ان الخطاب الامريكي استمد افكاره في التعالي والتفوق من الفكر الفلسفي القديم في اوربا ، إذ استمد واقعه من مرجعيات فكرية وفلسفية وسياسية وغيرها في الساحة الثقافية الغربية منذ تأسيسها لتثبيت معتقدات تبرر تفوق الجنس الغربي عامة والأمريكية خاصة ، إذ عمل الخطاب الامريكي على تأكيد مفهوم (التراتبية العرقية)،الذي أطلقه المؤرخ (مايكل هنت) “في التعامل مع ما اصطلح عليه تسميته بـ(العالم الثالث) ، منذ (1900) كان (هنت) يقول إن العرقية الانجلو ساكسونية والدارونية الاجتماعية قد تفاعلت في العقل الجمعي الأمريكي لتوليد خريطة ذهنية قوية ، متوقع أن تتحكم القوى المتحضرة فيها – الولايات المتحدة وأوربا الغربية – في جماعات دنيا من المتخلفين وربما البدائيين من الآسيويين واللاتين والهنود الأمريكيين والأفارقة، وبذلك اصبح مفهوم (البقاء للأقوى) الذي جاء به (داروين) أساساّ في الثقافة الامبريالية الأمريكية التي حاولت توظيفه بشكل ملموس في أرض الواقع وخصوصاً على الآخر. إذ عملت الامبريالية الأمريكية على وفق خطاب ثقافي موجه إلى العالم أجمع من اجل تحويل هذا المفهوم من مجرد مقولات الى تطبيق فعلي على ارض الواقع.
كذلك عمل الخطاب الكولونيالي الجديد في توظيف مفهوم آخر لتبرير قوة وتفوق (أمريكا) عالمياً من خلال (القوة في إخضاع الآخر) والناتج عن السلطة في مفهومها (البراغماتي) الذي دعا إليه (تشارلس بيرس) الذي ساهم في تبرير منهج السلطة ويصف بيرس منهج السلطة بقوله : (لندع إرادة الدولة تعمل بدلاً من إرادة الفرد. ولننشئ مؤسسة هدفها أن تضع نصب أعين الناس مذاهب صحيحة ، تجعلهم يرددونها ويكررونها دائماً وأبداً ودون انقطاع وتلقنها للصغار) ، بحيث تتحول هذه المفهوم إلى عقيدة أمريكية أسهم على وفق منطق القوة والسلطة تلقينها الشعوب خارج حدودها الجغرافية ليتحول مفهوم ثقافي كوني ينشر إلى العالم الآخر الذي يعد في منظور الخطاب الثقافي الأمريكي قاصراً ، وهذا ما أشار إليه بعض رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية ومنهم (جورج واشنطن) و (توماس جيفرسون) و (جون أدمز) الذين اعتبروا استيطان أمريكا الشمالية هي تحقيق للمشيئة الإلهية وكذلك اكد (روزفلت)( أن أمركة العالم هي مصير امتنا ).
وفي ضوء هذا المنظور الامريكي تداخلت مفاهيم القوة والسلطة والبقاء للأقوى والأصلح مع التبريرات الدينية عند بعض الرؤساء الأمريكان ، وهذه التبريرات الدينية مستمدة في الفكر الأمريكي من أقوال (كالفن) الذي رأى بأن الشعوب الغربية هي صاحبت عقلية أسمى من كل شعوب الأرض الأخرى ولهذا السبب جعل الديانة المسيحية (البرونستانتية) هي أرقى الديانات العالمية بسبب أن العرق الذي ينتمي إليها هو العرق الأبيض الذي يعد الأفضل وتحديداً ذي المذهب البروتستانتي ، ويرى(كالفن) : أن العرق الأبيض ذي المذهب البروتستانتي هو محور البشرية وهو شعب الله المختار ويحق لهم نشر السيادة على العالم.
إن هذه العقلية الموسومة بعدد من المفاهيم الاستعلائية جعلت الرؤساء الأمريكان الذين ذكرهم البحث ،بالإضافة الى (ماكلينملي) الذي رأى أن سيطرة أمريكا على جزر الفلبين هي هبة من الله الذي الهم الرئيس ، وجاء ذلك في لقائه مع عدد من القساوسة البروتستانت الأمريكان ، وهذا ما تكرر في بعض خطابات الرئيس الأمريكي (جورج بوش) في حروبه الحديثة في الشرق ، والتي كانت مبنية على رؤية أمريكية سابقة بأن الأمريكان هم (شعب الله المختار) وهم رسل الله إلى الحياة مستندين بذلك إلى الفهم المتطرف للبروتستانتية في فهم النصوص الدينية المسيحية.
استناداً للرؤى الأمريكية وخطابها انتجت ثلاث نظريات على وفق المفهوم الكولونيالي الجديد وظفت ضد الآخر الشرقي وخصوصاً في المنطقة العربية ، حيث أصبحت هذه النظريات جزء من المنظور الإستشراقي الأمريكي ، والمؤسسات الغربية وهذه النظريات هي:-
أولاً :- نظرية صدام الحضارات :
التي أطلقها (صامويل هنتنجتون) من خلال كتابه الذي عرف (بصدام الحضارات) ، الذي رأى فيه أن العالم الجديد والنظام العالمي يتجه إلى المرحلة الأخيرة من الصراع بين الحضارات الستة العالمية (الغربية ، الصينية ، اليابانية ، الهندية ، الإسلامية ، الإفريقية) ، حيث وضع (هنتنجتون) الحضارة الإسلامية ومركزها العالم العربي طرفاً في كل صراع مع أي من الحضارات الباقية معتبراً إن الحرب التي حدثت في أوربا ومنها الحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الباردة هي حروب لا ترتقي لصدام حضارات بل أن عصر صدام الحضارات يقوم على أساس مما أمتازت به كلّ حضارة عن الأخرى من حيث الجذور الدينية والاجتماعية والعادات والتقاليد واللغات التي تميز امة عن غيرها والتي تسهم في بلورة ذاتها المغايرة للأمم الخرى وهذه الفوارق بين الحضارات هي في نظر (هنتنجتون) ، أساسية وثابتة في تكوين الامم عبر تاريخ طويل لا يمكن تغيرها ، لذلك سعت الولايات المتحدة من جعل الصراع بين الإسلام والغرب ، هو الصراع الأساسي لها الأكثر امتداداً ابتداءً من الحروب الصليبية ورؤيتها الدينية التي تبناها الساسة الأمريكان إلى الوقت الحاضر ، لهذا جاءت رؤية (هنتنجتون) بأن الإسلام هو المحور في كل صراع وذلك من أجل جمع أكبر عدد من المؤيدين لأمريكا وخطابها الجديد.
ثانياً :- نظرية الفوضى الخلاقة :
تقوم هذه النظرية على ثنائية الهدم والبناء ، إذ عملت الإدارة الأمريكية على وفق خطابها الكولونيالي الجدي على بناء (شرق أوسط جديد) كان (العراق) العينة الأولى فيه لتطبيق هذه النظرية ، حيث عملت أمريكا على جعل (العراق) يمر في مرحلة التدمير أولاً ثم البناء وقد أغرقت العراق في حالة من الفوضى التي يرافقها أزمة نظام وأزمة هوية وتخلف ، وأدخل البلد في مرحلة جديدة غير واضحة المعالم والنتائج ومفتوحة على كل الاحتمالات ويرافقها عدد من المشاريع لضمان استغلال الفوضى البناءة في إطار المصلحة الأمريكية فيما يسمى العالم الجديد، التي تقتضي بتحويل العراق إلى نموذج محاكي وتابع للأصل الأمريكي ، وذلك من بعد محاولة هدم كل أسس الدولة العراقية ، لتحقيق أهدافها الكولونيالي ، الذي يقوم على استهداف ذاكرة الشعب العراقي ومؤسساته مثل (المتحف الوطني ودار الكتب والوثائق العراقية)
ثالثاً :- نظرية احجار الدومينو :
وإعادة رسم خارطة (الشرق الأوسط) من خلال حرب العراق : إن هذه النظرية مكملة لنظرية الفوضى الخلاقة ، من خلال رسم الشرق الأوسط برؤية أمريكية وتوسيع تطبيق المثال العراقي على الدول العربية من خلال آثار ارتداد ما يحصل في العراق كنموذج جديد لإسقاط الأنظمة الأخرى وهذا ما تم من خلال ما اطلق عليه (بالربيع العربي) ، وهذه النظرية بدأت ملامحها تظهر في دول عربية مثل (مصر وتونس وليبيا واليمن). إذ اوضح (ادوارد سعيد) في كتابه (إسرائيل والعراق والولايات المتحدة) رؤية اليمين الأمريكي المتطرف لهذه النظرية الذين اعتقدوا بأن العراقيين بمثابة صفحة بيضاء يمكن لمفكرين يمينيين عميقين مثل (وليام كرستول وروبرت كاغان) أن يسطروا عليها ما يشاؤون ، لكن من الصعب أن نعتقد ، مع تقدم هذه الحرب السيئة التخطيط على العراق ، إن النتيجة ستختلف كثيراً عن الأحداث الدامية هناك ، أو الانتصار في العراق ، مع استهداف دول أخرى مثل سورية وإيران ، النظامين المهزومين أصلاً ، ووصول غضب الرأي العام العربي إلى نقطة الغليان ، ضد حكوماته مما سيطرح العراق على وفق الديمقراطية الأمريكية كنموذج لتلك الدول التي سيعمها الفوضى من خلال تساقط أنظمتها وذلك من أجل إعادة بنائها مرة أخرى على وفق نظام شرق أوسطي أمريكي جديد.