الخطاب أحد مصدري الفعل (خاطب، يخاطب) والمصدر الآخر مخاطبة، وهو يدل على توجيه الكلام لمن يفهم، وقد نقل من الدلالة على الحدث المجرد من الزمن إلى الدلالة على الاسمية. والخطاب يعني مراجعة الكلام , او المواجهة بالكلام , وعلى المستوى الدلالي فالخطاب يعني كلاما او رسالة او محاضرة او نص ما .
لكن الخطاب لا يقتصر على الكلام ، وهذا ما أكد عليه علم العلامات بل يتعداه إلى أمور أخرى، فطن إليها الموروث العربي مثل : الرمز، فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} آل عمران/ 41. ومن عناصر الخطاب –أيضا- الإيحاء وقد ورد في قوله تعالى: { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} مريم/11.، وقد انتبه النقاد العرب القدامى إلى العناصر غير اللغوية في الخطاب، قال ابن يعيش (( والأشياء الدالة خمسة: الخط، والعقد، والإشارة، والنصبة، واللفظ )) ، وقد قسم الجاحظ العلامات إلى علامات ملفوظة وأخرى غير ملفوظة، فليس ((الكلام المنطوق هو الوسيلة الوحيدة التي يعبر بها الإنسان عن مشاعره وانفعالاته وعن حالته النفسية، بل إنه يعبر عن كل هذا-أيضا- بأوضاع جسمه وحركاته وإشاراته)).
ومما تقدم يتضح أن الخطاب أما أن يكون لفظيا أداته اللغة، أو يكون خطابا علاماتيا يستعمل الإيحاءات والإشارات ، ويبدو أن التأكيد كان منصبا على الخطاب اللفظي دون العلاماتي، على الرغم من أن الخطاب العلاماتي -في أحيان كثيرة- قد يكتنز بشحنة تبليغ كاملة.
وقد يرادف مفهوم الخطاب مفاهيم أخرى مثل: النص، والرسالة، والكلام، واللغة، والأطروحة، والحديث، وأسلوب التناول، والسرد، والقول، والحكاية، لكن البعض يضع الخطاب مقابل النص، فالخطاب يمثل التصور المجرد، والنص يمثل التحقق الفعلي لذلك التصور، وبهذا فالخطاب أعم من النص وأشمل منه , فالدكتور محمد عابد الجابري – مثلا – يقرن الخطاب بالنص , فالنص عنده رسالة من الكاتب الى القارئ فهو خطاب والخطاب ايضا بناء من الافكار او مجموعة مفاهيم ، او كلام او كتابة ، بمعنى اخر يمثل الخطاب عند الجابري أي وسيلة اتصال بين المرسل والمتلقي .
والخطاب يرادف الكلام عند سوسير ، وهو آلية ينتجها المتكلم تتجاوز ابعاد الجملة او الرسالة عند هاريس ، لكنها وحدة تفوق الجملة وتولدها لغة جماعية عند بنفسنت ، والخطاب ايضا تنظير بنيوي لمفهوم الوظيفة عند تودورف اذ يربط تودوروف الخطاب بمفهوم السياق ويجترح لذلك مفهوما جديدا يطلق عليه (وضعية الخطاب) ويعني عنده ((مجموع الظروف التي يجري فيها فعل التلفظ (مكتوبا كان ام شفهيا) …نسمي احيانا هذه الظروف السياق)) .
ويستعمل الخطاب لوصف الحديث أو السرد المطول (أطول من الجملة)، وهو المسؤول عن إظهار العالم إلى حيز الوجود بوصفه مجموعة علامات وممارسات تنظم الوجود الاجتماعي وله قواعد غير منطوقة. والخطاب من الوجهة التداولية أما أن يكون مباشرا ويعبر عنه بوعي ، وأما غير مباشر يتولد عن امتصاص خطاب آخر. اما عند هلمسليف فالخطاب يسمى باللغة الشارحة أو الميتالغةmetalanguage.
ويمكن وصف الخطاب بأنه طريقة الجمل لتشكيل نظام في نسق محدد، ومن ثم تشكيل نص أو مجموعة نصوص ليصاغ في النهاية خطابا، أو هو –أي الخطاب- مجموعة دوال لفظية تنتجها علامات.
لقد كان السائد في الموروث العربي القديم حينما يتوجه الخطيب إلى مستمعيه بكلام فيه نصح او إرشاد أو موعظة أو تهديد أن يسمى كلامه بالخطبة، ولم يرد في المدونة العربية القديمة أن فلانا القى خطابا، ولكن مع العصور الحديثة صار من المألوف أن نسمع –مثلا- أن الرئيس سيلقي خطابا، ولا يقال بأنه سيلقي خطبة على وفق العادة، على الرغم من أن مصطلح الخطبة لم يختف تماما، لكنه صار يطلق مضافا لمفاهيم أخرى–كقولنا- خطبة الجمعة، وخطبة النكاح.
ويبدو من استقراء استعمالات مفهوم الخطاب في الثقافة المعاصرة أن هذا المفهوم أخذ بالاتساع إلى الحد الذي صار معه يشتمل على التوجهات والرؤى والأفكار الفردية والجمعية التي تتجسد بالتعبير الشفاهي أو الكتابي أو السلوك العملي بدليل قولهم –مثلا-الخطاب السياسي العربي أو الخطاب الفلسفي،أو الخطاب الأدبي، أو الخطاب النقدي، والمقصود منه شيئا أعم من قولهم: السياسة العربية أو الفلسفة أو الأدب أو النقد العربي.
ولم يتم تحديد مفهوم الخطاب وفلسفته إلا مؤخرا على يد ميشال فوكو (ت1981) ، وهو أمر طبيعي إذ أن تعريف الأشياء وتحديدها منطقيا مسألة تالية لاستعمالها وتداولها، والخطاب عند فوكو ((شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تبرز فيها الكيفية التي ينتج فيها الكلام كخطاب ينطوي على الهيمنة والمخاطرة في الوقت نفسه)).
والخطاب على وفق هذا المعنى هو المقابل الحرفي للمصطلح الإنكليزيdiscourse الذي يترجم أحيانا إلى: الكلام أو الحديث ويشير إلى معان أخرى تدل على عملية تبادل الأفكار،أو هو ((مجموعة كبيرة من الأقوال أو العبارات)). ويتصف الخطاب عند فوكو بمراوغته وعدم وضوحه وضوحا تاما، فهو –أي الخطاب- ((ما يتبدى في الأشياء بوصفه قانونها الداخلي، والشبكة السرية التي ينظر من خلالها، بمعنى ما – بعض هذه الأشياء والبعض الآخر، وما لايوجد إلا عبر شبكة أو انتباه أو لغة، وفي الخانات البيضاء من هذه المربعات فقط يظهر النظام في الصمت كأمر كان هناك أصلا، منتظرا بصمت لحظة الإعلان عنه)) ، ومعنى هذا أن الخطاب يرتكز على نسبية الأفكار بوصف تلك الأفكار مجموعة من الرموز يمكن من خلالها فهم العالم وإنتاجه لسانيا وثقافيا، أي ان الخطاب يمثل نظاما رمزيا لتمثيل العالم دلاليا.
وتكمن أهمية دراسة الخطاب عند فوكو في أنها وسيلة لتجريد الحقيقة التي تمارسها الأفعال الخطابية الجدية بل أن دراسة الخطاب تحاول تجريد ادعاء المعنى للممارسة الخطابية بغية الحفر (اصطلاح فوكوي) عن المعاني المسكوت عنها أو المتوارية خلف تلك الأفعال والمعاني الظاهرة والمعلنة.
وبحسب مفهوم فوكو للخطاب فإن لكل مجموعة من النقاد خطابهم الخاص المتمثل في منظومة المفاهيم والأفكار التي تمارس هيمنتها في حقلهم الإنتاجي.
والأمر ذاته ينسحب على كافة حقول المعرفة في كل الأزمنة، ومن هنا يمكن تفسير إفادة إدوارد سيعد من مفهوم الخطاب في دراسته المهمة (الاستشراق)، الذي من خلاله أكد على أن الغرب قد تعامل مع الشرق على وفق منظومة مفاهيمية شكلت خطابا خاصا أنتج صورة للشرق تتسم بأنها صورة غربية بحتة.
وفي الحقيقة لا يوجد للخطاب معنى محدد، فالمفهوم الضيق يدل على حوار بين متحدثين، أو هو الطريقة التي يتم بها التأليف بين العناصر اللغوية لكي تشكل نظاما للمعنى أكبر من مجموع أجزائه، ومرة أخرى فإن الخطاب قد يكون وسيلة لإنتاج المعاني، وعند ليوتار فإن الخطاب أمر جوهري في تنظيم المعنى، وهو يشترك بهذا مع فوكو في أن اللغة ضرورية بوصفها خطابا نحاول من خلالها فهم قضايا الثقافة والمجتمع.
مما تقدم يمكن أن نستنتج أن الخطاب بوصفه مفهوما معرفيا أعم من الكلام وأغزر منه في المضامين الفكرية التي يحملها، ومن هذا المنطلق يمكن فهم ورود هذا المصطلح في عنوان هذه الأطروحة، فإن الخطاب النقدي العربي المعاصر يراد به كل ما أنتج على صعيد النقد الأدبي مع مايتضمنه ذلك المنتوج من أبعاد فكرية وحضارية تتصف بالملامح الفكرية للإنسان العربي المعاصر.
يتميز الخطاب بعدم تجانسه وتعارضه مع الخطابات الأخرى، بل اختلافه من موضع لآخر، ومن سياق لآخر ومن طبقة اجتماعية لأخرى، لذلك انطلق البحث في هذه الإشكاليات في فرنسا في سبعينات القرن المنصرم مما ترتب عليه رفض النظام الثابت للغة؛ فالكلمات والعبارات والأقوال جميعا تغيّر معناها على وفق أوضاع المتكلمين وبهذا المعنى فإن دراسة الخطاب تجاوزت المقولات البنيوية القائلة بالبنى الثابتة.
ويمكن أن نعود بمصطلح الخطاب إلى النقد الجديد الذي استعمل مصطلحات مثل الخطاب الروائي مقابل الخطاب الشعري، وبهذا فالخطاب على وفق النقد الجديد يشير إلى الفروق النوعية بين الأجناس الأدبية ويؤسس للهويات، فكل خطاب له هوية تميزه عن غيره.
ومع الاهتمام بالدراسات الألسنية ركز الاهتمام على النظر في مقومات الأداء اللغوي في الخطابات المتنوعة، إذ أصبحت دراسة الخطاب تتركز حول حجم الخطاب، هل هو الجملة أم انه يتجاوز ذلك؟ بمعنى آخر دراسة الصلة بين الخطاب بوصفه نشاطا فاعلا والإيديولوجيا بوصفها تمثل وعي المستخدمين للخطاب.
والواقع أن الاهتمام بالخطاب تحول إلى حقل معرفي مستقل يطلق عليه (تحليل الخطاب) وأهم منظريه: هاريس صاحب مصطلح تحليل الخطاب، وايستهوب الذي أكد على التمييز بين الخطاب واللغة، وفوكو الذي أكد على أن ذيوع النظريات وشهرتها لا يحصل ما لم تجمع عليها مؤسسات العلم وأجهزته، وضرب مثلا لذلك: التعامل مع المجانين في أوروبا في العصور الوسطى.