23 مايو، 2024 3:10 ص
Search
Close this search box.

الخبز الحافي .. قراءة لواقع داعر وانسان مهان

Facebook
Twitter
LinkedIn

محمد شكري ( 15 تموز 1935 ـــ 15 تشرين الثاني 2003 ) ابن طنجة المغربية، ولدها الشقي، وصعلوكها الوفي، ومن ثم فهو ضميرها، فهو ضريح احيائها الغامضة، وعوالمها السفلية، من مقاه وحانات. بينه وبينها حبل سري من الذكريات والحنين، اراد ان يفتح عينيه على جدرانها كل صباح، وينام ليلاً على آخر شحوب نور مصابيحها.

روايته (الخبز الحافي) التي اثارت ضجة كبرى، سواء في الوطن العربي او في الغرب، خير معبر عن هذه العوالم. حتى ان الكاتب الامريكي وليام تينسي قال عنها في مقدمة الترجمة الانكليزية، انها كتاب يعتبر (وثيقة عن اليأس الانساني الذي يستأثر بالعقل). وصموئيل بكيت الذي قال (كنت في حاجة الى قراءة الخبز الحافي لأعرف جانباً من الحياة المغربية، كنت اجهله). اما جان جنيه فقد قال (هذا الكتاب لم أكن اتوقعه من محمد شكري).

الخبز الحافي، السيرة الروائية للكاتب المغربي محمد شكري، قطعة مجزوءة من لحم الحياة، ولكنها لا تزال تنبض وتقطر دماً طازجاً دافئاً، بلاغتها صوت وحشي خارج من عمق حيواني لم يسبق لأحد ان جرأ على الحفر تجاهه في كتاباتنا العربية الحديثة والمعاصرة. ان كل ما هو مكتوب يصبح خائباً مخنثاً بجوار ما يجتثه لنا محمد شكري، بجوار ما يجتزه لنا من حياة الفقراء من قاع المدينة.

ماذا نتوقع ان يكون كلام او كتابة محمد شكري، وهو نشأ في واقع مر، فظ، متوحش؟

كلامه، لا بد ان يكون مراً فظاً متوحشاً، خطابه لابد ان يكون من طبيعة ما حوله وماضيه. فخطابه ابن طبيعي مولود من رحم الفظاعة والغابة التي عاشها.

لغة الخبز الحافي، لغة لا تعرف الترف او الطرافة، لغة تخترق ارواحنا من فورها دون استئذان من العقل او الفكر. لغة يتحدث بها اقليم بعيد عن اغلب مثقفينا، اقليم الوحوش الانسانية، ساكنة القاع، لغة فظة، غليظة، قوتها البيهيمية مستمدة مباشرة من شروط الحياة العادية حينما لايكون بينها وبين الفناء والموت الا خطوة واحدة، واحدة فقط.

الخبز الحافي ، تروي ببساطة الاحداث التي يمر بها واحد من الاف بل مئات الالاف من الفقراء الصعاليك المنتشرين في ربوع مدننا العربية، حواري مدننا الفقيرة الجائعة منذ سنوات، تفتح مراهقة محمد شكري حتى بلوغه.

باختصار، محمد شكري يحكي لنا حكايته هو، ومن هنا العنوان الفرعي الذي يضعه لعنوان كتابه الرئيس (الخبز الحافي) – (سيرة ذاتية روائية 1932- 1956).

فهو يحكي حكايته هذه بمباشرة وقوة وفتوة، يحكيها بلا محسنات او تبريرات. ومن هنا فتنتها وسحرها، وقبل ذلك، قدرتها العظيمة على الادهاش الذي قد يسبب صدمة عند الكثيرين، فنحن قد تعودنا على الفصل بين اللغتين، اللغة الشفوية واللغة المكتوبة.

فهاتان اللغتان تنفصلان من حيث الاستخدام انفصالاً حاداً، ويصل هذا الانفصال الى حد ما يكون عندما يتعلق الامر بالمحرمات. فاللغة المكتوبة شريفة مقدسة لا يجوز لها تناول المحرمات، خاصة الجنسية، بينما اللغة الشفوية لغة سافلة منخطة يمكن لها ان تقنع بالمنحط من الكلام، وبغض النظر عن الاسباب التاريخية والاجتماعية والسياسية لهذه الازدواجية، فازدواجية اللغة عندنا ليست الا انعكاساً لازدواجية حياتنا ككل.

هكذا، عندما يبدأ محمد شكري في كتابة ما لا يجوز الا قوله شفوياً، فانه بهذا يتخطى بشجاعة وجسارة هوة شديدة الاتساع والعمق. عند شكري، تلتقي اللغة الشفوية مع اللغة المكتوبة وتصبح اللغتان لغة واحدة، ولعلنا نعثر هنا على مفتاح هام من مفاتيح حل مشاكلنا المستعصية مع التقدم والحضارة..

فهنا تنعدم الازدواجية ونبدأ في النظر الى امورنا بمنظار واحد ونبدأ في التفكير بمقياس واحد، وربما يكون هذا بالضبط هو اعظم ما قدمه شكري في هذا العمل، المصالحة بين الشفوي والمكتوب، بين الثقافة واللا ثقافة او بتعبير آخر الغاء ازدواجيتهما.

من هنا هذا الشعور القوي الذي ينتاب قارئ هذا العمل، فيتساءل: هل تصبح هذه الرواية/ السيرة في يوم من الايام، واحدة من العلاقات الفارقة سواء لبداية تقدمنا وازدهارها العربيين المرتقبين، او لتقدمنا وازدهارنا العربيين ايضاً ولكن المجهضين؟

كل هذا يفسر بشكل ما هذا الشعور الغريب، الشعور بالدهشة بدهشة من يقرأ لاول مرة، فهنا تصبح الكتابة فجأة وسطاً مختلفاً عما ألفناه من شكل الكتابة، فلم يسبق لعيوننا القارئة ان قرأت صوراً، ومشاعر واحداثاً بهذه الحروف، فجأة نشعر كما لو اننا نتعلم القراءة لاول مرة. وثمة شعور جارف بالحرية يملؤنا، ان محمد شكري يعلمنا لغة جديدة، وهو الذي تعلم القراءة والكتابة مع سن العشرين.

قارئ هذا العمل سيكتشف مع تقدمه في قراءته حتى نهايته، ان (محمد) شكري لم يتخذ قرار تعلم القراءة والكتابة الا كنوع من التحدي او الاستجابة لتفوق وامتياز اللغة المكتوبة ممثلة في المثقف (حميد)، والعلاقة بين محمد وحميد علاقة معقدة، فهي علاقة اعجاب واحتقار معاً، شعور بالتفوق والدونية معاً، بالقوة والضعف معاً، وقد انعكس هذا كله ليس فيما يكتبه محمد عن حميد، بل فيما هو اكثر واعمق من ذلك بكثير في استخدام شكري لفعل الكتابة نفسه.

وهذا بالضبط هو ما اعطى كتابه (روايته) شخصيته المتفردة. ان كتاب الخبز الحافي هو الخط الفاصل بين شكري الشفوي الأمي، وشكري المثقف/ الكتاب الذي كتب عدة كتب فيما بعد، قصص ورواية ومسرحية، بل وايضاً الجزء الثاني من رواية سيرته الذاتية هذه تحت عنوان (الشطار) الذي يشي بالكثير من الوعي الذاتي غير الواضح في الجزء الاول.

يقودنا شكري، اذن، عبر عالمه السفلي هذا، عبر ازقته وحوارية، عبر دخان مخدراته وزجاجات خمره، عبر داعراته وشاذيته، عبر قسوته ووحشيته، وظلامه، وايضا عبر لحظاته البهيجة النادرة.

يحكي لنا شكري ويحكي عن انانية ابيه وفظاظته حتى القتل (قتل ابناً له في نوبة غضب). يحكي عن اللصوص والمقامرين والمهربين، يحكي عن الجوع، الجوع للمرأة، الجوع للطعام، الجوع للأمن، كل ذلك كما سبقت الاشارة بلغة مباشرة طازجة لم تعرف الالتواء والذكاء المصطنع بعد.

وللوهلة الاولى تبدو تقنية الرواية بسيطة، فالزمن بسيط متحرك دائماً الى الامام، وان كان ايضاً بنعومة، وبدون تخشب او بدون خوف من عبور السنين.

وبالرغم من الانطباع الاول الذي تتركه علينا القراءة الاولى لهذه الرواية/ السيرة الذاتية، فنظن ان عظمة هذا العمل تنبع مما تقوله لنا بأكثر من كيفية ما تقوله… فأننا سرعان ما نتحقق بعد ذلك من القوة والخيال الرائع اللذين يتمتع بهما (الشكل) ايضاً، سواء من حيث الصور الفريدة التي يستخدمها في التعبير او من حيث الشكل لهذا العمل، فنحن نكتشف مع التأمل ان شكري لا يروي سيرته الذاتية فحسب وانما هو يلخص في الوقت نفسه تاريخ الانسانية ذاتها منذ مراحلها البدائية الاولى ونمو وعيها شيئاً فشيئاً حتى وصولها الى بداية مدارج الحضارة والمدنية، وهذا لا يعني بأي شكل من الاشكال ان المحطة التي يصل اليها افضل من المحطة التي بدأ منها انما الأمر كله لا يتعدى تقرير ما حدث وما يحدث.

محمد شكري، ظاهرة متفردة بين كتّاب الادب العربي المعاصر، تفرد بتجربة حياته التي كان لها اكبر الأثر في طريقة تعبيره عنها. انه كان لا يتعمد ان يقص بطريقة معينة لكنه يحاول ان ينقل لقارئيه الخبرات التي وشمت جسده وروحه ولعله من قاع ما يبدو انه لا اخلاقي يضع أسس اخلاقية مغايرة.

انه عرى ذاته وابطال اسفل المجتمع ليكشف التشوه الذي اصابهم ويصيبهم نتيجة قهر الروح واستغلال الجسد، وثمة توحد بين الكاتب وابطاله من جانب وبينهم وبين مدينتهم العاهرة التي تشملهم وتحدد طرائق سلوكهم واستجاباتهم من الجانب الاخر.

البعض من النقاد نعت محمد شكري بالكاتب الجريء، وآخرون بالمستفز الوقح، قد تنطبق عليه كل النعوت، وهذا راجع الى نوعية الفئات التي تناولها في كتاباته، فمعروف من خلال قصصه القصيرة التي ظهرت في اواسط الستينات، انها كانت تتناول اشخاصاً منقطعي الجذور في مجتمعهم، منبوذين، لصوصاً، داعرين ومهربين… فشخوص الخبز الحافي، يعيشون مواقف لا اخلاقية فرضت عليهم بسبب انتمائهم لطبقة مهمشة، وهم لذلك يحاولون ان يشيدوا عالماً اخلاقياً يعيد اليهم الاعتبار في حياتهم الشقية، المليئة بالرزايا واللاكرامة..

ويلاحظ في معظم كتاباته، انه ركز على الاطفال المغاربة الذين لم يحيوا طفولة سوية ولم يستفِ نفسه منهم، فهؤلاء تبدأ رجولتهم في سنهم الغضة وهم يجتازون السابعة او الثامنة من عمرهم، وفي مثل هذه السن يصبحون مسؤولين في اسرهم، اي انهم مطالبون بالاسهام في تكاليف الاسرة، وألا يضطرون من طرف ذويهم،

ومن ثمة فان طبيعة المواضيع التي تناولها، اقتضت منه هذه الجرأة، وهذه الوقاحة اللتين نعت بهما من طرف الذين لم يتعودوا بعد في وطننا العربي على قراءة هذا النوع من الكتابة.

اتهم محمد شكري بالاباحية وخدش الاخلاق واستغلال القول – كل ما هو ممنوع مرغوب – لانه سمي الاشياء باسمائها، لانه على حد قوله في احد حواراته “اذا اكتب قصة فانه لا ينبغي ان تكتب بالمصطلحات الطبية. وانا عوضاً ان اقول في القصة العضو التناسلي للرجل والمرأة، اقول الكلمات المتداولة بين افراد المجتمع والموجودة في القواميس. اذن، فلماذا اقول العضو التناسلي، فهذه الكلمة من اختصاص الطبيب وليس من اختصاص الاديب. ثم ان هذا ليس بالاسلوب الادبي. اننا لا نخجل من ان نرى طبيباً يفحص جسداً عارياً ولكننا لا نسمح لكاتب ان يصف جسداً جميلاً عارياً. اذن، هذا تناقض، هناك بعض السخفاء يفهمون معنى الادب المكشوف فهماً مغلوطاً جداً. فانا في كتاباتي عندما اتحدث عن الجنس لا اتحدث عن الجنس المثير كاغراء، ان الجنس الذي اوظفه انا في كتاباتي هو جنس بائس، وكما قلت دائماً انه جنس لا يساعد الرجل العملي على ان يمتعض ولا يساعد المرأة المصابة بالبرود الجنسي على ان تتهيج، فتوظيف الجنس هنا ليس توظيفاً بيولوجياً بقدر ما هو تحليل لبنية اجتماعية.

طبعاً هناك بعض التوظيفات الجمالية. مثلاً عندما اصف امرأة فان غرضي ليس هو جمالها بقدر ما هو اعطاء صورة عن تلك المرأة والمصائب التي حدثت لها وتحدث ايضاً للكثيرات من بطلاتي. ايضاً، في كتاباتي لا اوظف حالة شخص واحد بل اوظف حالات في شخص واحد، فاذا كنت سأكتب عن لص فلابد ان اجمع واكثف فيه ألف تجربة من اللصوصية… وانا لا اتعامل مع الكتابة، كتصوير لحالة واحدة بل كل ما تجمع وتراكم عندي من تجارب حول الدعارة مثلاً او غير ذلك”.

في واقعنا العربي، هناك عدة مستويات من القراء، ولا شك ان الخبز الحافي موجه الى فئة معينة تحاول مثل كاتبها التخلص من رواسب الكبت والنفاق الاجتماعي والاسري. ونحن نعرف ان هناك آلافاً من الكتب الاجنبية ترجمت الى العربية… وفيها كثير من التحرر الاخلاقي، قد لاقت اقبالاً من قراء العربية. الفارق اننا نحن العرب ما زالت تسيطر علينا ازدواجية في التفكير والسلوك. فنحن نقبل كل ما يأتينا من الغرب على علاته الا اخلاقية، ونعارض كل ما هو انتاج عربي متميز.

ان ما سبق كله، لا يعدو مجرد انطباعات سريعة لا يعنيها سوى التعبير عن الاعجاب والتقدير الشديدين لهذا العمل الفذ.

* المراجع التي استعنا بها اعتمدناها للمراجعة والتوكيد والاسقراء عما ورد في الدراسة

1- جريدة العرب (لندن)، 9/7/ 1987.

2- مجلة الافق (قبرص)، العدد 229، شباط/ 1989.

3- مجلة الدستور (لندن)، العدد 340، 1984.

4- مجلة المنبر (باريس)، العدد 31 (ايار/ 1989).

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب