لاشك أن الصراع بين المخلوقات قائم منذ بدء الخليقة الى يومنا هذا، وهو مشروع بحكم غريزة بقاء الأصل والنوع في الكائنات غير العاقلة، أما في الإنسان فالأمر مختلف كثيرا إذ أن صراعه مع نظيره في الخلق يأخذ وجوها عدة، منها المشروع كتنافسه معه في إنجازات واكتشافات واختراعات، تعود بالنفع بحاصل تحصيل الى البشرية جمعاء. ومنها مايكون صراعا عدائيا، وهو على الأغلب لايشمل الإنسان السوي المخلوق في أحسن تقويم، إذ لم يكن خالقه قد أحسن في تقويم هيئته الخارجية فحسب، بل احتوت عنايته ورعايته تركيب عقله ونفسه أيضا، فجعلها ميالة للجمال، تواقة لفعل الخير، سباقة لنيله، رغابة في شيوعه بين الناس، وحديثي كما أسلفت عن الإنسان السوي حصرا.
أما غير السوي فعادة ما تكون نفسه أمارة بالسوء، مناعة للخير، كارهة شيوعه بين بني جنسها. وأول مقومات التعايش بين أفراد المجتمع هو الإحساس بالمسؤولية، وهو مايدفعه الى تحكيم عقله في تصرفاته وأفعاله، لئلا تخرج من إطار المشروعية عرفا وأدبا، فتواجه إذاك ردود أفعال تدخل في مفهوم الصراع العدائي، فيكون بهذا قد أسقط إنسانيته التي جُبِل على معانيها السامية، والتي تميز بها عن باقي المخلوقات.
وسأبقي حديثي محصورا في الصراع، ولن أخرج عن دائرته التي تحيط بنا نحن العراقيين من كل جانب، وهذا قطعا بفضل ساسته الأبطال الذين مافتئوا يتقلبون على كراسي السلطة والتحكم بمصير البلاد، فهم يتبعون أسلوب الديكة في التعامل مع مفردات واجباتهم المنوطة بهم إزاء مجتمعهم، وهم طبعا مسكوا العصا من منتصفها وأطرافها على حد سواء، وقد تمسكوا بها نهجا وسياسة وأداة ووسيلة في إدارة أعمالهم، نابذين العقل والحلم والكياسة، فضلا عن الحكمة والسداد والروية، كشروط أساس في شخصية القيادي، ومؤهلات لاغنى عنها لمن أراد النجاح مهنيا ووظيفيا ومنصبا.
بين آونة وأخرى يحتدم الخلاف في صفوف ماسكي دفة سفينتنا، ويتأجج الصراع فيما بينهم فيتركون حبل القيادة الصحيحة على غارب الإهمال والتهميش، فيألو حال السفينة مآلا غير محمود بركابها، ويغدو المواطن العراقي كما يصوره الشاعر:
وانا اليوم كالسفينة تجري
لاشـراع لها ولا مـلاح
وخلاف الساسة هو الآخر يندرج تحت طائلة المشروع وغير المشروع، أما الأول فهو أساس كل رأي يتمخض عن آراء عدة، كانت قد اختلفت فيها مجموعة، وبنقاش جاد ومحايد لهدف سام ونبيل تتبلور رؤاهم ليولد بذلك رأي سليم، سديد، صائب وسوي. وأما غير المشروع من الخلافات فأرى أن خير مثال عليه هو ما يحصل في العملية السياسية التي يلعب دور البطولة فيها أناس لم يعطوا جانب الشعور بالمسؤولية تجاه وطنهم -إن كان حقا وطنهم- أي اهتمام، ولم يفوا بعهود قطعوها لمن سيّدوهم ورفعوهم حيث مناصبهم التي كانوا يحلمون بتبوئها يوما ما.
هنا في عراقنا كان الأولى بالمتحزبين الذي ولّدتهم سياسة التحاصص في الوطن والذين تولوا قيادة البلد، ان ينأوا عن تجيير الخلافات لصالح أجندات لاتخدم البلد ولا العملية السياسية، لاسيما والبلد بأمس الحاجة الى توحيد الأفكار والآراء والهمم والنيات السليمة، وسابقا كنت أردد في مقالاتي بيت الشعر القائل:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه؟
إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
أما لو بقي تصرف أضداد العراق والعراقيين كتصرف الضباع عندما تفترس طريدتها، ويسعون الى خلق العقبات وكسر المجاذيف يكون البيت التالي أكثر تطابقا لوضعنا العراقي:
ولو ألف بانٍ خلفَهم هادم كفى
فكيف ببانٍ خلفَهُ ألف هادم؟