(نموت كي يحيا الوطن يا سيدي انفلقت حتى لم يعد للفلق في رأسي وطن) احمد مطر.
يمكن اعتبار الملفوظ الروائي او ما تقوله الرواية هو مكان للخطاب المزدوج ، اي في جزء منه هو خطاب إخباري مفهومي بحت وفي جزئه الأخر هو خطاب يعتمد إغراءات المتخيل الفني والأدبي الذي ينفتح بدوره على الأنساق الثقافية المضمرة لدى الكاتب نفسه والتي تتضح بشكل أكثر من خلال السرد حصرا . فبينما يسعى تحليل مضمون الخطاب الإخباري الظاهر الى البحث عن الأدوات المناسبة للإمساك بتقنيات النص والأفكار كمضمون ظاهر الا انه لا يمنع الكاتب من السعي الى دفع الخطاب الى دلالات عميقة كمضمون كامن ما بين السطور وبالتالي على الروائي والمتلقي في وقت واحد ان يعيدوا السؤال المحوري والأساسي : ماذا يريد النص ان يقول ؟ ، هل يبحث النص عن معنى ظاهري شكلي ،ام عن معنى ثقافي عميق ؟ .
في رأينا ان اي نص روائي مهما كانت توجهاته وتقنية بنائه هو حامل لخطاب مزدوج قابل للتأويل والتقويل وذلك لان الفن الأدبي بشكل عام والروائي بشكل خاص ذو طبيعة تتعدد فيها الدلالات والمعاني والرموز فلا وجود لمعاني أحادية المعنى مثلما لا وجود للغة احادية القيمة وعليه ،فالسؤال الذي نسعى الى البحث عنه هو : هل استطاع الروائي العراقي ان يعي طبيعة هذا الخطاب المزدوج وبالتالي تحقيق هذا التجانس بين البنى الفوقية الثقافية والبنى التحتية الاجتماعية ام ظل يرزح تحت ازدواجية الأيدولوجي والسطحي وبالتالي اوقع نفسه وأدبه في فخ التنظير الأيديولوجي .هذا ما سنحاول البحث عنه في رواية ( فندق كويستيان) للروائي ( خضير فليح الزيدي ) والتي صدرت سنة ٢٠١٤، عن دار الحريري للنشر والتوزيع ( بيروت) .
في هذه الرواية نجد ان هناك علاقة عضوية واضحة بين الواقع والتاريخ ،فمنذ البدء يستعين المؤلف بنص جندي أمريكي مترجم يصف احداث العراق بعد ٢٠٠٣ يقول : ( ما إن مرت لحظة على الانفجار حتى راح رجل عجوز يترنح داخل سحابة من الغبار وشظايا الحجر ، يداه تضغطان على أذنيه النازفتين ، …. رأس سندان اسود يتدفق صاعداً وقوده كتاب الأغاني للأصفهاني ومراثي الخنساء) وكأن المؤلف يعيدنا الى نفس أحداث سقوط بغداد على يد المغول في إشارة واضحة على جسامة ذلك الحدث وكأن التاريخ يعيد نفسه اليوم ولكن بأسماء وأدوات جديدة . اعتمد خضير فليح على الواقعية في السرد اي بوصف الأماكن و الحياة كما هي في محاولة منه لإعطاء قيمة حقيقية للأحداث التي يتبع في سردها طريقة التذكر او الإرجاع او كما يسميها بالسير عكس عقارب الساعة وكأن هذه الاحداث هي من الماضي ، ( سأقص عليكم حكايتي بعكس كل قصص الناس من النهاية حتى البداية ) توزع فعل الروي ما بين ابطال الرواية ناصر رشيد فوزي كردي القومية، وعلي عبد الهادي بندر عربي شيعي، ورباب حسن حبيبة ناصر الغير معلنة عربية سنية. يسعى خضير فليح في الرواية الى جعل التقابل بين هذه الشخصيات هو تقابل رمزي دلالي واقعي كون ذلك التقابل يساهم في تحفيز النص كما يسميه ( بوريس توماشيفكسي) لان الكاتب يريد إعادة التذكير بنموذج سابق وهو انموذج التآخي ما بين هذه العينات المختلفة الانتماءات والتوجهات لكن انتهت فيما بعد الى اقتتال وتشريد وكره اعمى فيما بينهما .يعتمد خضير في بناء الإحداث على ثنائية الحياة والموت كثيمة أساسية في جميع اجزاء الرواية ففي اتصال ما بين ناصر وعلي يكشف الحوار عن هذه الثنائية يقول علي لناصر ( تريد ان تأتي الى بغداد ….. المفخخات ونزف الحكومات المراهقة ، البلد جحيم لا يطاق) ورغم ذلك يظل ناصر يصر على العودة مبررا ذلك بالحاجة الى طبع المخطوطة التي تركها عند صديقه علي و الهرب من العراق اثناء الحرب العراقية الإيرانية والتي دون فيها تفاصيل عن الجحيم الذي كان يعيشه في الحرب التي وزعت قساوتها على الجميع بالتساوي. لذلك يضعنا المؤلف امام رواية داخل رواية او نص موازي لنص لم تكتمل نهايته بعد رواية ولكن بنفس الاحداث ونفس الدمار والتدمير في الرواية الحقيقة، تعمد الكاتب تسميتها بالمخطوطة اذا نحن امام روايتين تكمل بعضها البعض وترمزان الى ثنائية الموت والحياة التي استطاع الكاتب من الإشارة لها بلعبة الحية التي ترمز للموت والدرج الذي يرمز للنجاة ومن ثم الحياة يقول ناصر : ( مؤمنا بحتمية لعبة الحية والدرج بنسختها العراقية … حيث صعدوا لأعلى سلم حياة المنافي الهادئة ثم سرعان ما هبطوا فجأة في فخ بين فكي أفعى الوطن وذيلها الذي ينتهي الى مربعات حضيض الحياة) لذلك اعتمد الكاتب في سرد الأحداث بشكل متسلسل مابين بغداد وبرلين معتمدا على زمن دائري مكثف مابين المخطوطة التي تسرد الأحداث فيما قبل المنفى والرواية التي تسرد الاحداث بعد الرجوع من المنفى كما يحلوا لناصر رشيد ان يصفها فتشابه الاحداث في المخطوطة والاحداث داخل الرواية الحقيقية تدفعنا الى ان نعي كيفية تحول الحاضر الى ماضي : (يا اخي الماساة نفسها والجثث المرمية نفسها سواء في الأمس او اليوم ..نحن جثث تمشي على الارض )هذا تأكيد على ان الماضي مكمل للحاضر فيقتل ناصر على يد إحدى المليشيات المسلحة في حي الجهاد أثناء ذهابه للقاء حبيبته التي ظل طول فترة اغترابه في برلين مولع فيها حتى مقتله من اجل رؤيتها وهو يعلم خطورة حي الجهاد ذلك الحي الذي صار رمزا للقتال الطائفي بين جميع اطياف الشعب العراقي ،فيقتل ناصر على يد مليشيات لا تفقه غير القتل لكل أشكال الحياة والحب اذا هو موت رمزي لما يحمله الحب من دلالات نفسية واجتماعية في مجتمعات تحولت كلمة حب فيها الى اتهام وإدانة، يصف علي ذلك المشهد ( انجزت المهمة ودخلت البراد الجديد .. ترادفت الصور القديمة دفعة واحدة .. التقينا أنا وناصر في حجرة البراد المركزي للمرة الثانية ) . لو حاولنا البحث عن طبيعة الخطاب او ما يحمله الخطاب من مضمون ظاهر ومضمون كامن سنجد ان لغة الخطاب كانت تتحرك باتجاهين متوازيين الاتجاه الأول هو اتجاه من الداخل الى الداخل اي محلي ان صح التعبير متمثلا في الصراع الطائفي والعرقي ما بين مكونات البلد الواحد والذي أفضى في النهاية الى استدعاء للأحداث التاريخية الأخرى ذات الطبيعة العدائية، اما الاتجاه الاخر هو اتجاه من الداخل الى الخارج ممثلا في الحرب العراقية الإيرانية والاحتلال الأمريكي للعراق والذي أزهقت بفضله أرواح وأحلام وطموحات كبيرة. لذلك نجد ان الكاتب وفق في جعل الرواية تحمل خطاب مزدوج ، في ظاهره ادانة المجموعات العرقية والمذهبية والثقافية التي تورطت دون وعي منها بصراع تاريخي غبي خلف دمار وتخريب صنعته السياسة الرعناء ، فهو خطاب يحدد اشكالية الاقتتال والتهجير مابين الداخل نفسه( اذا لم يكشف الاسم الثلاثي هوية الشخص الواقع في شبكة السيطرة الوهمية وقالوا (( لا فتى …(قل لهم فورا( إلا علي ولا سيف الا ذو الفقار ) اما اذا قالو (الفاروق )) فقل لهم الخليفة عمر بن الخطاب ) وهذه الخطاب الظاهر يكشف حجم التفكك والانقسام الاجتماعي في بلد كان التآخي هو السمة الأقرب مابين أفراده، اما الاتجاه الاخر للخطاب فيتجه من الداخل الى الخارج و يكشف اشكالية النظام السياسي الايديولجي مع محيطه الإقليمي والعالمي الذي تعمد قتل كل مبادئ الوطنية في المجتمع العراقي في كل حرب يدخلها مرة باسم الوطنية المزيفة ومرة بِسْم القيم العربية (أنا وعلي وبعض المنتسبين من جند المركز نعرف اسرار هذا العلم العراقي ( كذب ليس رمزا للكرامة ولا بطيخ ) ..انه مجرد خرقة ملونة تتبول عليها كلاب المركز السمينة عندما يشُح الماء ) . ان جميع المدلولات الأدبية والرمزية تؤشر على إننا إمام رواية تحاول العودة بالواقع الى التاريخ وبالتالي نحن امام أعادة لإنتاج خطاب مسكون بحتمية الفجيعة وحتمية الاقتتال والتناحر مابين أبناء البلد الواحد لأننا شعب يعيش من اجل الماضي والتاريخ لا من اجل المستقبل . ما يؤخذ على الرواية هو افتقارها للخيال الفني والأدبي في الكثير من مفاصلها حتى انها تكاد تكون أشبه بتحقيق صحفي يومي فجائعي بحت اي كتبت بأسلوب مراسلي الحرب ينقل وقائع واحداث دون لمسة فنية وأدبية مما أضفى على النص الطابع التقرير البحت .
في الختام ما نود تأكيده ان خضير فليح قد استطاع عبر روايته ( فندق كويستيان ) ان يضع المتلقي امام حقيقة المؤامرة التي حيكت حوله منذ زمن ونجحت في تحقيق مرادها . لسبب بسيط هو من يعيش بوعي الماضي والتاريخ يكون إنسان هش يسهل التلاعب به والتآمر عليه هذا من جانب اما الجانب الاخر ان نمط الخطاب الروائي العراقي هو نمط يميل لاشعوريا لتكريس النمط التاريخي الفجائعي كنسق ثقافي مضمر في الشخصية العراقية وبتالي سعى الروائي العراقي عبر تمثله للسرد الأدبي الى تكريسه هذا النمط الثقافي عبر النص الأدبي اكثر من غيرة وعليه فأن طبيعة الخطاب الروائي في العراق تتشكل عبر وعي جمعي فجائعي بحتمية عودة المأساة التاريخية مرة اخرى لان التاريخ يقول ذلك ولأننا فشلنا في أصلاح ثقافاتنا ومجتمعاتنا.