيد عليها إسرائيل، وهو ذاته المشروع الذي يتطابق مع مصالح إيران وتدفع باتجاه تطبيقه منذ سنوات لتحقيق أهدافها القومية والتاريخية في المنطقة، فإيران لا ترغب بتقسيم العراق إلى ثلاث كانتونات متحاربة فقط (كردية، شيعية، سنية) كما اقترحها بايدن وإنما تعمل على تفتيت المنطقة بكاملها خدمة لمصالحها ولمصالح حليفتها الصهيونية العالمية وفق نظريتها المعروفة ” تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ”.
فبعد الفشل الذريع الذي منيت به الولايات المتحدة في إرساء التجربة الديمقراطية المزعومة في العراق من خلال العملية السياسية المسخة التي نصَّبت عليها إذناب إيران وحلفائها، وانفاقها مليارات الدولارات على تدريب ميليشياتها الصفوية التي أثبتت بهزائمها الأخيرة أمام ضربات ثوار العشائر وفصائل المقاومة الوطنية حقيقة مهمة جداً وهي الغباء الأمريكي في إدارة الملف العراقي طيلة السنوات الماضية والتواطؤ مع عمائم طهران لتدمير العراق وجر المنطقة إلى صراعات طائفية وعرقية تحت شعارات زائفة.
اليوم وبعد انفلات الأمور من عقالها بعد أحداث الموصل الأخيرة، في ظل غياب الوجود العسكري الأمريكي على الساحة العراقية، يبدو أن الأمور بدأت تنضج أكثر فأكثر لتبرير تطبيق مشروع ” بايدن” كحل نهائي يمكن اللجوء إليه لفرض الأمن في هذه المنطقة المضطربة. إلا أن تطبيق هذا المشروع الذي مر على إقراره من قبل مجلس الشيوخ الأمريكي نحو سبع سنوات (منذ 2007) سيواجه بصعوبات كبيرة أهمها :
* صعوبة فصل ما يحدث في العراق عما يحدث في سورية منذ أكثر من ثلاث سنوات، خاصة وأن الحدود بين البلدين أصبحت متداخلة بشكل لم يعد تمييزه، وأقصد التداخل هنا ليس فقط التداخل الجغرافي وإنما التداخل الفكري والمعنوي والتشابه أن لم نقل التطابق في وجهات النظر والمشاريع الفكرية بين السوريين والعراقيين تجاه ما يقع عليهم من أذى وتدمير وقتل وتنكيل من قبل نظامين طائفيين متطابقين في درجة عمالتهما لنظام الملالي في طهران .
* كيفية تقسيم الموارد الطبيعية ورسم الحدود بين هذه الدويلات خاصة في المناطق المتنازع عليها مثل بغداد بين السنة والشيعة وكركوك وبعض المناطق الأخرى في الموصل وديالى التي ستكون مثار خلاف بين الدولة الكردية والدولة السنية. وهو الأمر الذي سيتطلب تدخل مباشر لحله من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة وربما الجامعة العربية وهو ما سيقود إلى العشرات من المشاكل وعدم التوافق وربما الحروب والمناوشات بين هذه الدويلات لعدة سنوات قادمة .
* الدويلة الشيعية حدودها معروفة تقريباً ومواردها متوفرة والدويلة الكردية أيضاً حدودها الحالية معروفة تقريباً ومن المحتمل أن تضم مستقبلاً المناطق الكردية في شمال شرق سورية، لكن الوضع في الدويلة السنية سيكون مغايراً وهناك سيناريوهان: الأول أن تقتصر حدودها على المحافظات السنية في شمال وغرب العراق مع حدود دولية مع سورية والأردن والسعودية بموارد نفطية ضعيفة وسيطرة تامة على الموارد المائية ( نهري دجلة والفرات) وهو الأمر الذي سيتم استغلاله بشكل كبير للحصول على ما تحتاجه من الموارد النفطية من جارتها الجنوبية. أما السيناريو الثاني فيتضمن امتداد عملية التقسيم إلى الأراضي السورية لتشمل شرق وشمال سورية وصولاً إلى الحدود التركية.
لكن هل التقسيم هو الحل؟
كما أشرنا هناك دول إقليمية تريد تقسيم المنطقة بشكل عام والعراق بشكل خاص وعلى رأس هذه الدول إيران بسبب الحقد القومي والتاريخي الذي يحمله نظام الملالي ضد العراقيين والعرب بشكل عام. كما تعمل بعض الأحزاب الشيعية الموالية لطهران على تسريع تطبيق هذا المخطط بحجة حماية الشيعة من الإرهاب القادم من المحافظات السنية.
وإذا ما نظرنا إلى الأمور من وجهة نظر شاملة نرى أن التطورات التي تشهدها المنطقة منذ انطلاق الثورات العربية وعلى رأسها الثورة السورية والمواقف البائسة للمجتمع الدولي تجاه عمليات الإبادة والمجازر التي يتعرض لها الشعب السوري منذ أكثر من ثلاث سنوات دون بارقة أمل بحل سياسي إقليمي أو دولي أو حتى حسم عسكري لأي من طرفي الصراع تؤكد جميعها المخططات الغربية لإعادة ترتيب المنطقة وتقاسمها، خاصة مع امتداد تداعيات الصراع السوري إلى كل من لبنان والعراق وتنامي النزعات العراقية والطائفية بين شعوب المنطقة. وما يثير السخرية في الأمر أن الأطراف في هذه اللعبة هي الدول الغربية وإيران في حين تم تغييب الدول العربية جميعها، وهو الأمر السائد ليس في هذه القضية فحسب وإنما في كافة القضايا المتعلقة بالمنطقة كما هو الحال في المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني والترتيبات الأمنية في الخليج .
إنَّ إعادة إحياء مشروع ” بايدن” الخاص بتقسيم العراق عام 2007 ولكن بعد توسعته ليشمل سوريا يتم العمل به على قدم وساق، وقد نشهد قريباً ظهور الدولة الكردية على العلن وهو ما صرح به السيد ” مسعود البرزاني” صراحه لوزير الخارجية ” جون كيري ” خلال زيارته لأربيل في 24 حزيران الجاري عن نيته إعلان استقلال إقليم كردستان بعدما وصلت الخلافات إلى ما وصلت إليه بين حكومة المالكي وحكومة الإقليم ورفض الأكراد المشاركة في حكومة يرأسها المالكي لولاية ثالثة. وكان البرزاني قد وجه رسالة للشعب العراقي بعد سقوط المحافظات الشمالية بيد ثوار العشائر قال فيها إن على الجميع أن يعلم أن أوضاعاً جديدة حلت بالعراق بعد أحداث الموصل وباقي المحافظات الشمالية مؤخراً وينبغي التعامل معها بواقعية، مؤكداً أن “الأكراد لن ينزلقوا إلى حرب ضد طائفة تحت ستار الحرب على الإرهاب” في إشارة إلى رفضه سياسة المالكي الطائفية التي ينتهجها ضد أبناء المحافظات السنية شمال وغرب العراق .
ما دفع ” البرزاني” إلى التحرك للتلويح بإعلان إقليم كردستان وطلب الإذن بذلك من وزير خارجية أكبر دولة في العالم بشكل رسمي هو أن الظروف الحالية مؤاتية لذلك أكثر من قبل بكثير فاليوم قوات البيشمركة أصبحت تفرض سيطرتها على كامل محافظة كركوك الغنية بالنفط بعد انسحاب ميليشيات المالكي منها، إضافة إلى سيطرة القوات الكردية على كافة المناطق التي كان متنازع عليها بين بغداد وأربيل، إلى جانب
امتلاك الإقليم كافة مقومات الدولة من حكومة وجيش وبنى تحتية ومطارات واستقرار أمني قادر على جذب الاستثمارات العالمية بشكل كبير .
أما على صعيد الخيارات الأمريكية لحل الأزمة العراقية على المدى القريب فيبدو أن الولايات المتحدة لا تملك الكثير من الخيارات والبدائل لحل هذه الأزمة خاصة على الصعيد العسكري أو الأمني فالجيش الذي أنفقت عليه مليارات الدولارات (طبعاً من أموال العراق) وسنوات من التدريب المتواصل تبخر بين ليلة وضحاها في حين أصبحت الأسلحة والمعدات الأمريكية التي زودت هذا الجيش بها بيد أعدائها. لذلك ستلجأ الولايات المتحدة إلى الحل السياسي لتفادي تقدم الثوار باتجاه بغداد. فليس من مصلحة أمريكا سقوط بغداد بيد الثوار لعدة أسباب أهمها أن الولايات المتحدة تسعى إلى الحفاظ على العملية السياسية التي أقامتها بعد الاحتلال ولو من الناحية الشكلية فقط لأن سقوط بغداد يعني سقوط جميع المكاسب التي حققتها أمريكا في العراق بعد 2003 وذهاب جهودها أدراج الرياح، لذلك ستعمد إلى حماية العاصمة من خلال توفير كافة الدعم الأمني والاستخباري واللوجيستي للقوات العراقية من خلال المستشارين الأمنيين والعسكريين الذي وصلوا العاصمة بغداد مؤخراً، إلى جانب مناطيد المراقبة وطائرات الاستطلاع، مع تجنب زج أي قوات عسكرية على الأرض اللهم إلا إذا وصل الثوار إلى أبواب المنطقة الخضراء وتهديد السفارة الأمريكية هناك. بل على العكس من ذلك فربما تسعى الولايات المتحدة إلى إرسال قوات حفظ سلام عربية لحفظ الأمن في العراق وهذا المقترح كان على رأس جدول زيارة كيري للمنطقة، إضافة إلى التحذير من مغبة أي تدخل عسكري إيراني في العراق، وإيقاف التجنيد في الجيش على أساس طائفي.
أما بالنسبة للموقف من المالكي فقد أصبح واضحاً أنه لن يكون على رأس التشكيلة الحكومية القادمة، وهذه الرسالة تم تبليغها للمالكي شخصياً وللأكراد ولجميع القيادات الشيعية الفاعلة، ونعتقد أن المالكي لن يستسلم للضغوط الأمريكية بهذه السهولة خاصة وأنه لا يزال يحظى بدعم كبير من المرشد الأعلى للثورة الإيرانية ” علي خامنئي ” . ورغم ذلك تقوم الإدارة الأمريكية بجهود محمومة من أجل تسوية سريعة للأزمة بالتوافق مع دول الجوار، وتصر أنها لن تختار رئيس الحكومة العراقية القادم لكنها تدرك تماماً حجم الاستياء الكبير الذي يحظى به المالكي بين السياسيين الأكراد والسنة وبعض الشيعة، وأنه المسؤول المباشر عن الأزمات السياسية
والأمنية في العراق. وإلى أن يتم إيجاد حل لهذه الأزمة سيبقى الباب مفتوحاً على مصراعيه حتى تتحقق التفاهمات حول الأوضاع في العراق والمنطقة خصوصاً بين واشنطن وطهران وقد تفاجئنا الأيام بأخبار لا يتوقعها العقل ولا المنطق ولا الحسابات السياسية أو الأمنية .