الخراب المركب: قراءة في تمزق الواقع العربي وصراعاته المتشابكة

الخراب المركب: قراءة في تمزق الواقع العربي وصراعاته المتشابكة

في قلب التاريخ العربي المعاصر، تجثم أزمة مركبة تتجاوز حدود الأحداث اليومية إلى أبعاد أعمق في البنية السياسية والاجتماعية والثقافية، أزمة يمكن تسميتها بـ”الخراب المركب”. هذه الظاهرة لا تقتصر على تداعيات الحروب أو الأزمات الاقتصادية فحسب، بل تمثل حالة تآكل بنيوية لعلاقات القوة، وانهزاماً لقيم التعايش، وانهياراً للعقد الاجتماعي الذي يقوم عليه أي مجتمع.

يحتاج فهم الخراب المركب إلى قراءة تعيد إنتاج الواقع من خلال نظرة فلسفية تأملية. الخراب و نستلهم ما قاله المفكر الفرنسي ألبيرتو تورن:إن الانهيار لا يكون فقط مادياً أو سياسياً، بل هو انهيار للمعنى وللروابط التي تجمع بين الناس والدولة والمجتمع.”

هنا الخراب ليس ظاهرة عابرة، بل هو نتاج تراكمات معقدة تجمع بين عوامل داخلية وخارجية، يشكل فيها الاستبداد السياسي المدخل الأهم نحو الانهيار، بوصفه يقوض آليات بناء الدولة الحديثة ويكسر ركيزة المواطنة. كما يشير المفكر اللبناني إلياس خوري إلى أن:الدولة في العالم العربي غالباً ما تكون مجرد غطاء لأجهزة سلطوية متناقضة، فشلت في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.”في هذه الحالة، تصبح الدولة مجرد غطاء لأجهزة سلطوية متناقضة، فشلها في تحقيق العدالة أو تحقيق الحد الأدنى من التنمية الاجتماعية يتحول إلى مهد للانفجارات التي تشهدها الاقطار العربية.  سوريا مثال صارخ حيث تحولت الدولة إلى ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، ما أدى إلى تفكك نسيجها الاجتماعي وإعادة تشكيل هويات متنازعة.سوريا ليست مجرد دولة واحدة، بل هي موقع جغرافي استراتيجي يربط بين قوى إقليمية مثل إيران والكيان الصهيوني  وتركيا والسعودية، وأخرى دولية كروسيا والولايات المتحدة. عند غياب سلطة مركزية قوية، ستتسابق هذه القوى لتكريس نفوذها عبر وكلاء محليين (ميليشيات، جماعات مسلحة، قوى سياسية)، وهذا يؤدي إلى تعقيد الأزمة، وتحول سوريا إلى ساحة حروب بالوكالة، حيث الصراع ليس فقط داخلياً بل تجاذبات جيوسياسية كبرى.سوريا مجتمع متعدد الإثنيات والطوائف (علويون، سنة، كرد، مسيحيون، دروز، وغيرهم). تحت ظل نظام يفرض نوعاً من السيطرة المركزية، كانت هذه الطوائف تعيش ضمن توازن هش ولكنه قائم. عند انهيار النظام، تفقد هذه التوازنات مركز التوازن، مما يؤدي إلى انقسام المجتمعات على أساس طائفي أو عرقي أو مناطقي، وقد تتحول علاقات التعايش إلى صراعات دامية، حيث يحاول كل طرف تأمين وجوده وهويته في ظل الفوضى. مثل  ما يحدث الان في السويداء السورية.

غالبية الأنظمة العربية ظلت غارقة في نمط حكم سلطوي، لا يسمح بتداول السلطة أو بناء مؤسسات قوية وشفافة. هذه الحالة تخلق فصاماً بين الدولة والمجتمع، حيث تتحول مؤسسات الدولة إلى أدوات لقمع المجتمع بدلاً من خدمته، فيصبح المواطن عاجزاً عن استعادة دوره كمشارك فاعل في صناعة القرار، يرى الباحث السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما في دراسته عن الدولة وتحدياتها أن:الدول التي تفشل في بناء مؤسسات فعالة ومستقرة تتجه نحو الانهيار والفوضى، مما يهدد استقرار المجتمع بأكمله.” العراق مثال واضح، فبعد انهيار عام 2003، حل الفوضى محل النظام المركزي، وانتشرت الميليشيات المسلحة المدعومة إيرانياً، والتي مارست أفعالاً أشد قسوة من تنظيم داعشالارهابي . هذه الميليشيات فرضت سيطرتها على أجزاء واسعة من الدولة، وحولت الأمن الوطني إلى مشروع طائفي خارجي. إضافة إلى ذلك، نشطت عصابات الجريمة المنظمة المدعومة من الخارج، مما أضاف طبقة جديدة من الفوضى في النسيج الاجتماعي العراقي .

الواقع العربي لم يعد قابلاً للفهم بمعزل عن تأثيرات القوى الإقليمية والدولية، التي تحولت إلى أطراف فاعلة تحكم مصير الأزمات. التدخلات التي غالباً ما تنطلق تحت شعارات حماية مصالح أو دعم استقرار، تتحول إلى أدوات تعقيد، وتكريس حالات اللااستقرار. في دراسة صادرة عن مركز كارنيغي للسلام الدولي، أشار الباحث توماس هاكس إلى أن:

التدخلات الخارجية في الشرق الأوسط ساهمت في تعميق الصراعات، وتحويل النزاعات المحلية إلى حروب بالوكالة، مما زاد من أمد الأزمات الإنسانية.” في اليمن، الصراع المستمر منذ سنوات بات ساحة لصراع نفوذ بين السعودية وإيران، وتحولت الحرب إلى كارثة إنسانية من صنع البشر، تعكس كيف يمكن للخراب المركب أن يصبح بحجم مأساة متواصلة.

مع تراكم هذه الأزمات، تبدأ القيم الجامعة في التآكل، وتتفكك الهويات الوطنية، مما يفتح الباب أمام صعود النزعات الطائفية والمناطقية التي تهدد وحدة المجتمعات. لبنان يعكس ذلك بشكل واضح، حيث أدى انهيار النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية إلى فقدان ثقة المواطن بالدولة وانتشار الفساد والفوضى التي بلغت ذروتها في انفجار بيروت 2020، كرمز للخراب المركب. يرى المفكر المغربي عبد الله العرويأن:الهويات في العالم العربي تمزقت بفعل تراكم الأزمات السياسية والاجتماعية، ما جعلها عرضة للانقسامات والتشرذم، وهو ما يعيق بناء مشروع وطني جامع.”

مع ذلك، لا يجب أن نغفل عن الإمكانيات الكامنة في الامة العربية، والتي تتجلى في الحركات الاحتجاجية والحركات الوطنية والقومية ، ونضالات المجتمع الحضري، ومحاولات إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة.في كتابه “المجتمع المدني والديمقراطية”، يشدد المفكر المصري عبد المنعم عيد على أن:المجتمع المدني هو القوة الحقيقية التي يمكنها الدفع نحو الإصلاح والبناء الوطني، إذا ما أتيحت له مساحة الحرية والتمكين.”لكي يتحقق هذا، لا بد من:بناء دولة مدنية حقيقية، قائمة على المواطنة والعدالة الاجتماعي، و.تعزيز الديمقراطية كإطار لتداول السلطة وتكريس الحقوق.والعمل على إعادة بناء الهوية على أساس التنوع والتعايش. ومن ثم إنهاء التدخلات الخارجية التي تفاقم الصراعات. بالإضافة الى دعم الاقتصاد والتنمية المستدامة لتحسين ظروف الحياة.

الخراب المركب في الواقع العربي اليوم هو نتاج تراكمات تاريخية معقدة، ليس مجرد نتيجة لحرب أو أزمة، بل هو انهيار أعمق للبنى السياسية والاجتماعية والثقافية. تفكيك هذا الواقع يتطلب رؤية متكاملة تعيد بناء العقد الاجتماعي والدولة الوطنية والهوية الجامعة، في مواجهة قوى الاستبداد والتمزق والتدخل الخارجي.فقط عبر هذه الرؤية النقدية المتعمقة يمكن للمجتمع العربي أن يستعيد قدرته على صناعة مستقبله بيده، ويتحرر من دوامة الخراب المركب التي تتهدد وجوده .

أحدث المقالات

أحدث المقالات