أخر تأجيل الاتفاق النووي الايراني ــ الاميركي الإعلان عن الترتيبات الكبرى للتوازنات والخرائط النهائية للأدوار الاقليمية والدولية بحسب احجامها واوزانها الحقيقية، فلم تفلح عملية خلط الأوراق الاقليمية بعد سقوط الموصل على يد تنظيم داعش في العاشر من حزيران ــ يونيو 2014، في تقليص عدد حلقات مسلسل التصدي الاميركي للمتغير الاستراتيجي وتداعياته بعد ثورة الامام الخميني رض عام 1979م، التي دفعت اميركا للتعامل مع العراق كمنصة مباشرة، ومن ثَم كقاعدة ميدانية لإدارة صراع الهيمنة والتحكم بمساراته الاقليمية والدولية.
تدعيم الحضور العسكري الاميركي المباشر في العراق هدفه ابقاء الضغوط وادامتها على الحكومة العراقية، لحماية مسار الوصفة السياسية بين القوى العراقية بمقاسات البيت الابيض، والاشراف على ملفات النفط والغاز عبر ادارة الازمة بين بغداد واربيل تمهيدا لإعلان الدولة الكردية النفطية بعد تكريس هيمنتها على كركوك التي يُعد الاتفاق النفطي الاخير بين طرفي الازمة تسليما ضمنيا بعائديتها لحكومة اربيل اذ وافقت حكومة المركز على تسلم الـ150 الف برميل بحسب الاتفاق مع اربيل من حقول كركوك التي استولى عليها الاكراد بعد “مسرحية الموصل” وهذا يعني اعترافا بشرعية تصدير النفط من كركوك المغتصبة!!.
كما تسعى ادارة اوباما من خلال هذا الحضور المباشر الى انشاء الاقليم السني بعد الاقليم الكردي، وكذلك تعمل على سلخ العراق عن محيطه الاقليمي الممانع عبر ابعاده قدر الامكان عن جاره الايراني وتضغط عليه في نفس الوقت للانفتاح على جيرانه الحلفاء لأميركا كالسعودية وتركيا والاردن التي شهدت مطاراتها حركة مكوكية للخارجية العراقية ولبعض القيادات الحكومية، كما تهدف الى اشراك اكبر قدر ممكن من المعارضين السنة المؤثرين في حركة التمرد الداخلية، واعادة انتاج النظام السياسي على اسس جديدة ستؤدي مخرجاتها حتما الى استنزاف الدولة العراقية، وصولا الى مرحلة التفجير النهائي التي سترسم حدودا ميدانية مُختلف عليها تضمن ادامة الصراعات بين الاقاليم الجديدة المرشحة للتحول الى دويلات.
مؤشر الرأي الشعبي العراقي العام الرافض للعودة الاميركية تصاعد تدريجيا ما ترك تأثيره على الرأي الرسمي العام، لذا باتت اميركا تتوسل بطرق واساليب بعيدة عن سلوك السبل الرسمية العراقية وتلجأ الى تعزيز علاقتها مع حكومة اربيل، وتبدي استعدادها لزيادة حجم التسليح العسكري للبيشمركة دون المرور بحكومة المركز في بغداد، فضلا عن اقرار مشاريع تسليح العشائر السنية بحجة مواجهة تنظيم داعش وملء الفراغات التي احدثها “عجز الحكومة العراقية” والغاية هي التأسيس لبناء ما يسمى بـ “الحرس الوطني” الذي يُراد له ان يكون نواة القوات المسلحة في مشروع دولة الاقليم السني.
خروج مارد المقاومة العراقية من قمقمه ــ كما سبق واكدنا منذ بداية الازمة (العراق الموحد ينتصر ويوحد دول المنطقة 14/7/2014 بانوراما الشرق الاوسط) ــ نقل العراقيين من زاوية الجمود والنزف الدائم والدوران في دائرة الازمات المغلقة، الى واقع الحركة والتجديد وبداية بروز ملامح واقع سياسي جديد لن يرسم المصير العراقي فحسب بل مجمل مصير “الشرق الاوسط”، الأمر الذي اربك اميركا ودفعها لتغيير موقعها مرغمة من مدير للخطة ومشرف على تطبيقها الى مدير للازمة ومنهمك في البحث عن جرعات أكسجين تبقيها قابلة للحياة، فمع توارد اخبار قرب تطهير مدينة بيجي الاستراتيجية ومصفاها النفطية، وتحرير ناحية جرف الصخر وقبلهما فك الحصار عن مدينة آمرلي، وتوالي التقارير عن النجاحات المتتالية في محوري ديالى وصلاح الدين وتركيز الجهود لتطهير مدينة هيت كمقدمة للانطلاق منها لبقية مدن محافظة الانبار، مع توارد هذه الاخبار عقد مجلس الامن القومي الاميركي اجتماعا لتقييم خطط “التحالف الدولي” واستضاف الكونغرس الاميركي رئيس هيئة الاركان الاميركية الجنرال مارتن ديمبسي في جلسة استماع حط بعدها ديمبسي مباشرة في بغداد في الوقت الذي كانت وزارة الدفاع الأميركية البنتاغون، تعقد مؤتمرا خاصا لوضع خطط المواجهة التي يقودها “التحالف الدولي” ضدّ تنظيم داعش الارهابي، وقد ضم المؤتمر الذي عُقد من 12 ــ 22 من الشهر الجاري 200 مخطط عسكري من 33 دولة، واستضافته القيادة المركزية الأميركية CentCom في قاعدة ماكديل الجوية قرب مدينة تامبا بولاية فلوريدا، وتركز على جهود توحيد وتنسيق الخطط العسكرية “لهزيمة” تنظيم داعش، اكد بعده بيان للبنتاغون أنه قد “حضر في هذا المؤتمر أفضل ضباط التخطيط من الدول العالمية وكان التركيز الرئيسي للمؤتمر ولمدة 10 أيام مواصلة تطوير خطط التحالف للمساعدة في تدريب وتقديم المشورة والمساعدة لقوات الأمن العراقية حتى يصل العراق الى موقع أكثر قدرة على التجدد في القوة القتالية، ومكافحة الدولة الاسلامية وتوفير الامن للعراق في نهاية المطاف وترسيخ الخطط ومناقشة أفضل السبل لمزامنة وتعزيز الجهود المشتركة لمساعدة العراقيين” بحسب البيان، وتمخض المؤتمر عن زيارة مباشرة لقائد القوات الأميركية الوسطى الجنرال لويد أوستن التقى خلالها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في 24/11/ 2014.
ادامة الزخم العسكري الاميركي في شمال العراق وغربه، ورفع مستوى الانتهاك للسيادة العراقية والضغط الدائم على الحكومة العراقية، والتلويح بدعم الاكراد و”العشائر السنية” واللعب على الاوتار الطائفية “الشيعية ــ السنية” والقومية “العربية ــ الكردية”، هو عنوان الايام القادمة والكرة في ملعب الحكومة وجهدها العسكري الذي يسابق الزمن لقطع الطريق على المسار الاميركي الطامح للعودة باحتلال مبطن للعراق يحقق لواشنطن ما عجزت عن تحقيقه بعد هزيمتها وخروجها عام 2011 بإنشاء قواعد عسكرية دائمة في شمال وغرب العراق مدعومة بالحضور العسكري في منطقة الخليج.
عودة لا يبدو انها هينة مع سعي العراقيين المتصاعد لتعزيز مسارهم الوطني ودعم فصائلهم الجهادية وسراياهم الشعبية بعد ادراكهم المتزايد للهدف الاميركي المتمثل ببقاء حالة الاستنزاف وادامة الفوضى وترك المواقف عائمة ومساراتها غائمة الى حين تبلور واقع جديد يفرض خارطة التقسيم.