كلما نقلت وسائل نقل الانباء خبر عن تدهور الحالة الصحية لشيخ أو أمير أو ملك عربي (مثلما هو حادث اليوم في الكويت و السعودية) وضعت كل مراكز القوي الدولية يدها علي قلبها! فانتقال ارث الحكم في تلك المشيخات معضلة مزمنة و لا حل لها، اذ لم تهتم تلك الدول بوضع اسس دستورية تضمن اسلوب و طريق راتب و مجمع عليه في انتقال العرش، ففي الكويت هناك بوادر نزاع بين فرعي عائلة مبارك الصباح بينما في السعودية يميل فرع ال سلمان لاحتكار ملك ال سعود!!
ان قلنا ان كل الانظمة الحاكمة لدول مجلس الخليج العربي هي انظمة و حكومات دكتاتورية فربما لايقبل قولنا هذا المفكرون الخليجيون أو مفكرو الخليج بنظام الكفالة و عقود العمل “أمثال عزمي بشارة و محمد دحلان”!..
لكن في الحقيقة هي دون ذلك حتي، لم تبلغ بعد مرحلة الدول حتي توصف بأنها انظمة حكم دول دكتاتورية، فمشيخات الخليج ان كان لها من سمت الدولة الكثير، إلا ان ما يعوزها هو الأهم؛ و إن كان لها جيوش و سلطة سيادية و اجهزة تمارس سلطة تنفيذية.. الخ إلا انها بلا شعوب.
رعايا انظمة المشيخات الخليجية ليسو مواطنين و إن كانت الانظمة تخاطبهم بهذه الصفة و تمنحهم هذا اللقب، لكنها في الواقع فرغت تلك الصفة من مضمونها و اصبغت عليه مضمون جديد، فصفة “مواطن” هناك لا تعني صاحب حق قانوني اصيل انما مجرد صاحب امتياز يعلو قليلاً علي غيره ممن يقيمون علي تلك الأرض “وافدين”، بل و بعض تلك الانظمة لا تمنح المنحدر من سلالة أصيلة قاطنة علي تلك الأرض صفة و هوية مواطن انما تسميها “تابعية”! و التابعية ليست إلا درجة اعلي قليلاً من “البدون”! و لا تمنح امتيازاً و حقوقاً “دستورية او قانونية” غير قابلة للانتقاص أفضل من تلك التي تمنح للوافد و المقيم ممن استقروا علي ارض “المشيخة” بغرض العمل!
بات مسلماً به في علم السياسة ان الضرائب هي أهم عامل في تشكل الدول، و الحقوق السياسية و المدنية و الإجتماعية تترتب بصورة أساسية علي ما يدفعه المواطن من ضرائب للدولة، و هي من أهم العناصر في نظرية العقد الاجتماعي التي تقوم عليها فلسفة الحكم و الدولة.
و معروف ان انظمة الخليج و مشيخاتها لم تكن تفرض اية ضرائب علي “رعاياها” بل كانوا مجرد منتفعين و أصحاب امتياز و مكرمات تتنزل عليهم من رأس الدولة..
اليوم و مع تزايد الازمات الاقتصادية العالمية و مع تزايد الروابط و الاواصر في منظومة العمل الاقتصادي و التجاري و المالي العالمي، فان مشيخات الخليج تجد نفسها مضطرة للتخلي عن نمط “المكرمات” و علاقة الانتفاع و شراء الرضا و السكوت! و مضطرة للبحث عن موارد جديدة للصرف علي بنود نفقاتها المتضخمة، و لذا شرعت تفكر في فرض و ادخال انواع محددة من الضرائب؛ و تشرع في فرض بنود ضريبية غير مباشرة “الضريبة علي القيمة المضافة”.
لكن ستواجه المشيخات تبعات تبدل نهجها هذا، اذ ستكون له عواقب و ستفرض تغيرات علي اسلوبها في الحكم، لأن دفع الضريبة يترتب عليه حقوق أقلها الحق في الاشراف و الرقابة علي بنود صرف و توظيف تلك المبالغ الضريبية، و تمتد شيئا فشئ الي المشاركة في رسم السياسات و التخطيط، ثم المشاركة السياسية الكاملة التي تمتد الي التقرير في شؤون الحرب و السلام و المشاركة في اختيار الحكومة و صولاً لحق الترشح لشغل مناصب الدولة و الحكم.
ان التحولات الحادثة في الخليج الأن تمثل فرصة و سانحة تاريخية نادرة للمراقبين و لعلماء السياسة و القانون ليكونوا شهود علي عملية ميلاد دول و امم جديدة و علي تخلّق صيغ العلاقة بين المواطن و بين السلطة السياسية.