نم! (فقد جاء الطنطل، جاء الغول، جاءت السعلوة)
بهذه الكلمات وأمثالها كانت تخيفني (جدتي) بغية أن أضطجع في فراشي وأن أقلع عن الهرج الذي كنت أحدثه ليلاً، وبهذه الكلمات كانت تخيف جدتي أخي الصغير. وكان بهذه الكلمات وقع شديد في فؤادي بل كانت تقع على رأسي وقوع الصاعقة أو الداهية، فكان يعتريني الذعر والفزع، وكنت أحس بقشعريرة في جسدي وأشعر بأن يدا تريد أن تخطف قلبي من بين أضلعي. وكم ليلة بت فيها ساهراً خائفاً لم أذق فيها طعم الكرى من هول تلك الكلمات وما كانت تتلفظ به جدتي أي (الطنطل أو الغول أو السعلوة) حتى كنت تراني خامداً جامداً كمن إصابته زمانه أو شلل فكنت لا ابدي حراكا وكانت تتمثل أمام عيني أشباح تقذف الرعب في قلبي.
ولئن زارني الكرى في الليل فكنت أخاف غمرات أحلام مزعجة ورؤى هائلة وكنت مع شدة خوفي من هذه الألفاظ ألج لجاجة الطفل، ألح إلحاحا كثيراً على جدتي أن تقص علي نبأ (الطنطل) وحديث (الغول) و (السعلوة) وكانت جدتي من العجائز اللائى لم يرزقن علماً ولم ينلن تهذيباً وكانت أمية تجهل القراءة والكتابة وقد عاشت في وسط جاهل وبيئة خرافية وكانت تعتقد بالجن والطلاسم والأحاجي والسحر على نمط عجائز هذا اليوم.
الطنطل
وقد وصفت لي الطنطل وأنا يومئذ لم ابلغ السابعة أو الثامنة من العمر وقالت: (الطنطل يشبه الرجل إلا أنه عظيم الجثة كبير الرأس وهو اضخم من الجاموس أو الفيل وهو يأوي إلى الخرائب ويقف ليلاً تحت الطيقان وهو جبار يخطف العقول ويصرع الناس صرعة لا نهضة بعدها. وإذا أراد الإنسان أن يتخلص منه اخذ معه مخيطاً (أي مسلة أو إبرة ضخمة) وغرزها في مذاكيره فأنه ينقلب للحال حماراً أو حيواناً آخر يركبه الإنسان).
الغول
وصورت لي (الغول) بصورة رجل يشد على رأسه عقالاً وكوفية ويأخذ معه سلاحاً على الغالب وهو يسكن المغاور والكهوف ويتنقل في البيد بسرعة البرق مفتشاً عن إنسان، حتى إذا صادف واحداً من بني آدم حدثه بأعذب الكلام والطف العبارات وجره إلى مغارته أو كهفه حيث يلاقي حتفه فيكون شواء لذيذاً وطعاماً سائغاً، وقالت عن وجهه: أنه يشبه وجه الكلب ولهذا يسدل عليه برقعاً فيه وصواصان (والوصواص خرق في البرقع بمقدار عين تنظر فيه) أما أرجله فكأرجل الإنسان استقامة إلا أن ظلفين يقومان مقام القدمين. والغول يخاف (المسحاة) فإذا عرفه الرجل وصاح بأعلى صوته (أين المسحاة؟) فّر الغول هرباً ولم يلتفت إلى ورائه.
– السعلوة (السعلاة)
وصورت لي (السعلوة) بصورة امرأة طويلة سوداء ذات شعر كثيف طرطبة أي ذات ثديين عظيمين كل واحد منهما أكبر من الزق بل كالدن الكبير والسعلوة تسكن تحت الماء وهي تحوم حول الأجراف لتخطف رجلاً تتخذه لها بعلاً أما إذا عثرت على امرأة فأنها تمزقها وتأكلها، وقد ذكرت لي أخباراً لتقنعني بوجودها، فقد قالت لي أن إحدى النساء حدثتها عن خروج (السعلوة) في (بروانة) وقد اشتركت في اللطم والنواح على رجل كريم من أهل (بروانة) و (بروانة) بليدة واقعة على الفرات في أنحاء هيت وعانة واّلوس. قالت وقد وقفت (السعلوة) تنوح وتنشد:
تبكي الحديثة وعانة … على القرم ابن بروانة
على الذي عيش (السعلوة) … ومن بعده ما كاناوقالت أيضاً: أن سعلوة جلست ذات يوم على جرف نهر دجلة وجلست على الجرف الآخر سعلوة أخرى فخاطبت الواحدة الأخرى طالبة منها (سفوفا) لابنها:
فقالت لها: (خيي خواتي) – أي يا أختاه.
فأجابتها الأخرى: (عزي وحياتي)
فقالت لها: (عندج علايج للصلايج أمسى يعالج من أفاده) – أي أعندك علاج للصلايج (وهو ابنها) فقد أمسى يقاسي (يعالج) آلاماً أصابت فؤاده.
فقالت لها الأخرى: حالفة بأبنائها الخمسة: لا اثر للعلاج لدي. وهذه عبارتها:
(وحق زيدح. زمديدح. مكة. والحبش. والطير. ما عندي غبارة) أي لا أملك شيئاً ولو بقدر ذرة الغبار.
– خرافات أخرى
اجل: بهذه العجائب كانت تحدثني جدتي. وقد فتحت عيني متتبعاً لبعض العوائد من ذلك أن أهلي كانوا لا يخيطون لي ثوباً يوم الثلاثاء.
ولا يرحلون بي إلى بلد آخر يوم الجمعة.
وكانوا لا يعطون الجار (ملحاً) إذا اجنح العصر أو قارب المساء.
وإذا صرخ بي أستاذي أو ضربني أبي قالوا (اخترع) أي فزع فجاءوا (بالحرمل) واحرقوه بالنار وأداروه على رأسي ثلاثا.
وكانت التمائم والحروز والطلاسم لا تفارق صدري.
وكنت اشتركت مع الرجال والنساء عند قيامهم بتمثيل دور (حمير الشيجي) الذي سأحدثك عنه قريباً.
وبالجملة فقد كنت في الصغر صبياً خرافياً اعتقد بكل ما كانوا حدثوني به بيد أني نشأت وفي نزعة شديدة إلى معرفة هذه الأمور الخفية والأسرار الغامضة.
انقشاع سحب الخرافات عن فكريوالتهذيب ما كان كافياً لإزالة ادرأن الخرافات وأوساخ الأساطير من رأسي.
واعتقد أن دراسة هذه الأساطير من اصعب الأبحاث وأعوصها – هذا إذا أردنا إرجاعها إلى اصلها – لأن العراق قد أمته أقوام عديدة وسكنته قبائل وشعوب كثيرة كالاكديين والشمريين والكلدان والآشوريين والفرس واليهود والإغريق والرومان والفرس والعرب والترك. فقد جاءت هذه الأقوام ومعها عوائدها وأساطيرها وخرافاتها فاختلطت بعضها ببعض والأمم تلقح بعضها بعضا أفكارها وعوائدها، والشعوب تقلد من كان اعظم منها ما يطيب لها. لذلك تراني لا اعتقد بعراقية الأساطير التي دونتها في رسالتي هذه أظن كل الظن أنها بقايا عوائد قديمة لأمم قديمه كأننا يعتقدون بصحتها وصوابها فهي إذن مزيج الخرافات التي جاءت بها الشعوب الفاتحة.
وأكبر برهان على ما أقول ماسمعناه من بلاد الإنكليز عند احتلالهم للعراق وهذه العادة هي أن الإنكليز لا يضرمون ثقاباً (كبريتاً) لثلاث دخينات (سجائر) معتقمن عوائد المنحطين.
أضرب لك مثلاً وهو كراهية الإنكليز للعدد 13 وتشاؤمهم الشديد منه فإذا أموا مأدبة أو جلسوا على مائدة الطعام عدوا الأشخاص فإذا كانوا 13 قام أحدهم على الفور وغادر المحل.
أما سبب نشأة الأساطير فقد يكون بدافع غريزة الخوف والوهم كما يدّعيه بعض المؤرخين أو سببه الجهل وعدم معرفة أسرار الطبيعة أو جهل حقائقها كما يدعيه الآخرون. أما نشأة
الأساطير إلى الخوف المتمكن من الإنسان والجهل وعدم الإلمام بشؤون الطبيعة معاً واعتقد كل الاعتقاد أن الأمم كلما تقدمت تقدماً أدبيا وعلمياً ونال أفرادها تهذيبا صحيحاً انقرضت أساطيرها ورحلت عن بلادها شيئاً فشيئاً لأن سبب الخوف هو جهل الطبيعة فإذا عرف الإنسان أسرارها زال ما كان قائماً على فؤاده من الذعر والوساوس مثال ذلك:
أنني كنت اعتقد وأنا طفل بأن سبب خسوف القمر هو أن (الحوت) يبلعه وكأن إذا حدث خسوف فزع الناس كلهم وأنا منهم سواء كان في بغداد أو في مدن العراق الأخرى ولاسيما النساء والأطفال والعوام الذين لم ينالوا قسطاً وافراً من التهذيب فسهروا ليلتهم وضربوا الطبول وقرعوا الأواني من النحاس وربما واصلوا هذه الحالة حتى طلوع الشمس. ولما درست أسباب كسوف الشمس وخسوف القمر اتضحت لي الحقيقة وزال عني ذلك الوهم وتلك الوساوس. وأصبحت إذا خسف القمر اقهقة ضاحكاً من عقول الآخرين فيفهم من هذا أن جهل الطبيعة هو السبب الأول لنشأة الأساطير.
وصفوة القول أني مقدم بين يديك أيها القارئ ما دونته في ظرف خمس سنوات من الخرافات والعوائد والأساطير بعد الجهد الجهيد والتعب العظيم وأني مستعد في كل وقت أن أحاج من ينكر علي صحة وجودها اليوم في العراق مستدلاً بالوقائع واتياً بالبراهين على ذلك ما قصدت بذلك سوى خدمة التاريخ العراقي وحسبي فخراً.
مقتبسة المعلومات من مجلة لسان العرب الاب انستاس الكرملي العدد 48 سنة 1927