21 ديسمبر، 2024 10:53 ص

الخصخصة وتأثيرها على الاقتصاد العراقي

الخصخصة وتأثيرها على الاقتصاد العراقي

صدر عن دار “أمل الجديدة” بدمشق كتاب جديد يحمل عنوان “الخصخصة وتأثيرها على الاقتصاد العراقي “للدكتور عبّاس الفياض وهو في الأصل أطروحة أكاديمية تقدّم بها إلى الجامعة المفتوحة في الدنمارك لنيل درجة الدكتوراه عام 2010. يتضمن الكتاب ثلاثة أبواب، وسبعة فصول، وثمانية وعشرين مبحثاً، إضافة إلى المقاربة الفكرية والاستنتاجات والتوصيات والمصادر العربية والإنكليزية. كما عزّز الباحث أطروحته بعدد غير قليل من الجداول والرسوم والبيانات.
تناول الفيّاض في الباب الأول الذي يتألف من فصلين وستة مباحث التوجهات الإستراتيجية لما يسمّى بـ”الليبرالية الجديدة” والمساجلات الفكرية بين العلماء والمفكرين من الاقتصاديين وظهور الليبرالية الجديدة ومناقشة أفكار ديفيد هيوم وآدم سميث وريكاردو وكارل ماركس وغيرهم حول عدد من الموضوعات الرئيسة المهمة مثل اقتصاد السوق، والتوازن، وخلية النحل، واليد الخفية، وفائض القيمة، والرجل الاقتصادي وما إلى ذلك. ولعلي هنا أشير إلى جوهر كتاب “النظرية العامة” للورد البريطاني “كينز” الذي يقول “بضرورة تدخّل الدولة بالاقتصاد”، أما المنطق الليبرالي “دعهُ يمرّ” فيدعو إلى عدم تدخّل الدولة في الحياة الاقتصادية، وجعل السوق حُراً ومستقلاً بذاته”.
توقف الفيّاض في هذا الباب عند الليبرالية الجديدة للبحث عن مَخرج للأزمة الرأسمالية الثاتشرية- الريغانية، وناقش أسباب فشل النظرية الكينزية، فثاتشر وريغان كلاهما ينتمي إلى اليمين الجديد، وقد تبنيا بحماس شديد مفهوم السوق الحرة، وعاديا تدخّل الدولة في شؤون المواطنين، حيث أقدمت حكومة ثاتشر على بيع أصول القطّاع العام إلى القطّاع الخاص خلال الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، كما خفّضت معدلات الضريبة على المؤسسات والأفراد، وألغت القيود المفروضة على الصرف الأجنبي وأرباح الاسهم. وفيما يتعلق بصندوق النقد والبنك الدوليين فإن الدكتور الفياض يمهد منذ بداية بحثه الرصين إلى أن أهدافهمها وإستراتيجيتهما لا تهدف لمساعدة الدول النامية، وإنما لزيادة الفقر والمعاناة والبؤس لهذه البلدان. وفيما يتعلق بالأهداف الأساسية لليبرالية التكيّف فقد ناقش الفياض أفكار ليستر بيرسون وتوصياته الأممية بصدد البلدان النامية وحثِّها على فتح أسواقها وخضوعها لشروط الاستثمارات الأجنبية.
لم تكتفِ البلدان المتقدمة باستعمار البلدان النامية ونهب ثرواتها من الذهب والفضة كما فعلت أسبانيا والبرتغال وهولندا وإنكلترا وفرنسا، وإنما أجبرت تلك المستعمرات على توفير منتجات زراعية عليها طلب في الأسواق الأوروبية مثل السجائر والسكّر والشاي والبُن والقطن والأصباغ والجلود وما إلى ذلك، بل أن مجلس الإعمار الذي أُسس في العراق في عام 1950 ووزارة الإعمار التي أُسست بعد ثلاث سنوات كان الهدف منهما هو السيطرة الأجنبية على المشاريع العمرانية. تضمّن هذا الباب مناقشة آراء ريكاردو المخالفة لآراء سميث، وآراء جيمس ستيوارت ميل المخالفة للاثنين معاً، وآراء كارل ماركس التي تتعارض مع الجميع، حيث يؤكد ريكاردو على “أن قيمة السلعة تتحدد بكمية العمل المبذول في إنتاجها”. وأن “اليد الخفية تعمل في جوٍ من المنافسة على تحقيق التوازن ما بين العرض والطلب، وبالتالي ما بين الإنتاج والاستهلاك” وهي التي تسمّى أيضاً بـ “تلقائية السوق”. يرى الفياض أن إعلان “نهاية التاريخ” على الصعيد الاقتصادي قد جاء عبر خطاب مُصاغ بدقةٍ بالغة لآيديولوجية ليبرالية السوق كطريقة وحيدة للنمو يجري فرضها على بلدان العالم الثالث”. لا يثق الفياض بنظرية محددة، فاليابان، من وجهة نظره، قد أنشأت العديد من المشاريع الإنتاجية ولم تأخذ بنظرية الاقتصاد الحُر ومع ذلك فقد نجحت شأنها شأن كوريا الجنوبية، وتايوان، وسنغافورة، وماليزيا والصين حيث لعبت الدولة دوراً أساسياً في عملية النهضة الاقتصادية والاجتماعية، لكنه ينبِّه بقوة إلى أن هذا الرأي لا ينطوي على أي شكل من أشكال الدفاع عن الدولة الدكتاتورية أو البلدان ذات الأنظمة المركزية. إن اقتصاد السوق الاجتماعي، كما يرى الفياض، هو أن تتدخل الدولة بقدر أو بآخر، فاليابان، مثلاً، ركّزت على تثبيت العاملين مدى الحياة، بينما أخذت ألمانيا على عاتقها مفهوم الإدارة المشتركة، وتأمين التفاهم بين أرباب العمل والنقابات بشأن سياسة الأجور.
برامج التثبيت والتكيّف الهيكلي للاقتصاد
أوضح الفياض أن برامج التثبيت والتكيّف الهيكلي للاقتصاد تحتاج إلى خفض الموازنة العامة للدولة بواسطة زيادة الموارد السيادية، وزيادة الضرائب، وارتفاع أسعار الطاقة، وزيادة رسوم الخدمات العامة، وخفض التوظيف الحكومي وغيرها من الاجراءات اللازمة ذلك لأن القطّاع الخاص يستطيع أن يلعب دوراً في الإسراع في عملية النمو، وقيادة عمليات التصنيع والتحديث، وهو أكفأ بالنتيجة من القطاع العام. عاد بنا الفياض إلى الحقبة الأولى لنشأة الرأسمالية في فترة الاستكشافات الجغرافية التي امتدت منذ القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن السابع عشر التي مهدت للسوق العالمية. وقد توّخت هذه الاستكشافات الجغرافية تحقيق هدفين رئيسيين وهما كسر الحصار التجاري الذي فرضته الدولة العثمانية، والبحث عن الذهب ومصادرته بشراهة غير مسبوقة. لم يقتصر تكييف الهيكل الاقتصادي على توفير المنتجات المطلوبة جداً في أوروبا، وإنما امتد إلى أعمال السخرة حيث أجبروا الناس على العمل في مناجم الفضة والذهب، كما شنّوا حروب الإبادة الجماعية على السكّان الأصليين. أخذ هذا الجانب حيّزاً كبيراً من هذا المبحث لكننا سنتوقف عند المحطات الرئيسة فيه فحينما اقتسمت القوى الاستعمارية في عام 1900 كلاً من أفريقيا وآسيا لم يرضَ البعض من مراكز القوى الرأسمالية لذلك اندلعت الحرب العالمية الأولى. ثم توسّع الانقسام بعد خروج روسيا من النمط الرأسمالي، ثم تبعها أكثر من نصف العالم بعد الحرب العالمية الثانية لتتأسس “ثنائية القطب” بصيغة المعسكر الاشتراكي الذي يقف في مواجهة المعسكر الرأسمالي. يتوصل الفياض في هذا الباب إلى أن النظام الرأسمالي يتكيف خلال كل المراحل. فالرئيس الارستقراطي روزفلت هو الذي صمّم نظام المساعدات الاجتماعية الحكومية بعد الحرب العالمية الثانية وهو الذي أنقذ الرأسمالية من الانهيار. وأن ونستون تشرشل، ابن دوق بريطاني، هو الذي طرح نظام الضمان الاجتماعي الواسع ضد البطالة عام 1911. ثم ختم الفياض حديثه في هذا الباب عن الديون الخارجية على العراق والتي قُدرت بـ “86” مليار دولار سنة 1990. وكما يذهب د. صباح الدرّة أن إدارة مؤسسة السكك الحديد قد بقيت تابعة للإدارة البريطانية لغاية عام 1936، أما ميناء البصرة فقد ظل في عهدة الجهات البريطانية لغاية 1952، علماً بأن مدّ خطوط السكك الحديد في العراق هو جزء من القاعدة التكتيكية لسيطرتهم العسكرية واستغلالهم الكولونيالي، وليس من أجل سواد عيون العراقيين.
الخصخصة وبعض التجارب التاريخية
يشتمل الباب الثاني من الكتاب على ثلاثة فصول حيث ركّز الفياض على ستة تجارب تاريخية من أميركا اللاتينية وأفريقيا والعالم العربي. ولأن الحديث عن هذه التجارب يحتاج إلى وقت طويل لذلك أجد نفسي مضطراً للاختصار. ففي المبحث الأول الذي ضم فنزويلا والمكسيك توصل الباحث إلى جملة من الحقائق تتعلق بفنزويلا ورئيسها تشافيز وبحسب “آنا أناليسيز” كبرى منظمات الاستطلاع التي تشير إلى أن نسبة 75% من الفقراء يؤيدون تشافيز، ونسبة من يؤيده من الأغنياء لا تتجاوز 25%. يذكر الباحث بأن تشافيز نجح في معركته الاقتصادية من خلال تحسين الظروف المعيشية بتطويره للإصلاح الزراعي، وتسهيل الأقراض للمؤسسات الصغيرة، والقيام بمشاريع ضخمة، وتحسين التعليم الحكومي، والصحة العامة، وتوزيع الغذاء على الفقراء، وتحسين مستوى المعيشة، وعدم تخويف المستثمرين في القطاع الخاص، وجعل الاقتصاد في خدمة الشعب وليس العكس، كما ارتفع إنتاج النفط من (2.4) مليون برميل يومياً إلى (3) مليون برميل في اليوم الواحد وهناك ما يشير إلى إمكانية زيادة الرقم الأخير، كما وضع قيود على تحويل العملة، ومنعَ تسرّب رؤوس الأموال إلى الخارج الأمر الذي أدى إلى زيادة احتياطات العملة الأجنبية إلى (9) مليار دولار مع نهاية عام 2003، كما تحسنت نوعية الحياة بسبب تبني برامج محو الأمية، والتعليم، والصحة، وتأمين الوظائف، وتأمين الحد الأدنى من الدخل والغذاء حيث أُعتبرت هذه المنجزات ضربة كبيرة لتوجهات برامج التصحيح التي تدعو لها الليبرالية الجديدة ومؤسساتها المالية آخذين بنظر الاعتبار أن فنزويلا هي الدولة الوحيدة التي تمردت على سياسة صندوق النقد الدولي ورفضت الخضوع لشروطه وشروط الإدارة الأميركية.
لجأت المكسيك إلى الخصخصة لأنها عجزت عن تسديد الديون الخارجية فحدث تغيير في موازين الدخل المحلي لصالح القطاع الخاص فهرَبت رؤوس الأموال إلى الخارج التي تقدّر بنحو (26.5) مليار دولار بين عامي 1979-1982. ونتيجة للأزمة الاقتصادية تخلّت المكسيك عن الارتباط بالدولار وعوّمت البيزو عام 1994 وكان هذا بمثابة الفتيل الذي فجّر الأزمة الاقتصادية المكسيكية. يرى الفياض بأن التحسّن الذي أشار له بعض الباحثين مردّه ليس لبرامج التكييف والخصخصة، وإنما لارتفاع أسعار النفط. إن خضوع المكسيك لشروط صندوق النقد والبنك الدولي هو الذي أثّر على استقلالية القرار السياسي والاقتصادي المكسيكي فأفضى إلى الأزمة المُشار إليها سلفا. وفيما يتعلق بالتجربة الأنغولية يرى الباحث أن صندوق النقد والبنك الدوليين يسعيان لتركيع الدول النامية ويعملان على وفق منهجية آيديولوجية وهي “الليبرالية الجديدة” من دون مراعاة لخبرات الآخرين، بل هما يعتمدان على منهجية “حجم واحد يلائم الجميع”، وأن صلاحيتهم هي دعم الاستقرار الاقتصادي العالمي، وليس تقليل الفقر في البلدان النامية، لذلك فهما يفرضان برنامج الإصلاح الهيكلي ويتعاملان مع الدول النامية كمستعمرات يضعون لها الخطط والبرامج الإصلاحية. لم يكن اختيار الفياض لتجربة أنغولا نابعاً من فراغ. فبعد توقف الحرب التي دامت نحو 30 عاماً استطاعت أنغولا أن تسيطر على عوائد النفط، وأصبحت واحدة من أسرع مناطق النمو الاقتصادي في العالم، لكن بؤر الفساد تنتشر بين المسؤولين الحكوميين. وحينما انضمت إلى برنامج صندوق النقد أخضع الدولة وموظفيها لسياسة التثبيت والتكيّف الهيكلي الداعية إلى المزيد من الاصلاحات، وإبعاد الدولة عن التدخل في الشؤون الاقتصادية، والدعوة إلى المزيد من التقشف، وإيقاف الدعم في مجالات الإنفاق العام. إن الاستقلال النسبي لأنغولا حقق لها فائضاً اقتصادياً، ومنحها نوعاً من القوة، لكنها كانت تتهم صندوق النقد والبنك الدوليين بأنهما مؤسستان غير ديمقراطيتين وخاضعتين لحكومات الدول السبع الأغنى في العالم. لقد حققت أنغولا إنجازاً اقتصادياً آخر حينما انخفضت نسبة التضخم لديها من (19%) إلى (10%). أصبحت مصر عضواً في G15 أو الدول التي تطبِّق برنامج النمو الاقتصادي حيث أجرت اتفاقاً للتثبيت واتفاقاً للتكييف الهيكلي عام 1991. كما اتبعت مصر سياسة خفض الإنفاق الحكومي على الصحة والتعليم ورفعت أسعار العديد من السلع والخدمات مثل الخبز والدقيق والشاي والصابون. يرى الفياض أن تحسين الوجه الحقيقي للاقتصاد هو العمل على زيادة معدلات النمو، وخفض معدلات البطالة، وزيادة مستوى معيشة المصريين. ويذهب د. مصطفى الرفاعي إلى أن الحل بالتنمية، وبناء مؤسسات عصرية تُوجَّه لها مدخرات المصريين بالداخل والخارج، وليس بالخصخصة التي يعتبرها علاجاً مؤقتاً، واستجابة لضغوط خارجية أو لتغطية عجز الموازنة. أما التجربة السادسة والأخيرة التي توقف عندها الفياض فهي تجربة الجزائر التي خضعت لبرامج التثبيت والتكيف الهيكلي، إذ انسحبت الدولة من جميع المعاملات الاقتصادية ذات الطابع التنافسي لفائدة القطاع الخاص. وتعهدت الدولة بحماية المستهلك، وتطبيق سياسات مالية ونقدية تدعم السوق. أشار الفياض إلى أن الجزائر خضعت للخصخصة عام 1995 إثر بلوغ مديونيتها (34) مليار دولار فتعهدت الحكومة بتطبيق الإصلاحات الاقتصادية مثل إلغاءات الإجراءات على سعر الصرف، وتحرير التجارة الدولية، وخفض قيمة العملة الوطنية “الدينار”، وخفضت سلسلة الدعم للانفاقات الحكومية، ورفعت الدعم عن أسعار السلع الاستهلاكية، بالإضافة إلى خصخصة القطاع العام. خلص الفياض إلى القول بأن كل تجارب الخصخصة قد أصيبت بخيبة أمل علماً بأن خمسة من هذه البلدان نفطية ما عدا أثيوبيا حيث ضعفت المؤسسات المالية وأفضى الأمر إلى انفلات في الأسعار. يرى الفياض بأن برامج التثيبيت والتكيّف الهيكلي قد ترافقت بالتضخم وانخفاض معدلات النمو وأن صندق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية هي أدوات الدول الغربية في الحفاظ على مصالحها ولتمرير سياساتها على بقية أنحاء العالم وطالبَ بأن نوقف انبهارنا بكل ما تأتي به الليبرالية الجديدة وما سببته من أزمات ونلتفت قليلاً إلى المبادرات الأخرى في أميركا اللاتينية.
القطاع العام في العراق
لا شك في أن هدف الباحث ينصّب على العراق تجربة الخصخصة في العراق فلا بأس أن نتوقف قليلاً عند الكيفية التي تشكّل فيها قطّاع الدولة فالفياض يرى أن قطاع الدولة قد تشكّل بثلاثة أساليب، الأول هو عن طريق نقل مِلكية بعض المؤسسات إلى الدولة من الإمبراطورية العثمانية أو من سلطات الاحتلال البريطاني بعد تشكيل الحكومة العراقية، والثاني عن طريق الاستثمارات المتعددة، والثالث بواسطة التأميم.
يرى الفياض أن سبب إخفاق التنمية في العراق يعود إلى ثلاثة أسباب وهي السياسة الارتجالية للنظام والتدخلات الفردية لأعضاء مجلس قيادة الثورة، والاعتماد على ريع النفط المتذبذب، والحرب العراقية- الإيرانية التي أنهكت الاقتصاد العراقي. كما يعزو الباحث سبب إخفاق الخطة التنموية إلى عدم تنوع مصادر الاقتصاد العراقي الذي معتمداً كلياً على النفط فقط، إضافة إلى الاجراءات الأمنية المشددة على المواطنين، وضعف الرقابة، ونأي الدولة في اتخاذ القرارات بعيداً عن المواطنين. ويعتقد الفياض أن هناك جملة من القوانين المجحفة التي منحت أعضاء مجلس قيادة الثورة صلاحيات واسعة لإسناد مقاولات للجهات التي ترتئيها من القطاع الخاص، وبالأسعار التي تراها مناسبة من دون النظر إلى كفاءة هذه الجهات التابعة للقطاع الخاص. يخلص الفياض إلى أن سياسة التنمية في العراق قد فشلت خلال الأعوام 1975-2003 ذلك لأن الاقتصاد العراقي أحادي الجانب، ويفتقر إلى التخطيط بعيد المدى، ولا يفيد من التجارب المتراكمة، هذا إضافة إلى تضخم الأجهزة الإدارية والأمنية ثم كارثة الدخول في مرحلة الحرب والحصار التي تسببت في انخفاض الموارد المالية.
يختصر الفياض المشاكل التي واجهت الاقتصاد العراقي بأربع مشكلات رئيسة وهي إدارية وسياسية ومالية واجتماعية. وقد لخّص المشكلات الإدارية بأعضاء مجلس قيادة الثورة ووصفها بأنها غير مهنية تتركز بيدها جميع السلطات في البلاد ولا يتمتع أعضاؤها بالخبرة والكفاءة والمؤهلات الإدارية. وهم أنفسهم السبب في تعزيز المشكلات السياسية حينما صوّروا العراق بأكبر من حجمه الحقيقي بينما كان هذا البلد مختزلاً في شخص الرئيس الذي كان يتخبط خبط عشواء. أما المشكلة المادية فتتمثل بالبذخ المفرط، والتبذير، وشراء الذمم، وغياب القيد الحسابي، ناهيك عن الهبات التي يمنحها “القائد الضرورة”. وحينما أدخلوا العراق في نفق الحرب بدأ مسلسل الاقتراض والديون التي قصمت ظهر الاقتصاد العراقي. أما المشكلات الاجتماعية فتتمثل بانعدام عدالة توزيع المقاولات أو الثروات بشكل عام حيث كانت تمنح على أساس القرب أو البعد من الحزب الحاكم فتفشى الفساد والرشوة والمحسوبية كما تحولت الأجهزة الإدارية إلى أجهزة أمنية تلاحق المواطن وتحصي عليه أنفاسه في كل مكان. يعتقد الفياض أن الحرب العراقية- الإيرانية هي بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير لأنها دمرت غالبية المنشآت النفطية العراقية فتقلص الإنتاج من (3.4) مليون برميل يومياً إلى (140) ألف برميل في اليوم الواحد بعد شهرين من بداية الحرب الأمر الذي أدى إلى انخفاض الإيرادات بشكل مذهل. ونتيجة لذلك قامت الدولة بهيكلة الاقتصاد العراقي لأسباب عديدة منها ركوب الموجة ومغازلة ما يجري في بلدان العالم الأخرى، ومحاولة إيجاد مصادر لتمويل ميزانية الدولة المتآكلة والخربة، والحفاظ على الحد الأدنى من الاستهلاك في ظل الحرب، واتباع سياسة العصا والجزرة.
الخصخصة في العراق
أشار الفياض إلى أن الهدف من الخصخصة هو تحويل الاقتصاد المُخطط مركزياً والمُستند إلى دعم الدولة إلى نظام السوق المعتمد على قوى العرض والطلب، وإبعاد الدولة عن النشاط الاقتصادي. ولكن كيف يتم إبعاد الدولة وأن العراق في الستينات والسبعينات قد قام بسلسلة من التأميمات تبدأ بالنفط والغاز، وتمر بالإسمنت والنسيج والمصارف، ولا تنتهي عند السجائر والمواد الغذائية بحيث أصبحت كل هذه المشاريع مُحتكرة من قبل الدولة مما حدا بالمسؤولين إلى اعتبار قطاع الدولة “قطاعاً اشتراكياً”. وقد اتسعت سيطرة الدولة لتشكل مساهمة القطاع العام نسبة 84% من مجموع الإنتاج الصناعي التحويلي الذي يستخدم 83% من القوة العاملة في الصناعة عام 1987. يعتقد الفياض أن هناك خمسة أسباب تفضي إلى عدم الكفاءة في مؤسسات القطاع العام من بينها عدم وضوح الأهداف العامة والخاصة لغالبية مؤسسات القطاع العام التي تنوء بأمزجة المسؤولين المتقلبة في الحزب والدولة، والتخلف الإداري والنفس البيروقراطي، وغياب التخطيط المستند إلى المناهج العلمية، وهدر المواد الإنتاجية، ووجود البطالة المقنّعة، هذا إضافة إلى الفساد الإداري وضعف الرقابة المُشار إليهما سلفاً. الأمر الذي أدى إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي تسعة أضعاف سلباً وهذا يعني، من وجهة نظر الفياض، شطب خمسين عاماً من النمو وتحسّن مستويات المعيشة للمواطن العراقي. وحينما اجتاحت القوات الصدامية الكويت قُدرت التعويضات بحدود (100) مليار دولار، كما قُدرت الديون الخارجية بعد خوض الحربين بنحو (125) مليار دولار عام 1990 بينما تؤكد الحكومة العراقية آنذاك بأن ديونها قد بلغت (42.1) مليار دولار الأمر الذي أفضى إلى التضخّم.
التضخّم
يوضح الفياض بأن التضخّم هو الارتفاع المستمر أو المتزايد في أسعار السلع والخدمات سواء أكان ناتجاً عن زيادة كمية النقد أم بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج. ويمكن القول إن هناك تضخماً عندما ترتفع الاسعار المحلية “الوطنية” بشكل أسرع من ارتفاع الاسعار العالمية وفي هذه الحالة تكبح الصادرات وتسهل الواردات. يعتقد الفياض أن الحصار الكلي وانعدام الاستيراد والتصدير قد أثرّ على الاقتصاد كثيراً وأدى إلى ارتفاع معدلات التضخم، وبالتالي انخفاض قيمة العملة الوطنية، وارتفاع الاسعار بشكل غير معقول. يلقي الفياض باللائمة على قرارات حزب البعث الحاكم في السبعينات الذي أهمل الزراعة والصناعة وركزّ فقط على الاستثمار في قطاع النفط فتعمقت تبيعة الاقتصاد العراقي إلى النفط. وحينما انحسرت العائدات النفطية بسبب الحرب العراقية- الإيرانية قفزت معدلات التضخم حدودها الطبيعية لتتجاوز إمكانية التحكّم بها أو السيطرة عليها. كما انعكس هذا التدهور على حياة المواطن العراقي فقد حصدت الحرب العراقية- الإيرانية مئات الأولوف من الشهداء إضافة إلى آلاف الجرحى والمعاقين، كما هربت (120) ألف عائلة غالبيتهم من الفنيين والعمال المهرة. وبالمقابل فقد استقبلت الدولة نحو مليوني عامل من الخارج يتقاضون أربعة أضعاف ما يتقاضاه العامل العراقي إضافة إلى امتيازات السفر والتحويل الخارجي البالغة 50% الأمر الذي أفضى إلى التضخم الذي بلغ حدوداً مرعبة بحيث وصل نسبة (42000%) في عام 1994. وعلى وفق دليل التنمية البشرية فقد تراجع العراق بين دول العالم من المرتبة (55) عام 1990 إلى المرتبة (127) في عام 1995، كما أن ترتيب العراق عربياً قد تراجع من المرتبة الثالثة إلى المرتبة الخامسة عشر مما دفع الحكومة لطبع النقود بغية دفع نفقات الميزانية الاعتيادية الأمر الذي جعلها تدور في حلقة مفرغة. يرى الفياض أن هذا التقلب لا يشجع على استقدام القطاع الخاص فلا غرابة أن يهرب ويغادر العراق. ومع ذلك يعتقد الفياض بأن العراق قد توفرت له في حقبة السبعينات ظروف مواتية للانتقال بالاقتصاد الوطني من اقتصاد متخلف إلى اقتصاد زراعي – صناعي لكن النظام أضاع تلك الفرصة.
إستراتيجيات سلطة الاحتلال
ناقش الفياض في الباب الثالث من كتابه إستراتيجيات سلطة الاحتلال الذي شرعن احتلال العراق وفقاً للقانون (1483) وهي سابقة خطيرة وغير مألوفة في التاريخ! كما قام بريمر باجراءات سريعة لإعادة إنتاج النفط وضخّه، وسنّ قانون يسمح باستقدام المستثمرين، وخصخصة حوالي (200) مؤسسة، وسمح للشركات الأجنبية في التملك بنسبة 100%، وأتاح للشركات الأميركية أن تهيمن على العقود مما أثار حفيظة البريطانيين والأمم المتحدة. إن الوثائق التي تطرح فكرة الإصلاح الاقتصادي في العراق بذرائع شتى من بينها رخص الوقود، وأن غالبية فواتير الماء والكهرباء غير مسددة، وأن أسعار القمح تساوي نصف أسعارها في السوق العالمية، وأن جميع الشركات الكبرى مملوكة من قبل الحكومة، وأن نسبة (60%) من الشعب يعتمد على مواد غذائية مجانية. أما ورقة معهد آدم سميث فقد اقترحت خصخصة التعدين والكيمياويات والبناء. إن الثروة النفطية التي بدأ إنتاجها منذ عام 1950 قد وضعت العراق في موقع متقدم على غيره من الدول المنتجة للنفط، لكن بعد أربعة عقود فإن الغالبية العظمى من العراقيين يعانون من ظروف معاشية أسوأ من تلك التي يعاني أفقر السكان في العالم. تضمنت المقترحات الأخرى إعادة إعمار العراق الذي يحتاج إلى (100) مليار دولار على أن يخصص القسم الأكبر لتمويل مشاريع استئناف الخدمات الأساسية وإصلاح البنية التحتية المدمرة بما فيها قطاع النفط. ومن بين المقترحات الأخر التي لم تنفذ هي أن سلطة الاحتلال قررت أن توزع قسماً من إيرادات النفط على المواطنين جرياً على نفس الطريقة المتبعة في ولاية ألاسكا الأميركية، ولكن هذا المقترح ذهب أدراج الرياح. يعتقد الفياض أن عملية الخصخصة يجب ألا تفرض على الشعب العراقي، ويجب أن تؤخذ حسنات الخصخصة وسيئاتها من قبل الحكومة العراقية الجديدة المنتخبة.
لعب بريمر دوراً أساسياً في في خصخصة الاقتصاد العراقي وقال بأن العراق سيزدهر ويتغيّر اقتصاده، لكن ما حدث على العكس من توقعات بريمر فقد استمرت معدلات الفقر والجوع والبطالة والمرض وفقدان الأمن والخدمات وغياب المواطن وتهميشه، بل تعتيم الأفق أمام ناظريه. وعلى الرغم من هذه الانتكاسة الكبيرة إلا أن المعنيين يقولون بضروة القيام ببعض الإصلاحات نذكر منها معالجة الاختلال الهيكلي في بنية الاقتصاد الأحادية المتمثلة بهيمنة قطاع النفط الخام، وإعادة النظر بالضعف والتراجع في معدلات النمو الاقتصادي، ووضع حلول لتدني المؤسسات العاملة في السوق، والحدّ من ظاهرة هروب رؤوس الأموال وتوظيفها في الخارج، ومعالجة الارتفاعات الحادة في الأسعار. ثمة ظواهر أخرى يجب معالجتها على وجه السرعة من بينها البطالة التي تصل إلى مليوني عاطل عن العمل من قوة العمل التي تربو على سبعة ملايين عراقي. ومعالجة الديون الخارجية التي لم يُعلن عنها النظام السابق إثر دخول الجيش العراقي للكويت وما ترتب عليه من تعويضات يُطلق عليها بـ “الديون البغيضة” وهي الديون العسكرية وتعويضات الحرب التي لم يكن الشعب العراقي مسؤولاً عنها. توقف بعد 2003 نحو 200 معمل ومؤسسة كانت تشكل العمودي الفقري للبنية التحتية للاقتصاد العراقي، ثم أعقبتها الخصخصة التي تعني، كما هو شائع في العراق، بأنها عملية التحويل الكلي أو الجزئي لمِلكية وإدارة الفعاليات الاقتصادية التي تمتلكها الدولة إلى القطاع الخاص. أما مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية فقد عرّف الخصخصة بأنها “جزء من عملية الإصلاحات الهيكيلية للقطاع العام في البنيان الاقتصادي وتتضمن إعادة تحديد دور الدولة والتخلي عن الأنشطة التي يمكن للقطاع الخاص القيام بها مستهدفة رفع الكفاءة الاقتصادية”. آخذين بنظر الاعتبار أن الخصخصة يجب ألا تؤدي إلى إهمال الزراعة والصناعة. وأن بيع (51%) من أصول المشروعات المملوكة للدولة يعد خصخصة. وهناك أكثر من سبيل للخصخصة لكن الفياض توقف عند اثنين منهما وهما الخصخصة بنظام الصدمة، أو بنظام التحوّل التدريجي، كما أنها ثُبتت بالدستور العراقي في المادة 110 الفقرة الثانية التي تنتهي بتشجيع الاستثمار وهذا ما حصل فقد شُرعت القوانين التي تحفِّز على الاستثمارات لأنها تمنح المستثمر حق الإقامة في العراق، وتسهيل دخوله وخروجه من وإلى العراق. وتسهيل دخول وخروج العاملين في المشاريع الاستثمارية من غير العراقيين وإقامتهم. كما يتمتع الحاصل على الاستثمار بالإعفاء من الضرائب والرسوم لمدة خمس سنوات. وتشترط الخصخصة عدم مصادرة أو تأميم المشروع الاستثماري المشمول بأحكام هذا القانون كلاً أو جزءاً أو غيرها من الامتيازات. كما لم تتوقف ظاهرتا البطالة والتضخم فقد أشار د. مهدي الحافظ إلى أن البطالة قد وصلت إلى 50%، ثم تصاعدت عام 2006 حتى وصلت 70% حسب مؤشرات الجهاز المركزي للإحصاء. يرى الفياض أن سبب ارتفاع معدلات التضخم هو رفع أسعار المشتقات النفطية حسب طلب صندوق النقد الدولي، وضعف الإنتاج الوطني الزراعي والصناعي. كما أن هناك (8.4) مليون أسرة عراقية مسجلة على نظام البطاقة التموينية التي تحصل على الأرز والدقيق وزيت الطهي فيما تشرف على توزيعها (42) ألف شبكة عبر البلاد.
مقاربة فكرية وتوصيات
توصل الفياض في مقاربته الفكرية إلى أن الإستراتيجية المطروحة لتنمية الاقتصاد العراقي لا تخرج في غالب الأحوال عن التطبيق الدقيق لوصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها من المنظمات المالية التي لا تبتعد كثيراً عن تطبيق المبادئ العامة لعلم الاقتصاد والحديث وفقاً لآلياته المجردة الراهنة، ولا تبتعد عن نظرية التوازن، وآلية السوق والعرض والطلب. ختم الفياض بحثه بعدد من التوصيات المهمة نذكر منها دعم دور الدولة التنموي المحفز والاهتمام بالقطاع الخاص. الإفادة من الخبرات العلمية والأكاديمية العراقية والعربية والأجنبية في المجالين الزراعي والصناعي. مراجعة بعض القوانين التي صدرت منذ عام 2003 ومنها قانون النفط والغاز والاستثمار والقوانين المتعلقة باقتصاد السوق والانفتاح الحر على الاقتصاد العالمي. إنقاذ العراق من مشاكل البيئة والتصحر والمناخ والتربة والمياه والتلوث والأمراض والتشوهات المستعصية. إصدار قوانين تهم حياة المواطنين من عمال وفلاحين وحرفيين والحفاظ على البطاقة التموينية في الوقت الراهن، والابتعاد عن الرهان على اقتصاد السوق والخصخصة الذي لا يحقق العدالة الاجتماعية. الإفادة من تجارب البلدان النامية مثل فنزويلا وأنغولا بما يخدم الاقتصاد العراقي. والدعوة إلى تشجيع القطاع الخاص الوطني للقيام بدور أكبر في التنمية الاجتماعية وتوسيع قاعدتها الإنتاجية وتقليل كلفتها، وتوعية المواطن من خلال وسائل الإعلام. وفي الختام لابد من الإقرار بأن هذا البحث الرصين يسدّ فراغاً في المكتبة الاقتصادية العراقية على وجه التحديد كما يقدِّم قراءة موضوعية لرجالات الحكم في العراق إن هم أرادوا إيجاد بعض الحلول للكثير من المشكلات الاقتصادية التي تضرب أطنابها في هذا البلد. بقي أن نقول أن الدكتور عباس الفياض قد أكمل مراحل التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي في البصرة حتى عام 1969، ثم واصل دراسته في الاتحاد السوفييتي سابقاً ونال درجة الماجستير من المعهد العالي للدراسات الاقتصادية والمالية عن رسالته الموسومة “الثورة العلمية والتكنولوجية والبلدان النامية”. كما حصل على الدكتوراه من الجامعة المفتوحة في الدنمارك عن موضوع “الخصخصة وتأثيرها على الاقتصاد العراقي”، وهو يقيم حالياً في العاصمة الربيطانية لندن.