يمتلك الخطاب العقلاني الديني مساحة متدنية في الوجود الواقعي بالمجتمعات العربية و الاسلامية , إذ عادةً ما نجد ان الهيمنة للخطاب المُلغي المتشدد و المحرض على البغض و الكره , لغة الظغينة التي ينفثها المشايخ أنتجت جيلاً يفكر بإحادية و يؤمن ان لا وجود للبشر على هذه الارض, الا أولئك الذين يؤمنون بالاسلام و المذهب الذي عليه ذلك الجيل الذي سُلب منه عقله .
لا أستغرب من حالة التطرف في مجتمعاتنا العربية و الاسلامية لكني أستغرب من حالة الاعتدال و الموازنة, التي تشح و تتلاشى بين الاصوات التي تدعوا للقتل و الاقصاء. المجتمع الذي لا يخلو فيه شارع او زقاق من مكبرات الصوت التي تزدحم فيها الخطب و المواعظ و الارشادات و الاشارات الدالة على أن الاسلام يتعرض لمؤامرة , مؤامرة أريد لها ان تمر دون معرفة ماهيتها و مركزها , لكن المستفيد الاول هو من يشيع ثقافة المؤامرة نفسها .
قبل مدة زمنية كنت اشاهد الشيخ التونسي عبدالفتاح مورو وهو يخطب , خطبته الحماسية الواقعية و يحث متابعيه على استخدام الفكر كوسيلة منجية مما نحن فيه , قال الشيخ مورو في ذلك الخطاب:
(المدرسة التي من شانها ان تكوِّن مغيري العالم هي مدرسة الفكر, هي العلوم الانسانية التي هجرها الاسلاميون فهجرها الكثيرون من الناس.
مشايخ يعتنون بنواقض الوضوء و اخرون يجيّرون لحكام ظلمة يطلبون منهم فتاوى فيفتون و اخرون قابعون على ساحة الحياة يتكلمون عن الجن أنثى هو أم ذكر . من للشعوب اذا كان علماؤها يقبعون في وادي عبقر عند الجن؟ واذا كان مثقفوها لا ينظرون الى الواقع نظر المخالط له .أقول لكم أيها المثقفون يا صناع العقول , إصنعوا عقولاً في أمة العرب , التقدم لا يأتي بكثرة الاطباء و كثرة المهندسين و إنما يأتي بمن يدرك كيفية التغيير , لن تغيروا العالم بكتب فقهٍ تغيرون العالم بعقول واعية مدركة تتبنى القيم و تدرك ان القيم هي كرامة الانسان )
أذهلني هذا الخطاب العقلاني الواعي و القادم من أرض ابن خلدون, حتى اني نشرته في موقعي . عندها إنتابني إصرار على ملاحقة الرجل فيما يقول او يحاضر . قبل شهر تقريباً تلقيت دعوة من الناشط في القضايا الانسانية الاستاذ مثنى عبيدة لحضور حفل خيري , سيكون المتحدث الرسمي فيه الشيخ عبدالفتاح مورو, و في الموعد المحدد 04-14-2017
ذهبت الى حيث الحفل , وفي زحمة الناس استقبلني شخص في الخمسين من العمر, قال انت مصطفى العمري ؟ قلت نعم قال تفضل الى القاعة شكرته لأنه سهل عليّ أسئلة الاستعلامات , دخلت و مجاميع من الرجال و النساء جالسون و واقفون , أقبل نحوي الاستاذ مثنى و بوجهه المشرق و ابتسامته الدالة على إنسانية متأصلة في ذاته , عانقني و رحب بي كثيراً , ثم قال لي اليوم حدثت الشيخ مورو عنك و قلت له ان الاستاذ و المفكر العراقي مصطفى العمري سيحضر الحفل , و العمري عنده كتابات ينقد فيها الخطاب و النص الديني . شكرته ثم جلست ,بعدها بدقائق قليلة , أقبل نحوي شخص سلم وما كاد ان ينهي سلامه حتى بادرني بلغة أميل الى الشدة : لماذا يا استاذ تكتب عن الاسلام بهكذا طريقة و اسلوب ؟ أنت تحاول إرضاء النصارى! و بلغة مستعجلة حاول ان يقول ان السنة النبوية خط أحمر و ان أغلب كتاباتي تتحرش بالسنة و النص الديني عموماً . حاولت ان اتكلم لكي اسكته فلم يسكت , لكني قلت له لا استطيع الحديث معك اذا أصريت على المواصلة بهذه الطريقة .
و بعد حديث قصير عرفت ان الشخص يتكلم بعاطفة و ليس بعلم , فواصلت حديثي معه عطفاً مني عليه و أعتقد انه أدرك ذلك .
لحظات و اذا بالشيخ مورو يطل علينا فانقطع الحديث الاول ,لكن حديثاً أخراً قد بدأ مع الشيخ ترتفع فيه لغة العلم و الثقافة وهم المجتمع الذي ننتمي له , جلسنا سويةً ما يقارب الثلاث ساعات , دُعي خلالها الشيخ لإلقاء خطاباً ففعل , قال منتقداً عدم تفاعلنا مع القضايا المهمة و المصيرية , في الغرب الذي نسكن فيه ، لم يسؤنا نحن المسلمون قتل أمريكي اسود في شيكاغو يدعو لحرية الانسان , لم يُخطب في مساجدنا لإدانة إغتيال مارتن لوثر كينغ . حاول و بإشارة ذكية ذكر حادثة الرجل القبطي الذي ضربة ابن عمر بن العاص ثم حث الناس على التفاعل و الاندماج و الانخراط في بلدان الغرب لأنها آوتهم و وهبت لهم الحياة .
عاد الشيخ من خطبته ثم دار بيننا حديث عن إمكانية نقد المقدس في التراث الاسلامي , إمكانية النقد التي أوهنها رجال الدين بطابع القداسة ،حالت دون الوصول الى جزء يسير من التقدم الفكري الذي يحث عليه الشيخ مورو .
إكتشفت ان الشيخ يؤيدني في كثير مما أذهب اليه و أكتب فيه , لكننا إختلفنا في نقطة مهمة , تعمدت إثارتها فكنت حريصاً على ان أهمس في كل سؤال و يهمس هو في الجواب, كنت أخشى ان يسترق السمع احد المحيطين بنا, فجأة واذا بإحد المشايخ المصريين الجالسين معنا , يقطع حديثنا و يخاطبني يا استاذ ” خليني أجاوبك على هذه الاسئلة الكبيرة” فاكتشفت ان بعضهم كان يسمع ما نقول و أدركت مخاطر الحديث مع عوام الناس , لكن الشيخ عبدالفتاح و بأريحية فيها نهر ،قال لذلك الشيخ , يا اخي انا و الاستاذ نتحدث انت لا علاقة لك بالموضوع ! كان هذا الجواب مريحاً على قلبي المتورم من صعلكة رجال الدين و جهلهم و ادعائهم الاحاطة بكل الاشياء .
الشيخ مورو يملك إنتقادات للنص الديني و للخطاب الديني , يساعده في ذلك خبرته و تجربته مع الواقع , فهو يحاول رفع الناس الى حيث الفكر و التقدم لا الى حيث يوجد التاريخ و القتل و الالغاء وهو القائل : لن تغيروا العالم بكتب فقهٍ تغيرون العالم بعقول واعية مدركة تتبنى القيم و تدرك ان القيم هي كرامة الانسان .
شكرًا لرئيس الجمعية العراقية في مشكن الاستاذ مثنى عبيدة ، لهذه الدعوة و لهذا اللقاء .