18 ديسمبر، 2024 5:02 م

الخوف والهزيمة النفسية.. هما الحالقة

الخوف والهزيمة النفسية.. هما الحالقة

الخوفُ! صفةٌ مرذولةٌ، وخسيسةٌ، ورديئةٌ، وقبيحةٌ، ودنيئةٌ. إذا تشربتها نفس إنسان ما، فإنها تهيمنُ، وتسيطر على كيانه، وعلى مشاعره، وعلى أحاسيسه، وعلى عقله، وعلى قلبه، وعلى فكره، وتحوله إلى امرئٍ هزيلٍ، ضعيفٍ، تافهٍ لا قيمة له البتة في هذه الحياة، ويصبح لديه استعداد للاستعباد، والخضوع، والخنوع، والاستسلام، لأي قوة أو أي جهة كانت، حتى أنه يصبح كالغنمة، يمكن أن يقودها الطفل الصغير.
الخوفُ يجعل من الإنسان شخصاً مرعوباً، متضعضعاً، مهزوزاً، ليس له شخصية متزنة، تستحق الاحترام والتقدير من الآخرين، وليس له إرادة، ولا رأي، ويصبح جباناً رعديداً، يخاف من خياله، ويرتعب من أي نأمةٍ، أو أي صوتٍ، ويتوجس من أي حركة. فهو يعيش في رعبٍ، وذعرٍ دائمين، ويحولانه إلى شخص هو من الأحياء ظاهرياً، ولكنه حقيقة هو في عالم الأموات. كما وصفه الله تعالى هو وأمثاله (صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡیࣱ فَهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ) البقرة 171 وفي آية أخرى، وصفهم الله تعالى وصفاً قبيحاً، ورديئاً، وسيئاً يليق بمكانتهم الخسيسة الذميمة المهينة ﴿إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَاۤبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلۡبُكۡمُ ٱلَّذِینَ لَا یَعۡقِلُونَ﴾ الأنفال 22.
وأما الهزيمةُ النفسيةُ والفكريةُ والعقليةُ والقلبيةُ، فهي الخَوَرُ، والوَهْنُ، والاستخذاءُ، والخنوعُ، والخُضوعُ، والانبطاحُ، والاستسلامُ – سواءً للأفكار الغازية، أو للسلطان الجائر – والشعورُ بالدونية، والسفلية أمامهما، مع الاعتزاز، والافتخار بالعبودية لهما، وتطبيق تعليماتهما على أنها الحق المبين.
فالذي يتشرب قلبه بالهزيمة النفسية، يصبح أسيرَ، ورهنَ أي ناعق، يَنعِق بأفكار رديئة، خسيسة، متعفنة، ويتقبلها على أنها هي التقدم، والتحضر، وينسى تراثه، وإرثه، وأصله، وعقيدته، ودينه. فيستعلي عليها، ويتصاغر أمام تلك الأفكار الهدامة، المخربة، الفاسدة المفسدة. كما أنه يتصاغر أمام سلطة الطاغوت، وينساق مع القطيع في التسبيح، والتحميد لجلالته.
وإذا ما انتشرت تلك الصفات الآنفة الذكر في أي مجتمع – سواءً كان يحمل عقيدة دينية صحيحة، أو عقيدة فاسدة، أولا يحمل أي عقيدة – فإنها تقضي عليه قضاءً مبرماً، وتجعله كالرميم، وتحوله إلى غثاء كغثاء السيل، بحيث أن أي قوة ضعيفة، تستطيع أن تجرفه، وتبدده، وتبعثره، وتشتته، وتمزقه، وتجعله كالعصف المأكول، وتسيطر عليه، وتستعبده، وتتحكم بشؤونه كلها، وهو لا يُبدي لها أي مقاومة، أو أي اعتراض، أو أي استنكار.
وهكذا كان حال المجتمع المسلم قبل الغزو الصليبي في عام 491 هج، فتقدم الفرنجة في بلاد الشام بكل سهولة، ويسرٍ، ووصلوا إلى القدس في السنة التالية 492 هج، وفتكوا في المسلمين قتلاً وتذبيحاً، ما تشيب لهوله الولدان. فبعض المصادر التاريخية تقول: إنهم قتلوا في يوم واحد حين دخولهم المسجد الأقصى سبعين ألفاً من المسلمين، تكومت رؤوسهم في ساحات المسجد الأقصى كالتلال، وكانت خيول الفرنجة تخوض في برك من الدماء.
وقد قال أبو مظفر الأبيوردي في هذه المصيبة، والرزيئة الكبيرة، التي حلت بالمسلمين، أبياتاً من الشعر الحزين، نذكر بعضاَ منها:
مَزَجنا دِماءً بالدُّموعِ السَّواجِمِ ******** فَلَم يَبقَ مِنّا عَرصَةٌ لِلمَراحِمِ
فإِيهاً بَني الإِسلامِ إِنَّ وَراءَكُم ****** وَقائِعَ يُلحِقنَ الذُّرا بِالمَناسِمِ
وَكَيفَ تَنامُ العَينُ مِلءَ جُفونِها ******* عَلى هَفَواتٍ أَيقَظَتْ كُلَّ نائِمِ
وَإِخوانُكُم بِالشَّامِ يُضحي مَقيلُهُم ****** ظُهورَ المَذاكي أَو بُطونَ القَشاعِمِ
تَسومُهُمُ الرُّومُ الهَوانَ وَأَنتُمُ ********* تَجُرُّونَ ذَيلَ الخَفضِ فِعلَ المُسالِمِ
أرى أمتي لا يُشرعون إلى العدى ***** رماحَهم والدينُ واهي الدعائمِ
وَيَجتَنِبونَ النَّارَ خَوفاً مِنَ الرَدَى ***** وَلا يَحسبونَ العارَ ضَربَةَ لازِمِ
أَتَرضى صَناديدُ الأَعاريبِ بِالأَذى **** وَيُغضِي عَلى ذُلٍّ كُماةُ الأَعاجِمِ
فَإِن أَنتُمُ لَم تَغضَبوا بَعدَ هَذِهِ ****** رَمَينا إِلى أَعدائِنا بِالحَرائِمِ (الكامل لابن الأثير ص20 ج9.)
هذه المرثية المُبكية، تُعتبر من أروع المراثي التي قيلت في وصف تلك الفاجعة، والداهية، والنكبة التي دهمت المسلمين المتخاذلين، المستكينين، المستخذين، المستسلمين للروم، الذين أخذوا يقتلونهم ويسفكون دماءهم، ولا يَرْعون لهم حرمة، ولا يُقيمون لهم وزناً.
وبقي المسلمون في بيت المقدس وفي غيره من المدن الشامية، يرزحون تحت نير العبودية للروم، ويعيشون في ذلٍ وهوانٍ إحدى وتسعين سنة، إلى أن جاء يوسف بن أيوب بن شاذي التكريتي الملقب بصلاح الدين، بعد جهاد طويل دام حوالي الستين سنة، بدأها عماد الدين زنكي بن آق سنقر، بتحرير الأراضي من الصليبيين واحدة تلوَ الأخرى، وتوحيدها تحت إمرته، ثم تابع مسيرة الجهاد ابنه نور الدين، ثم أكمل المسيرة صلاح الدين بتحرير المسجد الأقصى في رمضان من عام 583 هج.
ولم يمض على هذا الانتصار الكبير على الفرنجة إلا ثلاثٌ وسبعون سنة، وإذا بالنكبة الأكبر، والمصيبة الأدهى، والكارثة الساحقة الماحقة، تأتي على يد المغول بقيادة هولاكو، الذي دخل بغداد في سنة 656 هج ودمرها تدميراً، وقتل ملكها المدعو المستعصم آخر ملوك بني العباس، والذي كان يلهو ويلعب مع جواريه. وقتل ما بين مليون ومليونين من المسلمين، وبقي أربعين يوماً يعمل السيف في أهلها قتلاً وذبحاً.
ويصف ابن كثير في البداية والنهاية ص316 ج15 تلك الأحداث الدامية فيقول:
(ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغدادُ خاويةً على عروشها، ليس بها أحدٌ إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلدُ، وتغير الهواءُ، فحصل بسببه الوباءُ الشديدُ، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلقٌ كثيرٌ من تغير الجو فساد الريح، فاجتمع على الناس الوباء والغلاء والفناء والطعن والطاعون. ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر، كأنهم الموتى إذا نُبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباءُ الشديدُ فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى، بأمر الذي يعلم السرَّ وأخفى).
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِیُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ بِظُلۡمࣲ وَأَهۡلُهَا مُصۡلِحُونَ﴾ هود 117.
وما حصل ذلك! إلا لأن المسلمين عادوا مرة أخرى إلى حياة الضعف، والخَوَرِ، والخوف، والجبن، والهزيمة النفسية، وترك الجهاد، والتثاقل إلى الأرض، والالتصاق بترابها، والانهماك في متع الحياة الدنيا وشهواتها. حتى أن أحداً من سلالة صلاح الدين، أعطى القدس إلى أحد ملوك الفرنجة، مقابل أن يساعده في الحرب على أحد أقربائه!
فهل هناك عمل أخزى، وأسوأ من هذا العمل الخسيس، الدنيء، القبيح؟! ليحق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر( إذا تبايَعْتُم بالعِينةِ، وأخذتُم أذنابَ البقرِ ورضِيتُم بالزَّرعِ، وتركتُم الجهادَ، سلَّط اللهُ عليكم ذُلًّا لا ينزِعُه حتى ترجِعوا إلى دينِكم).
وإذا ما نظرنا إلى واقع المسلمين الحالي، لوجدناه أسوأ، وأشر، وأخزى من الواقع الذي كان سائداً – سواءً أيام الغزو الصليبي أو الغزو المغولي –.
فالخوفُ والرعبُ، يأخذان بنياط قلوب المسلمين – إلا قليلاً منهم – والصَغارُ والاستخذاءُ، يُهيمن على نفوسهم، ويسيطر على أفئدتهم. والخًوًرُ والوهنُ، يعشش في حنايا صدورهم وقلوبهم. والذعرُ والهَلَعُ من أي نأمة، أو أي صيحة، يغشيان على عقولهم. وحب الدنيا، وكراهية الموت، هما الحالقة والقاصمة! تجعل الناس حيارى، سكارى وما هم بسكارى، يتيهون في الأرض، لا يدرون إلى أين يذهبون، ولا يلوون على شيء، ولا يهتدون سبيلاً.
هذا الواقع المزري، المُخزي، المُشين لمسلمي اليوم، هو الذي أغرى أعداءهم، ليسيطروا عليهم، ويستعبدونهم ويوظفون عليهم حكاماً من سفهائهم، ومن أراذلهم، ومن فجارهم. ينهبون أموالهم، ويأكلونها بالحرام، ولا يتركون لعامة الناس إلا الفتات، فيعيشون في فقر مدقع، وهم راضخون، ومستسلمون، ومنصاعون لأوامرهم، ولا يحاولون أن يعترضوا، أو حتى أن يحتجوا، أو أن ينتقدوا، لأن الهزيمة النفسية تسيطر عليهم، وتُكبلهم بالأغلال والأصفاد، كما لو أن أزِمَةً أو أرْسُناً تطوق أعناقهم، وتحول بينهم وبين الانقضاض على أعدائهم.
وكيف الخلاص؟
إعادة تربية المسلمين من جديد، وبث روح الإيمان بالله وحده، وشحن النفوس بالعزيمة، والقوة، والاعتزاز بالإسلام، وتطبيقه في كل نواحي الحياة، من الفرد إلى المجتمع، وطرد الخوف من النفوس، وقصره على الخوف من الله وحده فقط ، كما قال تعالى ( فلا تَخَافوهُم وخَافونِ إن كنتُم مُؤمنينَ ) آل عمران 175 وغرس روح الاستعلاء بالإيمان، وتمثل قوله تعالى ( وأنتُمُ الأعْلَونَ إنْ كُنتُم مُّؤمنينَ ) والانطلاق نحو الجهاد، الذي هو السبيل الوحيد لاستعادة عزة الأمة المسلمة، وكرامتها.
فقطز حاكم مصر وهو من المماليك، استطاع في خلال سنتين بعد سقوط بغداد، أن يُعبئ المسلمين، ويشحنهم بطاقة إيمانية عالية جداً، بالتعاون مع العلماء الربانيين أمثال: أبي العز بن عبد السلام، ويجهزهم لمواجهة المغول الذين أرادوا غزو مصر، فخرج إليهم بجيش عرمرم التقى معهم في منطقة عين جالوت، وانتصر عليهم انتصاراً عظيماً.
تكوين جماعة مؤمنة صادقة، تشكل القاعدة الصلبة، واللبنة الأولى في هيكل المجتمع المسلم.. وهذا ما نسعى إليه، من خلال تكوين (تجمع السوريين الأحرار).