19 ديسمبر، 2024 12:10 ص

ترى هل يتذكر أهل البصرة الكرام جيدا شوربة السيد في حقبة منتصف الستينيات , ولو أن العراقيين جميعا يميلون إلى نسيان الأهوال المزعجة ولكن في الوقت نفسه لا يتخلون عن تذكّر أهوال أخرى أو يلقون بها في خانة النسيان , بالطبع , بل يحفظونها لتعيش في أكنافهم مع السيف والرمح حتى وإن بلغت من العمر مائة عام .

شوربة السيد ليست لرجل مجهول , بل لبطل حقيقي في مجال مهنته . هذا الرجل لم يتردد يوما واحدا عن موعد إعداد عربته لتنتصب وسط ساحة أم البروم قبل آذان المغرب ليبدأ البيع مع انطلاق صوته المروّج لها : شوربة عدسسسسس .. شوربة عدسسسسس لأصدقائي الأميين ومن بعدهم الأميين أيضا !!

يقف هذا السيد خلف عربته بهيئته البدينة , مرتديا دشداشته البيضاء وواضعا طاقيته البلورية فوق رأسه . وهو في كل مرة يقدم فيها طبق الشوربة لأحد الزبائن يتناول خاوليآ صغيرا يضعه فوق كتفه ليمسح به يديه ويعيده بحركة تكشف عن تجربته الطويلة في هذه المهنة. لم يكن السيد حاملا لأية شهادة عليا أو ابتدائية سوى ذلك الخاولي .

لذا فهو حينما يأتي إلى الساحة لم يكن فمه محشوا بمقالات عن تيار التفكيكية أو السيميائية أو الحركات السردية أو بأسماء كبار العلم والأدب ليقذف بها على زبائنه أثناء جلوسهم على الأرض وهم يتناولون وجبة عشائهم المتواضع , لأنه لا حاجة له في إنشاء علاقة ساخرة خارج إطار تلك الجلسة التي لا يحتاج فيها الناس إلى الرطانة في التعبير عن واقعهم رغم أنه هو الذي رشحهم بعون من قادة الدولة السابقين ووجدانهم المنعدم لتبوأ ذلك المكان .

ولا ننسى فضل ودعم الكابينات الحكومية غير الرشيدة السابقة ومعهم رجال من أصحاب الكروش ذات الثَرب العفن ورؤوس صلعاء خاوية ,أولئك البدناء ,المنتمين إلى الجهالة والمنضوين تحت أجنحتها الذين يعملون لديها في ورشات السياسة التي ليس لها مرجعية سوى مرجعية انتهاك حقوق الفرد .

يضاف إلى ذلك أن أكثر هؤلاء الزبائن قد تخطى الخمسين من العمر ومن دون حجر يشحذون عليه حظهم العاثر, لذلك فإن السيد, أولا, مثلهم يرى فيهم ماضيه المملوء سرابا وغيظا فنزل معهم على حكم ذلك الماضي وانقضى الأمر. وثانيا , لأنهم هم الناس الذين يأتون برزقه إليه في الصيف القائظ برياحه الجنوبية وغبار صحرائه وفي الشتاء القارص بأمطاره وأوحاله .

إلا أن السيد كان يفهم من تلقاء نفسه التي لا تقبل بلائمة ترجع عليها, وبلغة واحدة هي لغة الوجدان المقترنة بتجربة ممارسة العاطفة لأنها هي أم اللغات ومنبعها الصافي الذي يشرب منه الناس, أن عقوق الناس الفقراء هو أمر كبير.

والشوربة لم تكن سوى عدس وماء وقليلا من الزيت وذرات من التوابل والملح يقدمها السيد فوق أجنحة عربته لمدة ساعتين , لكنه ينظر إليها من زاوية كونها تفطر صائما وتشفي عليلا وتطعم مسكينا ولها في هذا قدر عظيم .

هذه التلقائية في تجربته ووعيه الفطري بضرورة احترام هؤلاء الناس هي التي جعلت طعامه بهذه الصفة الشهيّة وبسعرها البالغ ثلاثون فلسا. فالزبائن هم أصحاب حق وعلى الأخص في التعليم الذي حرموا منه أو تغاضوا عنه لأن المتعلمين من اقرأنهم قد التقطتهم الأيادي المجرمة بإلصاق شتى العناوين الإيديولوجية عليهم من أجل ملء السجون بهم , فجاء هؤلاء يبايعون الواقع الذي لم يحسن استقبالهم إلا بهذه العربة البسيطة التي صنعها السيد من وجدانه وعاطفته ومن دون أي قصد أيديولوجي.

وفي يوم من الأيام لم يخرج السيد كعادته لينصب عربته وسط ساحة أم البروم . وعندما حان أذان المغرب, تجمع الزبائن في موقع ألعربة الخالي وكأنهم في حالة حداد . ترى هل كانوا بانتظار عودة الرجل القوي, الخطيب, المنظّر الذي سيلملم أوصالهم ؟

كلا , بالطبع , إنهم ينتظرون السيد بسبب سؤال أنطلق من ذاتهم التي خضعت لسنين لآلية الجلوس في هذا المكان , هذا السؤال هو : كيف نغيّر هذا الجوهر الوجداني بعد هذا التأريخ والتجريب بعربة أخرى غير عربة السيد . هذه هي الآلية التي أوجدها السيد بساعتين من الزمان يوميا التي لم يستطع أحدا من الرؤساء أو الوزراء لسنين أن يأتي بشبه لها في السلوك في كل العالم .

تكرر مشهد الزبائن في جلوسهم وعيونهم تترقب ظهور السيد لثلاثة أيام متتالية دون أن يتناول أحد منهم وجبته من العربات المجاورة. البعض من هؤلاء ضاق به الوقت فذهب دون الولوج في تجربة عربة أخرى. أما الباقون فلم يركنوا إلى التأويل فتفرقوا بعد ساعة من انتهاء الآذان , إذ لم يجرؤ أحدا بالإنصات إلى صياح البعض من الباعة الذين قالوا بجزع : السيد مات ياعالم !!

نفهم من التحديد الذي ربطنا به بين السيد وعربته من ناحية وبين وزبائنه من ناحية أخرى أن لغة الوجدان بعلاقتها مع الناس تؤسس إلى فهم الواقع برؤية عميقة لجوهره ( = كنهه ) وهذا ما لم نجده في العلاقة بين وزراء المطبخ العربي(= المستشارون ) وشعوبهم .

هؤلاء الوزراء الذين يتعين عليهم إسداء المشورة التي ترضى الله ورسوله لشعوبهم في اليسر والعسر, المشورة التي تدعو لحضور الإنسان البعيد من عزلته والقريب لتحقيق ذاته, لأنها ترتبط بهم ولأجلهم ومن دون تحامل على أحد وليس العكس. ولكن في أوطاننا لا يفهم هؤلاء قيمة العمل المرتبط بلغة الوجدان والعاطفة التي تعبّر عنها مشاعر هذا الوزير أو ذاك ممن جلبتهم كابينة الوزراء بإرادة الشعب ليدلون بدلوهم في الاستشارة الرشيدة خدمة له.

ولكن تراهم ينصحون دولهم بإقامة أحلاف مع دول استعمارية لإنشاء قواعد عسكرية, مثلا, في بلدانهم مثلما يحدث في البحرين لأنهم يرون أن حكامها يتناسلون مثل قطيع من الجمال . وهناك صنف يدفع بالنصيحة إلى إقامة علاقات مع إسرائيل من باب العلمانية والليبرالية التي تقود إلى غياب ناموس التقاليد.

وبسبب مخاوف الأبتلاع من دول أخرى نرى هناك دولة تتبنى لغة وثقافة غير العربية تصحبها خطط استثمارية ترمي إلى صناعة البديل لتامين حياتهم على المدى البعيد وفق عملية جماع غير شرعي ينجم عنه نظام هجين يؤسس إلى إسرائيل جديدة وهم لايعلمون .

وهذه الطريقة الجديدة التي ابتدعتها إحدى الدول الخليجية بنصيحة من مستشاريها الأفذاذ . وهي بالحقيقة ليست بالجديدة إذ صاغها من قبل أتاتورك لينظمّ إلى الغرب كرها بتقاليد الإسلام وحروفه العربية التي كانت تصاغ بها المفردات التركية ليحول تركيا الى دولة علمانية مئة بالمئة .

يتجسد هذا التطبيق لدى البعض من دول الخليج بسبب نبذهم للمذاهب التي لاتتهاون مع الصهيونية والعودة الى الوراء مما يكشف النقاب عن دورهم ألتدميري في تفكيك النصوص القرآنية وربطها بسياقات هجينة من أفكار وأصداء جاهلة هنا وهناك .

والحق هنا يقال أن دولة واحدة لاغير رغم صغرها وقليل فعالها إلا أنها جذبت من محيطها أحسن المقال. فبرغم مخاوف مستشاريها الذين يتنبئون بابتلاع إمارتهم من قبل جارتهم وأبناء جلدتهم مما يجعل رأيهم هذا شللا في منظومة عقليتهم السياسية.

وهناك من يحرّض دولته إلى إحياء إمبراطورية سلاطينهم لاسترجاع الأراضي التي انسلخت منها كما يزعمون وذلك بتبني شذاذ الآفاق ومدهم بالأسلحة وبث روح الفتنة الطائفية في بعد تأويلي نابع من ذهان مرضي .

ومن هؤلاء مستشارين مغاربة ممن يحرّض النساء للمطالبة بالمساواة مع الرجل في الإرث في إطار خطاب سفسطائي يعمد إلى انتهاك ثوابت دينهم وتنحيته من روح الشعب لكي يدوي ذباب التناحر بين الأحزاب الإسلامية لتشتعل البلاد

بالفوضى . أما في دول أخرى فالتحريض يأخذ أشكالا أخرى كاستقطاع رواتب الفقراء وفرض الضرائب لأنتشال البلاد من العجز المالي الذي تسبب به فساد بعض المنظومات السياسية وتبادل المراكز بين الوزراء كما يفعل لاعبو كرة القدم في الملاعب العراقية.

وفي نواح أخرى يدعم الفساد في دوائر الخدمات العامة وذلك بتلقي الرشاوى من قبل البعض من الموظفين المنحرفين لقاء انجاز أعمال ذات صلة بحياة المواطنين .. والقائمة تطول .

ففي وطننا ابتلى الشعب بهؤلاء المستشارين, فنراهم يسخرون من الشعب وغير عابئين بتفكيك علاقته مع نفسه. ومن ناحية أخرى فان الضربة التي يوجهها هؤلاء الوزراء للشعب في ترك من تسبب في ضياع ثروته, بل واستيفائها من الشعب في فهم زائف وبرنامج فاشل لا يعد الشعب في العير ولا في النفير أنما هي استشارة الشياطين للشياطين.

ومن جهة أخرى يعارضون الإصلاح الذي يسهم في تحسين المستوى ألمعاشي لمن يعيش الفاقة والحاجة. وهناك وزراء للمطبخ ممن باع أراضي بلاده لسنين طويلة ناسفا فيها تراث بلاده في هذه الأرض أو تلك من اجل فرض حياة متدنية وخلق طبقات تمتاز بالتصدعات النفسية والغربة في مجتمع لا يتطابق معه وضياع الثروات التي تحتويها.

وبسبب ضعف القدرات السياسية والضبابية الفكرية في تجاوز الحاضر , يلجأ وزراء المطبخ بالدعوة إلى تعطيل المصانع والمعامل متبعين نظريات مغلقة وتجريبات أميبية وذلك إما لإضحاك الدول المناوئة والسخرية من تاريخها بعدما كانت مهيبة وإما لتهيئة البلاد سياسيا الى شفير الهاوية.

هؤلاء الفتية الممتلئين بالغرائز المكبوتة هم ليسوا بالفتية التي ذكرها الله , بل هم فتية السناتر والمولات الذين يحملون البضاعة للمالكين ويكدسوها في الأماكن المخصصة ثم يلصقون عليها الأسعار التي يأمرهم بها المالك .

وهم يعلمون أنهم في حال انتهائهم من تفريغ البضاعة ورصّها في جحورها ووضع التسعيرة عليها يتوجب عليهم المغادرة. لكن منهم من تحفزه آرائه وتأويلاته فيسرق كل ماتقع عليه يده دون أن يتقي الله ويفصل بين الأسود والأبيض ولكي لا تطول حسرته يوم الحسرة.

وهذه هي الخطورة التي تطفوا في مثل هذه المفاهيم الخاطئة مما يحتاج فيه المالك إلى تعديل في جوهر العقد المبرم بينه وبين المجهّز, وهذه ثقافة ربما يجهلها المالك كما تجهلها الحكومات المصونة الحالية التي لم تستطع مجاراة وجدان بائع واحد للشوربة اسمه “السيد” دون أن يفصح عن أسمه الكامل وشهاداته وأوسمته

ومجلدات نضاله المرير في حي سوهو أو الطرف الأغر أو مانهاتن أو مونمارتر أو .. أو ..كما يفعل مرضى هذا العصر , الخوابل الشياطين الذين تجلوا بصور شتى للإنسان .