22 ديسمبر، 2024 9:19 م

الخروج من الشرنقة

الخروج من الشرنقة

نحاول جاهدين في طفولتنا تعلم الكلمات وحفظ الصور ورسم الأحلام على أوراق دفاترنا أو جدران منازلنا وقلوبنا،فننطلق بجموح الخيل في غابات النفس البعيدة،الحبلى بالأحلام كغيومٍ توشك أن تمطر..
قد نضحك ونعانق الكثيرين،ونقارن قصصنا بالآخرين،ونعتقد أننا نضجنا فيما لا يزال أمامنا الكثير مما يجب أن نعرفه وندركه في ذاتنا قبل غيرنا،فنحتاج للعزلة أحياناً كي نرمم ما هدمته السنوات وكلمات البشر ومواقفهم،لندرك أن مفاهيم الحب والصداقة لها وجوه أخرى،وأبعاد واقعية تختلف عن الصور التي اعتدنا عليها أو حلمنا بها،كما أن مفاهيم مثل الإخلاص والخيانة تحتاج إلى مراجعة كونها أكبر من إدراك البعض الذي لا يفهم عمقها كمن لا يدرك من سر البحر سوى ابتلال قدميه على الشاطىء..

فبداخل كلٍ منا قلب يتلهف للدفىء والحب حتى وإن اختبأ خلف قناعٍ من اللامبالاة،وبداخل كل منا توق لكيانٍ نتعرى أمامه من أقنعتنا التي نرتديها لأسباب ٍ مختلفة،لكن النتيجة هي أننا نرتديها..
فالبعض يخاف من الناس،والبعض تألم ويخاف أن يتألم أكثر،والبعض يبحث عن منفعة،والبعض يخشى إساءة فهم شعوره..
حتى أن البعض منا لا يدرك أن الطفل يمثل لكسب المزيد من المحبة،بل وأن الحيوانات أحياناً تتصرف بشكلٍ أكثر رقة لتحظى بعطف واهتمام صاحبها فتغار عليه وتغار من المنافس حتى لو كان إنساناً..

لذلك لا يستطيع الكثيرون فك شيفرات المشاعر،ولا يفهمون أن الإهتمام حب،والإيثار شكل أكبر من الحب،والعناق درجة مختلفة من الحب،والبوح حب،والأنس بوجود شخص ٍ ما وربط مصيرك به هو حب،والضعف والبكاء أمامه دون سواه هو أقوى أدلة الحب،والتغاضي عن عيوبه هو حب،وغفران زلاته هو حب،واستثنائه من قواعدنا هو حب،والتنازل لأجله هو تضحيةٌ منبعها الحب..

وبرغم كل هذا..الحب..
والذي يبدو كبئرٍ عميق لا قرار له،ويبدو كمحيطٍ شاسع،وسماءٍ بعيدة،وكونٍ فسيح..
إلا أن القلب قد ينسحب عندما يتعب من الألم،ويتفتت من الخذلان،ويتلاشى من التجاهل،ويحترق من البرود،وينطفىء من الخيبة..
ليتحول النهر الجاري إلى بركةٍ راكدة،ويصبح البيت العامر مرتعاً للأشباح،وتخبو جذوة الشوق وجنون اللهفة،ويسود الصمت الطويل كصمت مدينة خاوية هجرها أهلها بعد حربٍ طاحنة أتت على الأخضر واليابس،وخسر فيها المحب أغلى ما يملكه وهو قلبه الذي تحول من بسمةٍ إلى سراب..
بعد شعوره بعبثية تضحيته،ووحدته حتى في وجود من أحب ولم يبادله ذلك الحب،فلا يجد حلاً لكل هذه الفوضى الداخلية والدمار العاطفي والإنساني،سوى حزم الحقائب،واغلاق الباب خلفه بهدوءٍ شديد،في مشهدٍ خاص..يرد على إتقان الجحود بإتقان الرحيل وإتقان الصمت مع سبق الإصرار..كما تمت الخيانة أيضاً مع سبق الإصرار..
دون كلماتٍ..دون عتابٍ..دون انتقام،فلا انتقام أكبر من الرحيل المتقن والصمت المعتق وحزم المتاع والضحكات واللمسات والظلال إلى مدينة ٍ أخرى ومكان ٍ آخر ننصب فيه خيمتنا وسط صحراء الروح،ونلملم فيه فرحتنا،ونشيح فيه بوجوهنا عن كل ما آلمنا،وارتسم على ملامحنا وكأنها مساحةٌ لنشر الأحاسيس كما ننشر ملابسنا لتلامسها الشمس..كلما مررنا بذكرىً تعيد الوجع كمن يعيد الفراشة إلى شرنقتها..اعتقاداً منه أن الأمان فيها مع أنها لا تناسب حجمها ولا تتسع لحبها ولا لأجنحتها..