18 ديسمبر، 2024 11:19 م

الخطاب البشري بين التعالي والتواضع

الخطاب البشري بين التعالي والتواضع

يتنازع النفس البشرية لونان من الخطاب؛ خطاب متعالٍ وآخر متواضع، وبين هذين الخطابين مساحة واسعة للنظر والتدبر وفرصة عظيمة للاختيار، ولا أحسب أن هناك من يجادل في تلك الحقيقة التي يعيشها كل إنسان في كل موقف يمر به ويعيش تفاصيل أحداثه، وليكن المرء صريحاً صادقا مع نفسه: إن ميله النفسي دائما مع خطاب التعالي؛ لأنه يرى فيه الأنسب للانتصار لنفسه، ويرى بوضوح لا يشوبه الشك أن خطاب التواضع هو خطاب انهزامي دال على الضعف والذلة، وهذا هو الفارق الكبير والواضح بين أن يكون المرء مبعوث السماء، وبين أن يكون غيره بغض النظر عن كونه مؤمنا أو غير مؤمن، فالأنفس الوحيدة التي مالت إلى خطاب التواضع هي أنفس المبعوثين من السماء ولذلك استحقوا بميلهم هذا إلى أن يكونوا خلفاء الله وحججه.

والبداية الواضحة والظاهرة للخلق كانت في خلق نفس آدم(ع)، طينة رُفعتْ من عالمها المادي إلى عالم الملكوت، وهذا الرفع رفع تشريف وتكليف، ولذلك لما كانت تمر به الملائكة تقول: لأمر ما خُلقتَ؟! وقولها يُظهر الاستفهام ويستبطن العجب لحال هذا النفس المخلوق؛ من جهة هو مرفوع، ومن جهة أخرى موضوع بباب الجنة يطؤونه أربعين يوماً ….

لعل من هذا الموقف يمكن أن يقرأ كل منا: إن هذه النفس هُديتْ النجدين؛ نجد التعالي الذي غُرس فيها بالرفع، ونجد التواضع الذي غُرس فيها بطرحها في باب الجنة ووطئ الملائكة إياها أربعين يوماً ـ بحسب ما ذكرته الرواية الشريفة عن آل محمد(ص) ـ والهداية هنا هي التعريف والبيان، مع الالتفات الى أن اختيار الله سبحانه لها هو التواضع، أمّا رفعها لباب الجنة فلعل الهدف منه تعريفها أن هذا الموضع لا تبلغه إلا بقبول التواضع الذي عبّر عنه فعل الملائكة معها على باب الجنة.

وبحسب ما أفهم أن النفس الإنسانية موقوفة على باب الجنة، إما أن تدخلها بالتواضع أو تخرج منها بالتعالي، وكما اختبرت النفس الإنسانية بذلك، فالاختبار نفسه جرى على الملائكة في أمرها بالسجود لتلك النفس التي كانت تطؤها أربعين يوماً، وكانت تعجب لطرحها بباب الجنة، وخرج من هذا الامتحان فاشلا رمز الخطاب المتعالي المتكبر وهو إبليس(لعنه الله)، فكان هذا الامتحان امام عين النفس الإنسانية بياناً لها أن لكل اختيار نتيجته وعاقبته، ففاز الملائكة بالتواضع والسجود، وخسر إبليس(لع) بالتكبر والتعالي.

ما دفعني الى الكتابة بهذا الموضوع هو خطاب اليهود لمريم(ع) عندما جاءتهم تحمل المسيح(ع)، ماذا قالوا لها؟ ولماذا؟

قالوا لها: يا أخت هارون …..

وقولهم هذا كان في سياق الاحتجاج عليها، وخطاب الاحتجاج غالباً ما يتمظهر بالتعالي عندما يكون عارياً من البرهان والدليل! لماذا؟ لأنه خطاب يستبطن دونية المخاطَب (بفتحة على الطاء)، وعلوّ المخاطِب عليه (بكسرة تحت الطاء)، ولو كانوا غير متعالين في الخطاب عليها لما خاطبوها بأخت هارون، فهم بخطابهم هذا ـ بحسب ما أفهم ـ يقولون لها: أنت من نسائنا وهن شبيهات الطاهرة مريم(ع) أخت هارون النبي(ع)، فكيف خالفتِ هذا النهج وهذه السُّنة؟!

وهذا الفهم يأخذ دلالته من قولهم لها: وما كانت أمُّكِ بغيا!!! أي أنّ أمك كانت على نهج أخت هارون، فلم تكن بغيا، ولعل خطاب التعالي ينكشف أكثر بإبعاد نسائهم عن سياق الخطاب وحصره في عائلة مريم(ع)؛ أمها وأبوها، وخلف هذا الحصر تسكن شهادة الله سبحانه لهذا البيت الطاهر المطهر، فهم من حيث أرادوا التنكيل بها شبهوها بالطاهرة مريم أخت هارون(عليهما السلام)، وتلك شهادة لها وليست عليها، وشهادتهم بطهارة أبويها خير دليل على ذلك، فهم نزّهوها من حيث لا يريدون، لأنهم شغلوا أنفسهم بإعداد خطاب التعالي الذي يجعلهم في مقام الحاكم ويجعل مريم المقدسة(ع) في مقام المتهم المحكوم عليه!!

ولنتنبه على أن خطاب التعالي غالبا ما يلبس لبوس الاحتجاج، ولكنه احتجاج سرعان ما ينكشف زيفه ويخذل الله سبحانه صانعيه والمتمسكين به، لقد كان رد مريم(ع) صاعقاً لهم، فلم تكلف نفسها بالرد عليهم خطاباً، بل قهرتهم وأذلت كبرياءهم بالإشارة إلى وليدها بتواضع بين يدي الله وثقة به سبحانه، لتبينَ لهم قيمة الاحتجاج الحقيقي المستند إلى الحجة والبرهان، فجاءهم الرد من الوليد مزلزلا، إذ كان رد عيسى(ع) هو الحجة لمريم(ع) بأنها ـ حقاً وصدقاً ـ شبيهة مريم أخت هارون بن عمران(عليهم السلام)، قال تعالى{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}(مريم/28-33).

هاتان صورتان من الحِجاج يعرضهما القرآن الكريم أمام أعيننا ليتبين لنا بوضوح تام صورة كل خطاب، ولنزن خطاباتنا بهذا الميزان الإلهي لنعرف مع أي الخطابين نميل؟