23 ديسمبر، 2024 1:25 ص

طالب عبد العزيز صحفيا ..
احاول هنا ان اكسر قاعدة الاحتفاء بالشاعر وهو ينوف على دائرة المألوف الابداعي لأسلط بوصلتي العشواء على حالة توّجها هذا الخصيبي الجميل وهي تؤكد دلالة الابداع التي جبلت عليها حياة الشعراء الكبار ان لم اقل انها اصبحت تؤلف مرحلة مهمة من الفعل الابداعي المتمثل بانتقالهم من مرحلة الادبية التقليدية الى عالم آخر يضعهم في المحل الذي يستحقون ، ذلك هو عالم الصحافة ولما يحفل به من فعاليات عريضة تؤكد اهمية الادب وتؤكد الفعل الابداعي .

فالشاعر المبدع طالب عبد العزيز كان صحافيا متميزا من نوع خاص ، يخوض غمارات صاحبة الجلالة بانتقالات وانعطافات كسرت بعض الاطواق العاجية في التقليد الصحفي ، فرأس وادار وحرر واشرف على العديد من الصحف (المنارة ، ناس ، القبس ،جورنال ، الصباح ، البصرة السياسية ، نور الجنوب ، المدى .. ).. ، وكتب الافتتاحية والقفل والعمود والخبر والتحقيق والقصة الصحفية والاستقصائية والروبرتاج .. الامر الذي تحقق بمشروعه المشاكس وهو يستحدث صورة امتدادية لما عرفت به الصحافة التي تستغرب اشتغال الادباء في مضاميرها مما يعتبرونه خللا فكريا او حتى مهنيا ، وهو ما يدعونا لاستحضار بعض الشعارات التي اطلقت يوما وهي تحث على ضرورة طرد الادباء من عالم الصحافة على الرغم من اشتغال اكثر من ثلثمائة اديب عالمي من امثال ديكنز وهمنغواي ومايكوفسكي وادكار الن بو وطه حسين والعقاد والحكيم والجواهري وادونيس وناظم حكمت وصولا الى ادباء عاملين احيوا المشهد الصحفي وقربوا بين التقاليد الادبية والصحفية على حساب ترسيخ دلالة الفضول الفكري والمعرفي .

الامر الذي يشجعني على القول ان المحتفى به جمع بين الطريقة الصحافية والادبية ولم يجعلها او يحصرها بمرحلة موقوفة بالدائرة الصحافية فقط ، فاستحق ان ينتقل من رتابة الكتابة وتقليديتها الى تجسيد ادوارها نحو المعالجة والطرح الموضوعي واشراك الهم العام بأدوار التلقي . فسلط كشافاته على قضايا راهنة قاهرة تخص الوضع العام والمواطن ، فكان هذا الامر رديفا مشرقا معززا لأدواره الشعرية وهو يتسنم ناصية قصيدة النثر بإرهاصاتها وقلقها وانعطافاتها غير المستقرة على مكان . فاحتفظ بأسلوب قلما يساور شغل الشاعر دون ان يفرط بأدواته ويحافظ على عالمه الشعري الذي لا يحترم نظرية المكان وثبوت الزمان ، فكان صحافيا انسلخ عن بصمته الشعرية بطريقة يحسبها الناقد الحصيف لعبة في تبني اشتغالات الابداع وهو يفصح عن مهنيته بعيدا عن ذلك الهم الشعري الذي نراه يساير كتابات الادباء الصحفيين ، فانتقل من دائرة المهيمنات الشعرية الى مرحلة الاهتمام المهني الصحفي ، وهو امر صعب وحرج يعرفه من خاض غمار الصحافة ، اذا ما سلمنا انه امر ينسلخ من دائرة الشاعر ليتقمص دورا آخر يجبره على ان يقع في دائرة الازدواجية والحرج واللبس .

قد لا اغالي في القول ان المحتفى به يستحق ان يكون واحدا ممن اسهم باستحداث مرحلة جديدة من دحض نظرية (ان الصحافة لا تقتل موهوبا ) او ان الشعر يحتمل امتدادا واحساسا اكثر منه في الصحافة ، باعتماده طريقة السرد الشعري ، وتوظيف الشعر بكل مؤثراته واستدراكاته الخيالية والجمالية في الصحافة ، فامتلك بذلك اسلوبا شاعريا مرهفا وشفافا في تقريب دائرة التقاليد الصحفية والادبية ، الامر الذي يحيلنا الى قاعدة عريضة من الادباء الذي عملوا في المجال الصحافي دون ان تؤثر عليهم حياة الصحافة وطقوسها والتي ينعتها البعض من انها عملا اداريا او حتى لوجستيا برتوكوليا اكثر منه الى الادب ، او بعض المقولات التي انتشرت في اوربا وهي تصف صالة التحرير بمقبرة الموهبة ودفن روح الابداع او الاجهاز عليه ، الى غيرها من النعوت التي لم نجد لها مكانا اذا ما استشهدنا هنا بأدباء بصريين عملوا في الصحافة هم الاكثر اشارة في هذا المجال امثال القاص الكبير محمد خضير واستاذنا الكبير عبد الرزاق حسين واحسان وفيق السامرائي ومحمد صالح عبد الرضا والشاعر الدكتور عامر السعد والقاص الدكتور لؤي حمزة عباس الدكتور حسين فالح نجم وجاسم العايف وهاشم تايه والقائمة تطول .

اصل هنا الى ان ثمة تفنيدا للمقولة التي تنظر الى ان الصحافة تجهض احلام الشاعر وتجهز على خياله بقدر ما تكون احيانا غطاء وحجة لترجمة مخاضاته التأملية ومشروعه الابداعي ، وتنقل احساسه الى عالم اكثر امتدادا وجدية ، وهو ما يجعل القصيدة اكثر صدقية مما افتقده النص الشعري الجديد الذي يثفف له الصحافيون الجدد في اوربا في اغلب مقالاتهم وتنظيراتهم .

اقدم مباركتي للصديق الرائع طالب عبد العزيز مثمنا دور منظمة البصرة للثقافة وقصر الثقافة والفنون .

والسلام عليكم