كيف حارب علي -عليه السلام- هذا الكم الهائل من الجهل؟ كيف حارب هؤلاء المحاربين لله سبحانه ولرسوله الأمين (ﷺ) من حيث يشعرون ومن حيث ولا يشعرون؟
بظنّي، إنّ حاضرنا يتوق بلهفة لطرق باب علي -عليه السلام- والتمعّن في ماضيه التيلد. فما أشوق الدهر لأن يتلوّن بألوان تراثه ونهجه الذي ما حاد عن الحق والعدل قدر أنملةٍ ولا حتى دونها.
الدواعش لم يحاربهم علي عليه السلام بالسلاح والعتاد فحسب، ولم يهزمهم بصولات ذي فقاره فقط. بل تبطّنت سيرته العذبة أبجديات النصر ودستور الغلبة:
أولا- قيادة شفافة تعي جيدا سيناريوهات الحدث:
لم يكن ما آلت إليه حكومة علي -عليه السلام- من صراعات وشقاقات بغائب عن قراءته ونظره. ولم يكن ما جرى إبّان حكمه بأمر مفاجئ مباغت. بل وقبل توليه -عليه- السلام لدفّة القيادة والزعامة، أعلنها كالشمس لمنتخببه وشعبه:
“دَعُوني وَالْـتَمِسُوا غَيْرِي، فإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ، لاَ تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وَإِنَّ الاْفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالْـمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ وَاعْلَمُوا أَنِّي إنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ”.
فلم يستخفهم بوعودٍ من أعوامِ رغد عيش ظاهري! ولم يطبطب على رؤوسهم بيدٍ تعد بما لا تقوى على الوفاء به! بل تراه -عليه السلام- وقد أشاح ضباب المستقبل، وكشف عن هوية الغد التي ارتدت الشبهات والتردد، والخلاف والتمزّق.
وبعد أن أبان معالم ما سيستقبله هو وقومه، بثقة الواثقين طمأن مريديه وشعبه بقوله أن قيادته قيادة (عالمة) بمجرى الأمور، (خبيرةٌ حكيمة) بطريق الأمان.
ثانيا- لا شخصنة ولا انفعال ولا تشفّي:
عليٌ -عليه السلام- عينه على الله سبحانه دوما وأبدا في الصغيرة والكبيرة، وفي دقيق الأمور وجليلها. ومن هم على نهجه تماما مثله! لا يعرفون أبدا لغة الإنفعال والشخصنة، ولا نفض الأحقاد والأغلال، ولا فرص الإنتقام والتشفي. فمنهج علي عليه السلام هو منهج المراقبة لله سبحانه والنظر إلى مواطن رضوانه وقربه فقط وفقط، في الحرب قبل السلم، والسر قبل العلن، والضراء قبل السراء.
حينما نقرؤه -عليه السلام- في خطبه وأحاديثه؛ رغم جراحاته وحسراته التي ضجّ بها صدره الشريف من التتعتع والتضجر والتكالب على شخصه والتعدي عليه، إلا أنه يتجاهل كل هذه التوافه بنظره، فيقف وقفة الناصح الأمين ليحدّث القوم عن الله سبحانه ويذكّرهم بصراطه المستقيم ودينه القويم.
عليٌ -عليه السلام- لم ينظر يوما إلى جراحه، ولا إلى أحزانه، ولا إلى ما يُقال في شخصه! بل كان دائم النظر إلى جراح أمة محمد المصطفى (ﷺ) يريد أن يلئمها. كان مغتما بما آل إليه الناس من ضلالة باسم الدين، سُفكت بها الدماء واستبيحت بها الأعراض. لم يكن لينتقم يوما لنفسه وإن كان له ذلك! بل كان ينتقم لله سبحانه فقط وفقط. فلا تشفي، ولا شخصنة، ولا نفض أحقاد، ولا انتقام هوىً في دولة علي -عليه السلام-.
تراه عليه السلام يعفو بكل صفحٍ وإيمانٍ عمن يسبّه علنا وبملء الفم أمام الحقير والعظيم من الناس، والبر والفاجر من الشعب، والصغير والكبير. وما أعظمها من كلمة يستحي المرء من نقلها في حضرة علي -عليه السلام-. قال فيه ذلك الخارجي حينما كان -عليه السلام- يحدّث أصحابه بحديث هدى:
“قاتله الله كافراً ما أفقهه”..
فوثب أصحابه -عليه السلام- ليقتلوه، إلا أنّه أوقفهم بقوله:
“رُوَيْداً، إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ، أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْب!”.
وتراه في موطنٍ آخر من تأريخه -عليه السلام-، يختم حياته التي كانت كلها لله سبحانه ولأجله بما ابتدأت به. تراه يوصي ابنيه على قاتله وضاربه، يوصيهما على خارجٍ عليه محاربٍ له، يوصيهما على زاهقٍ عن دين الله سبحانه. فيقول:
“انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَة، وَلاَ يُمَثَّلُ بِالرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ(صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: “إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بَالْكَلْبِ الْعَقُورِ”.
عليٌ -عليه السلام- على فراش مرضه، يئن موجوعا من ضربة شقي كافر. ولكنه وقبل موته ورحيله أبى إلا أن يكون لقاتله نصيبا من الوصاية كي يراعى حق الله سبحانه وحكمه في كل أموره حتى بعد موته.
ثالثا- اجتثاث الشبهات وإقامة الحجج:
كان علي -عليه السلام- في موقع المعلّم قبل المحارب، والناصح قبل المجاهد. فدوما ما كان بنفسه يجتث جذور دعوى الخوارج. فيقلعها بحجج العلم وقواطعه، كي يؤوب من اغتر، ولا ينجرّ من بهم قد استأنس. فلما سمع -عليه السلام- قولهم: «لا حكم إلاّ لله»
قال(عليه السلام):
“كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ! نَعَمْ إِنَّهُ لا حُكْمَ إِلاَّ للهِ، ولكِنَّ هؤُلاَءِ يَقُولُونَ: لاَ إِمْرَةَ، فَإِنَّهُ لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللهُ فِيهَا الاَْجَلَ…”.
وتارة يحاورهم -عليه السلام- وينزل إلى مستوى إدراكهم فيقول:
“فإنْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ أَنْ تَزْعُمُوا أَنِّي أَخْطَأْتُ وَضَلَلْتُ، فَلِمَ تُضَلِّلونُ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّد (صلى الله عليه وآله) بِضَلاَلِي، وَتَأْخُذُونَهُمْ بِخَطَئِي، وَتُكَفِّرُونَهُمْ بِذُنُوِبي! سُيُوفُكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ البَراءةِ وَالسُّقْمِ، وَتَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ”.
بل وتراه -عليه السلام- يبعث لهم من يحاججهم. موصيا مبعوثه بنهجٍ خاص لقطع دابر زعمهم. فها هو -عليه السلام- يوصي ابن عباس عندما بعثه للاحتجاج عليهم فيقول:
“لاَ تُخَاصِمْهُمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوه، تَقُولُ وَيَقُولُونَ، وَلكِنْ حاجّهُمْ بالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصا”.
وحين عاد ابن عباس خالي الوفاض، قام هو بنفسه وتكلّم معهم وخاطبهم ناصحا ومرشدا ومحذرا من فتن الشيطان الرجيم وحبائله. ونصب بعد حديثه رايةً أمام معسكره أعلنها مأوى لكل راجعٍ عن منهج الخوارج وطريقتهم. فما كان من ذلك إلا وأن غربل -عليه السلام- جمع القوم وهدى بنصحه ٨ آلاف رجلٍ منهم من أصل ١٢ ألفا ليبقى من بقي مصرا راضيا على ما هو فيه من ضلال.
رابعا- جهاد أعداء الله سبحانه بلا هوادة:
لم يكن علي -عليه السلام- ليقف مكتوف اليد أمام هذه الشرذمة الضالة التي نسبَت نفسها للنبي المصطفى (ﷺ). ولم يكن ليصمتَ أمام ما رآه منهم من قتلٍ للأبرياء، وتكفيرٍ للمسلمين، وعبثٍ في دين الله سبحانه وأحكامه. بل وبعد أن بان إصرارهم على ما هم فيه من الغواية، ورفضهم للأوبة والهداية، أعمل فيهم سيفه، وأركز في ظهورهم رمحه. فقطع دابرهم، وسقاهم كأس الحتوف والمنون. وضربهم بيدٍ لا تخشى إلا الله سبحانه. فصدق -عليه السلام- حين قال:
“مَصَارِعُهُمْ دُونَ النُّطْفَةِ، وَاللهِ لاَ يُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ، وَلاَ يَهْلِكُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ”.
لقد أباد عليٌ -عليه السلام- آلافهم ومزّق جمعهم. صال فيهم صولات خيبر وحنين والأحزاب، ونقع سيفه من دمائهم وقتّلهم تقتيلا. وكيف لابن المصطفى البار ورضيع الإسلام والوحي أن يقف مكتوف اليد أمام غدةٍ خبيثةٍ أرادت هلاك الإسلام وأهله؟! وطمس آثاره؟!
خامسا- توقّع الدواعش وتعقّب أخبارهم كلّ حين :
لم يكن نهج علي -عليه السلام- مكتفيا بتنكيس ألوية هذه الفئة وقطع دابرها في نهروانه فحسب. بل قالها بضرسٍ قاطع أنّ هذه الزمرة الجاهلة بجوهر الدين ولبّه، لها في كلّ زمان رحمٌ يلدها وأثداء ترضعها. اليوم، وغدا، وكل حين!! داعش نعم (#باقية) هي وفكرها ما دام الشيطان حيّا. ولكن هيهات لها أن (#تتمدد) ما دامت هناك عيونا علوية حكيمة تتقصى تحركاتها وتستأصل أورامها أولا بأول، قبل أن تنتشر فسادا في جسد الأمة. فلما قُتل الخوارج، قيل له: يا أميرالمؤمنين، هلك القوم بأجمعهم. فقال -عليه السلام-:
“كَلاَّ وَالله، إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلاَبِ الرِّجَالِ، وَقَرَارَاتِ النِّسَاءِ، كُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلاَّبِينَ”.