23 ديسمبر، 2024 8:11 ص

الخطأ الذهبي.. فلسفة قصصية شيقة للكاتب المبدع أمجد توفيق

الخطأ الذهبي.. فلسفة قصصية شيقة للكاتب المبدع أمجد توفيق

ما إن توغلت في مطبوعه القصصي الجديد : (الخطأ الذهبي) ، حتى تخيلت أنني أمام كاتب فيلسوف عميق الرؤية ، دخل الفلسفة هذه المرة من أوسع أبوابها ، بعد إن كانت مداخلته معها عبر روايته: الساخر العظيم ،وروايات ومجاميع قصصية أخرى ، لكنه هذه المرة ، أراد أن يتحول من كاتب روائي او قصصي الى فيلسوف، يرتب لنا أفكاره ورؤاه ، عبر فك رموز وطلاسم الزمن ، ويكشف عن متناقضاته وأحواله، وكيف تتقلب أحوال الدنيا من حال الى حال!!

الكاتب اللامع أمجد توفيق عاصر كل تقلبات الزمن،وكشف متناقضاته وغدره أو مميزاته الايجابية، بجرأته المعهودة ، بالرغم من أن الفيلسوف يختلف كليا عما يحاول عالم فيزيائي او كيمائي، عندما يحلل عناصر الطبيعة الى ذرات، ثم يعيد تركيبها لتنتج مواد جديدة تقدم خدمة للمجتمع الانساني واحتياجاته اليومية وكيف يكون بمقدوره مواجهة التحديات من خلال انتاج اسلحة المواجهة، وكيف يكون بمقدور “البعض” أن يحول انتاجه الفكري من مواد تتفاعل ليقدم خدمة للبشرية الى بدائل أخرى أكثر ارهابا وضررا لها ، بعد ان ذهب توجه بعض علماء الطبيعة نحو بناء ” مفاعلات نووية” لغير الاغراض السلمية عندما تحاول إنتاج ” قنابل نووية” ، في وقت لايكون هدف الفيلسوف تدميرا، بل على العكس ، فهو يسعى لاصلاح أحوال بني البشر، ويضع أمامهم منابر للعقل المتفتح ، لتتلاقى الافكار وتتلاقح وتنمو وتغزو العالم، ليسهم في خلق الابداع الفكري وتوفير معالم الرفاهية والسلام والاستقرار للشعوب وكيف تواجه القوى الوطنية الخيرة القمع والاضطهاد والدكتاتورية، وكيف تسمو القيم وترتفع مكانة الافكار، لتكون لها قيمة الخلود، في حين أن المادة تفنى وتتحول من حال الى حال، أما القيم فتبقى راسخة لأزمان، ليس بمقدور عاتيات الزمن أن تنحت في صخرها الصلد، مادارت الأيام.

إنها حقا مجموعة قصصية فلسفية جديدة أطلت تزهو برونقها ، على ساحة الابداع الثقافي والأدبي المعرفي، أتحفنا بها الكاتب والروائي والإعلامي القدير الأستاذ أمجد توفيق ، بغلاف أنيق وبمضامين قصصية رائعة، تحكي قصصا وتجارب القاص الذاتية والموضوعية.

و(الخطأ الذهبي) هي إحدى عناوين تلك المجموعة التي توحي وكأنك تقرا كتابا فلسفيا يصارع الزمن والأقدار ويفكك معادلة الزمن ويعيد تركيبها ويفضح تناقضاتها ويؤشر متى يمكن أن نستفيد من الزمن أو ان يكون الزمن سيفا يسلط على رقابنا ، وهو يشير في عنوان فلسفته : “الزمن الذهبي”، الى التحولات التي يشهدها الزمن ، فيشير الى أن:

“الزمن الذي يحول عنقود العنب الى نبيذ..

والزمن الذي يمسخ فيه الفاتنة الى شمطاء..

زمن واحد وفعلان متناقضان كالطبيعة نفسها”

أي أن الكاتب أراد أن يقول أن الزمن في المرة الاولى كان دوره (إيجابيا) وفاعلا وانتقالة الى الحالة المثلى من العنب الى (النبيذ) ، في حين كانت انتقالة الزمن في المرحلة الثانية من (فاتنة الى شمطاء) ..أي الى (الأسوأ)..

ثم تأتي الفلسفة الأخرى في عنوان موضوعه الآخر : أخطاء ذهبية ليشير:

نقطة واحدة يمكن أن تحوي نقيضين..

نقطة واحدة.. جد صغيرة يمكن أن تنفتح على اتجاهات غاية في التعقيد والتضاد والاختلاف..

ثم يوضح الكاتب للقاريء نظرية التناقض في تلك الرؤية فيقول:

“اليست أعلى نقطة يصلها طائر هي بالضبط نقطة انحداره؟ وأعلى نقطة تصلها رصاصة او قذيفة هي بالضبط نقطة سقوطها؟ وأعلى نقطة شر هي بالضبط نقطة انتهائه وتنازله؟

ألا يعني ذلك أن النقطة التي تحدد أعلى ارتفاع أو بعد أو عمق تحمل نقيضها ومبرر موتها أو إنتهائها؟”

وهو يشير في تلك القصة أيضا الى فلسفة العصر الحديث للساسة والمهتمين بشؤون الفكر والاخلاق والقيم ، وهي ” أن كثيرا من الاعمال الرائعة لاتصلح للشباب ، ذلك ان الماضي لديهم، فقير لانهم ينتمون الى الحاضر والمستقبل أكثر من انتماءهم الى الذاكرة التي تقتص وتمتحن الفعل المتناقض للزمن”.

أما ” شهادة ضاحكة ” التي إفتتح بها تلك المجموعة فتلخص فلسفة السياسي مع الطبيب وهو يحاول معرفة ما توحي به توجهات هذا الطبيب عن بلده ، فكانت إجاباته ربما تشكل صدمة للسياسي عندما أخبره بأنه ، أي السياسي، يعرف أوضاع البلد اكثر مما يعرفه الطبيب ، لأن السياسي يمتلك مجسات وتأتيه تقارير من أجهزة متخصصة وقادرة على الرصد ، أما الطبيب فيبدو وقد أعياه تشخيص حالة البلد ، في حين لايهم السياسي أن يبحث عن حل لازمات البلد بقدر حرصه على دوره ومكانته وكيف يكون له شأن في عالم السياسة..!!

ويرى نقاد ومتابعون للأديب الاستاذ أمجد توفيق أن القاص أراد من خلال تلك المجموعة التعبير عن الانتماء الوطني والالتصاق بوجدان هذا الوطن ، وما له من دور ريادي زاخر في مسارات التاريخ ، وهو ينحت حروفه بقلب صاف ونبع أصيل ، كله إحساس مرهف وقدرة على جذب المتلقي للغوص في أعماق قصصه ، لتكون له زادا معرفيا وفنيا ومدعاة للمتعة وللجمال وللذوق الرفيع في إختيار ادوات الكتابة وفنونها لكي تدخل القاريء بإنسيابية الى صفحات مجموعته الفلسفية عبر الميدان القصصي ، ويتوغل كثيرا في أعماقها، وهو ، أي القاريء، وان واجه بعض الصعوبة أحيانا في استيعاب كل مقاصد ومضامين تلك القصص ، كونه يستخدم الرمزية في اطارها السرمدي، وربما يدعي البعض ان الكاتب يريد أن يدخل القاريء في متاهات اللغة ، لكنه سرعان ما يعيده مرة أخرى الى رونقها وبساطتها المعهودة، ليجد ان المتعة الفنية والفلسفية هي زاد هذا الكاتب ، وهو يريد الانتقال بسباكة اللغة الى حيث يرتقي بها الى الأعالي.

والمجموعة القصصية (الخطأ الذهبي ) صادرة في دمشق عن منشورات” العربية “، بأكثر من مائتي صفحة، من القطع المتوسط، بعد إن أشرف على طباعتها متابع مبدع كما وصفه الكاتب وهو عبد الرضا الحميد ، حيث أشار الكاتب عند تقديمه لتلك المجموعة انه كان له الفضل الكبير في اصدار المجموعة ، معبرا عن شكره له ولما قدمه من جهد متميز لترى النور وتشق طريقها الى عالم الأدب والثقافة ، الذي ما أحوجنا الى ان يرفدنا المبدعون بما فاحت به قريحتهم بعد سبات قصير ، توقفت فيه الثقافة، وكانت ازمة كورونا واحداثها المريرة أحد تلك العراقيل التي اوقفت النشاط الثقافي في مختلف دول العالم، وليس في العراق فقط.

وربما يجد الكاتب والقاص الأستاذ أمجد توفيق أن إختياره هذا العنوان لمجموعته القصصية هذه : (الخطأ الذهبي) ، هو ليس محض صدفة ، بل لابد وأن أدرك الكاتب أن (الخطأ) الذي قد يرتكب هنا لابد ، وان يصل الى مرحلة (إعادة تصحيح المسار) لكي يرتقي الى مرحلة أن يوصف بـ (الذهبي) ، لكون (الخطأ) لايدل على حسن السلوك او تقويم المسار، ودائما ما يبحث الانسان عن (الصواب) أو هكذا ينبغي ان يكون تقييم الناس لجهد الآخرين، ولكن لأن (الخطأ الذهبي) هنا يستحق الاشادة، كونه أنتج لنا مفهوما اكثر قدرة على التغيير وعلى اعادة توازن الحياة والمفاهيم من خلال متغيرات الزمن ، حتى أطلق عليه هذه (التورية) المسماة بـ (الخطأ الذهبي) على غرار عنوان روايته الكبير (الساخر العظيم) ، التي كانت زاخرة بكل موضوعات الشد والاثارة لأحداث ماجرى في نينوى في مرحلة إحتلالها من داعش، وتغول قوى وجماعات وجهات وشخوص، خرجت عن كل ما هو مألوف، وبعضها حافظ على قيمه واخلاقياته، وهم شعب نينوى وابناء الموصل الكرام الاصلاء الذين كانت تضحياتهم وبطولاتهم ومواقفهم شاخصة في مضامين روايته، وقد نالت إعجاب الملايين من القراء الذين وجدوا فيها ما يرفع القيم الابداعية للرواية الى مصاف العالمية.

تحية للكاتب وللأديب وللاعلامي المبدع الكبير الأستاذ أمجد توفيق، وهو يتألق في كل مرة بكل صور الابداع في نتاجاته الثقافية والادبية التي أغنت ساحة الثقافة والذائقة العراقية والعربية بما يرفع من شأنها، ويضع لها قواعد للانطلاقة الواحدة ، وهو يصوغها بإطار فلسفي ، لكي لا تتوقف مسارات الابداع، ويبقى الوهج الثقافي والمعرفي ، يزداد توهجا .. وله من كل النخب الثقافية والادبية كل تحية وتقدير..وألف ألف مبروك لمطبوعه الجديد ” (الخطأ الذهبي) ..مع خالص الأمنيات له بالتوفيق الدائم.